الاختطاف ومحنة الانثروبولوجي
سيرين أحمد - 2011-05-29 - 10:13 ص
سيرين أحمد
"أقرب صورة أو مجاز لتمثيل ما حدث هو أنه تم اختطاف قطار، ووضعه على سكة، لينتهي هذا القطار بارتطام شديد يصل إلى محطة ما. الذي تم اختطافه وجعله رهينة هم البحارنة والعجم لسبب انتمائهم الديني والمذهبي، جعل منهم رهينة ووضعوا كعربات على هذا القضبان الذي أدى إلى الارتطام".
الباحث الانثروبولوجي الدكتور عبدالله يتيم.
***
أستطيع أن أفهم بسهولة، التداول المفرط إعلامياً وسياسياً، لكلمة (الاختطاف). الاستهلاك الذي يكرره خطاب السلطة وممثليها بشكل ساذج وممجوج، كلما كان الموضوع هو المعارضة أو من ينتمون إلى المكون الآخر في المجتمع. الاختطاف فعل يُسقط سريعاً أي شيء ترغب في ضربه. لهذا يكفي أن تقول: المعارضة مختطَفة، الشارع الشيعي مختطَف، جمعية وعد مختطَفة، دوار اللؤلؤة مختطف، مستشفى السلمانية مختطف، وزارة (....) مختطفة، هيئة تنظيم سوق العمل مختطفة، وغيرها. الفاعل الذي يقوم بفعل الخطف هنا، سيكون مُختَطَف بدوره من قبل جهة في الخارج، وهي إيران، قبل أن تدخل معها أمريكا مؤخراً.
أستطيع أن أستوعب أيضاً، أن يشترك في هذا الاستهلاك الناس البسطاء السطحيين. فالبسطاء يميلون عادة أن يريحوا أذهانهم من الفهم المعقد والملتبس. يختزلون الآخر أو المختلف في تعابير مستهلكة ذات صبغة حكمية غالباً. هذه التعابير تسهل عليهم تفسير أي إشكال يتعلق بالآخر وتريحهم من عناء التفكير المزعج بالنسبة لأذهانهم.
لكن ما لا أستطيع أن أفهمه، أن يشترك في هذا الاستهلاك باحث أو مفكر أو مثقف. فكل واحد من هؤلاء وظيفته اسقاط الاستهلاكات التي صارت جزءاً من الخطابات العامة، وكشف تبسيطاتها وتجزىئاتها المخلة، وإظهار هشاشة تعميماتها التي تمتلئ الخطابات العامة. هذه التعميمات التي تُعمي عن فهم الآخر. وباختصار، الباحث والمفكر والمثقف وظيفته تقديم رؤية تنبثق من قراءة مغايرة للسائد، لا منطلقة منه ومنتهية إليه.
***ّ*
الدكتور عبدالله يتيم، نجده يتخلّي كل المقدمات المعرفية التي تسبق اسمه: الباحث والأكاديمي والانثروبولوجي والمثقف، ويرتضي لنفسه، أن يشترك في الخطاب السطحي والمجتزئ والتبسيطي، في قراءته للحدث البحريني، وذلك في دراسته التي نشرتها صحيفة الأيام تحت عنوان "محنة فبراير" (١). ثم تناولها في حوار مع سون الشاعر في برنامجها "كلمة أخيرة"، والتي اقتطعنا منه النص أعلاه (٢).
في دراسته الانثروبولوجية كما قدم لها، تناول مسببات ونتائج ما أسماه (محنة فبراير)، يرى أن أكثر الأسباب سطوعاً هي المتعلقة بإشكالية تطبيقات/ممارسة المواطنة الحقة وعلاقتها بالهوية والانتماء. حدّد يتيم هويات وانتماءات ثلاث مكونات أساسية في المجتمع البحريني: «العرب السنة»، و«البحارنة»، و«العجم». ففي حين يرى أن العرب السنّة منسجمون داخلياً، ومنصهرون في الهوية الخليجية والعربية، ويعتقدون بالفتح العربي لآل خليفة الذي أعاد تكريس الهوية العربية وأنهى كل أشكال الهيمنة الفارسية عليها. فإن البحارنة والعجم مختطفون منذ الثورة الاسلامية الايرانية، وقد تم استلابهم من قبل نظام الملالي القائم على ولاية الفقيه في إيران. ونتيجة لزجهم في هذا الاختطاف، تورط هؤلاء في "مسلسل إنهاك الدولة تدريجيا حتى يدب فيها الوهن ويستشري الفساد في مؤسساتها، وبالتالي يسهل الانقضاض عليها في مرحلة لاحقة، تطبيقاً لمشروعات مشابهة في مجتمعات عربية أخرى".
الاختطاف هو الفعل الوحيد الذي يفهم من خلاله الدكتور يتيم هوية هذين المكونين ويراهما من خلاله: الهوية العربية للشيعة العرب تم (اختطافها) لصالح الهوية المذهبية. الانتماء العربي للشيعة العرب (اختطف) لهوية أخرى غير عربية. النخبة الدينية القائدة للمكون الشيعي العربي (اختطفت) ضمن مشروع إيران لتصدير الثورة الاسلامية وإحياء الصفوية ونظام ولاية الفقيه. المواطنة (اختطفت) لصالح مشروع الانتماء المذهبي العابر للأوطان حيث يقيم الولي الفقيه. المدرسة الاخبارية (اختطفت) لصالح المدرسة الأصولية. النخبة الحضرية (اختطفت) لصالح العمائم الريفية. مأتم العجم الكبير (اختطف) من قبل هادي المدرسي قبل استعادته لاحقاً. الشارع السياسي الشيعي والعوام (تم اختطافهم) والزج بهم في مشروعات متتالية من المواجهة مع الدولة من جهة ومع بقية المكونات الاجتماعية من جهة ثانية.
هكذا ببساطة، يختزل الباحث الانثروبولجي التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية لمكون واسع من مكونات المجتمع (الشيعة من البحارنة والعجم). سلسلة من عمليات الاختطاف والزج. دون أن يضيف مغايراً للخطاب الرسمي المستهلك والعام، ودون أن يقدم ما يجعلنا نعيد فهم تشكيل هذا المكون، ودون أن يقدم قراءة لتحولاته في ظل علاقاته وصراعاته مع السلطة السياسية، ودون أن يتعرض للتاريخ السياسي المعقد بين نظام الحكم وبين هذا المكون. ببساطة، اختار الدكتور يتيم أن يتماهى مع الخطاب الرسمي، وأن يكرر اتهاماته وتعابيره. وهو تماهي يريح ذهن الباحث من البحث عن أسباب وتفاسير أخرى قد تزعج إنسجامه وانصهاره مع السلطة، باعتباره ينتمي إلى المكون الأول (العرب السنة) الذين عبر عنهم بأنهم يعتقدون بفعل الفتح الخليفي كهوية لهم، في حين يختلف المكون الثاني مع فعل الفتح لأسباب تاريخية دموية، وهو تاريخ لا يريد أن يقف عنده الباحث الانثروبلوجي.
لهذا حين يأتي يتيم لتفسير ما أسماه بمحنة فبراير، سوف لن يقف عند قراءة الاسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي فجرت هذا الحدث، ولن يقرأه في سياق الثورات العربية، بل سيغيّب الأسباب الواقعية التي لها مقدمات طويلة من الحراك الشعبي والمطالبات التي طرحت نفسها طوال السنوات العشر الماضية، سيُهمل هذا كله، وسيتهم هذا المكون بأنه عربات مختطفة في (قطار منفلت أعمى).
****
السؤال الخطير الذي يطرح نفسه هنا، كيف يتخلى الباحث الانثروبولوجي عن عدته المفاهيمية ويرتكن إلى الخطاب الرسمي والسائد والعام والمستهل؟ وكيف يتخلى عن الانثروبولوجيا التأويلية التي كان يبشر بها لفهم تعددية المجتمع البحريني؟ كيف نسي فجأة كتاب «تأويل الثقافات»، للباحث الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز (1926 - 2006)؟كيف نسي أن الدرس الأخلاقي والمعرفي الذي علمتنا إياه الانثروبولوجيا هو الإنصات إلى تأويلات الثقافات المختلفة للعالم، لا إدانتها والانخراط في حسابات سياسية ضد بعضها؟ كيف نسي علماء ثقافة الإنسان الذين كان يبشر بهم؟ هل نسي تجربة الأنثروبولوجية الدنماركية هني هارلد هانسن(1900-1993م) وكتابها "المرأة في قرية سار البحرينية"؟ هل تحدثت هانسن عن اختطاف المرأة البحرينية في قرية سار من قبل التيارات المحافظة في الستينيات مثلا؟
يبدو أن الباحث الانثروبولوجي الدكتور يتيم وقع في (محنة تخلي)، فيما هو يحاول تفسير (محنة فبراير). تخلى عن هويته الانثروبولوجية المفتوحة على العلم والإنسان وثقافاته، لصالح هويته الاجتماعية والمذهبية المتصالحة مع النظام السياسي فقط.
من اختطف من؟ هل كان دكتور يتيم مختطفاً من قبل إعلام يضيق بالإنسان حراً؟
هوامش:
١- لقراءة الدراسة كاملة: http://bashaaralhadi.blogspot.com/2011/05/blog-post.html
٢- لمشاهدة البرنامج: http://www.youtube.com/watch?v=6kw_dsSlquY