» رأي
البحرين: الطقس الحواري ومحاولات إعادة تأهيل شرعية الملك حمد
عباس بوصفوان - 2013-04-21 - 6:14 ص
عباس بوصفوان*
لا يمكن القول الآن إلّا إن حوار "العرين" (المنتجع الفخم الواقع في جنوب البحرين الذي يجري فيه الحوار بين السلطة والمعارضة)، لا يعكس إلا صورة خاطئة عن النظام الحاكم في المنامة، وعن "الاختلاف" - لا الثورة أو الانتفاضة - في البحرين، وعن "التباين" في الرأي ليس إلّا، بين الفرقاء في البلد الصغير المتحاب، الذي مرّ بسحابة صيف، ستنقشع قريبا، بفضل القيادة الحكيمة لجلالة الملك حمد (هل يذكر ذلك بخطاب ما قبل ربيع البحرين الذي انطلق في 14 فبراير 2011).
ويتطلع المعارضون أكثر من الموالين (كما يظهر من التصريحات العلنية الوفيرة) أن يتدخل ملك البحرين، الذي تنادي قطاعات شعبية عريضة برحيله، لحلحلة بعض المصاعب التي يمر به الحوار، أو على الأقل، أن يتكرّم الملك (هل يذكر ذلك بالمكرُمات الملكيّة) ويحدد مُمثلا له في هذا الحوار الذي يصوّر على أنه منقذ للبحرين وأهلها مما تمر به من أزمة عميقة! وأكثر من ذلك يتطلع المعارضون أن يُشرّف الملك حمد جلسات الحوار ويترأسها بنفسه، كما فعل رئيسا اليمن عبدربه منصور هادي، ومصر محمد مرسي، اللذين ترأسا الحوار في بلديهما، ولكأن المعارضة البحرينية نسيت، أو أرادت أن تنسى، أن هادي ومرسي رئيسان أنتجتهما ثورتا البلدين.
قبل أن أفصّل في ذلك، لا بد ألّا يفوتني التعليق على كون هذا الحوار، الذي انطلق في فبراير 2013، تزامن مع الذكرى الثانية لثورة البحرين، يتم على قدر من العلنية المثيرة والمدهشة والمذهلة في آن. إنه يكاد يتم أمام شاشات التلفزيون، وعلى الهواء مباشرة، وكأنك أمام حلقات متتالية من إحدى برامج تلفزيون الواقع، الذي يُفصل كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك لباس المشاركين ونوع سياراتهم، دون أن يهمل "القضايا الكبرى" في هذا الحوار الذي يبدو ممسرحا.
وإذ يجري هذا "الطقس" الحواري العلني في دولة دكتاتورية بامتياز، فمؤكد أن أهدافه يستحيل أن تمت بصلة بالانتقال نحو الديمقراطية، كما توهم نفسها بعض الأطراف المحلية المعارضة.
أن يكون الحوار غير شفاف، فذلك أدعى أن يكون فرصة لحوار في بلد دكتاتوري! أما على النحو الإشهاري السائر حاليا، فهو ليس إلا جزءا من حملة أشمل للعلاقات العامة التي تكلف الخزانة العامة ملايين الدولارات في أميركا والغرب والدول العربية.
وبهذه الطريقة، فإن هذا الحوار ليس إلا استعراضا كاريكاتوريا لسلطة تدّعي أنها تحتفي بمعارضتها، ولذا يجتهد وزير العدل خالد بن علي آل خليفة في خلق الإشكالات الاستعراضية، وابتكار المقاطع والمشاهد التمثيلية المدرّة للإثارة، حتى وأن استدعى ذلك منه استخدام تعبيرات نابية، مثل "استح على وجهك"، كما قالها معاليه لأحد ممثلي المعارضة على طاولة الحوار، مع أن الوضع لا يستدعي ذلك – منطقيا - بيد أن مسرح الحوار يتطلب بعض المبالغة، التي بدت صفقة وغير مهذبة، بيد أن جمهور المسرح مهيأ، عادة، للاستماع إلى ما هو غير مألوف!
الإشكال أن الجمعيات المعارضة تمارس دور البطولة في هذا الحوار، معتقدة أنها أكثر براعة من النظام، وإنها تبغي "إحراجه"!!، مع أن الحوار، وحتى وهو فارغ وسخيف، يجادل على الأقل، أن سلطة آل خليفة ليست دكتاتورية ودموية، أو على الأقل ليس بقدر الأنظمة التي أسقطتها ثورات الربيع العربي، وبالتالي لا تستحق هذه السلطة (آل خليفة) أن يتم إسقاطها، بل التحاور معها بغية إصلاحها!
ولنتذكر كيف كان تلفزيون البحرين قبل أشهر خلت: لقد وُثق رسميا بأنه اشتغل كترس ضمن أجهزة المخابرات التي أدارت فترة قانون الطوارئ المستمرة، في التحريض على العنف والتأجيج الطائفي، كما قال بسيوني، وأضيف أنه أيضا ترس ضمن هذه الأجهزة التي تدير الحوار حاليا.
لكن في الحالة الأولى، استُثمر التلفزيون كأداة للعنف الرسمي العاري، وفي الحالة الثانية، كأداة لنفي كون الحوار الجاري عنفا سياسيا، مع أنه يحمل في طياته كل ملامح العنف، حين يجبر الخصوم على النزول على طاولة حدد معالمها طرف واحد.
سياسيا، السلطة والمعارضة تقولان أن الأخذ والعطاء والاختلاف أمر معتاد في الحوارات الجادة. الاختلاف، هو أن السلطة ترى أن بنية الحوار مؤهلة للانتقال إلى مناقشة جوهر المطالب، فيما المعارضة تعتقد أن هذه البنية غير مؤهلة لذلك، ومازال أمامنا الكثير مما يتوجب إنجازه عن آليات الحوار كي ندخل في صلب المطالب الشعبية! نعم هكذا تبدو الصورة من تصريحات "المتحاورين"، ولعل وهم المعارضة يمضي مفاخرا بأنهم أبهروا السلطة بأدائهم!!.
ومع ذلك، فإن أي "تنازل" رسمي لا يغير من أن الطاولة ستظل تحت سيطرة السلطة، وأن قدرة النظام كبيرة جدا على تقديم تنازل ما في الآليات مادامت المعارضة قبلت بالصيغة الأصلية المختلة للحوار.. ودعني أشبه طاولة الحوار التي تحتكرها وتديرها السلطة بأنها دستور 2002 الذي أحال الملك حمد حاكما دكتاتوريا، إذ مهما تخلت السلطة عن مكاسبها الضخمة فيهما (الطاولة = الدستور)، لا يغير ذلك من كونها (السلطة) ستظل سيدة الملعب.
أما بالنسبة للراعي الغربي، فمادام النظام الحاكم قادر على احتواء المعارضة واللعب معها أو التلاعب بها فهذا مبعث ارتياح، وإذا تمكنت السلطة من إقناع المعارضة بأنها هي التي تتلاعب بالنظام فذلك أكثر مما يحلم به الغرب، الذي لا يريد في هذه اللحظات فتح جروح أكثر في شرق أوسط هش وموجوع.
والآن، لماذا تشترك المعارضة في هذا الحوار المثير للجدل، هل من تفسير واضح، لذلك؟
إذا أضفنا حقيقة إرضاء الغرب، وهو هدف استراتيجي للمعارضة، يكبلها بقدر ـ بل لعله أكثر ـ مما يقدمها للعالم، وهو هدف يمكن تسويقه أحيانا، إضافة إلى هدف إحراج السلطة الذي بات مقولة ممجوجة بسبب فرط اللجوء إليه.. إضافة إلى ذلك، يمكن أن أقدم تفسيرين لدخول المعارضة متاهة مكشوفة:
التفسير الأول، أن هذا الحوار مطلوب فيه أن تقدم المعارضة اعتذارا واضحا وعلنيا لأي شعارات رفعت خلال التظاهرات، واعتبرت مسيئة إلى العائلة الحاكمة، من دون أن يسمى ذلك اعتذارا، بالضرورة، ومثل هذا الاعتذار طلب في اليوم التالي لإعلان حالة الطوارئ في البلاد (مارس – مايو 2011).
كما أنه يفترض أن تقدم المعارضة الصيغ الواضحة على شرعية حكم عائلة آل خليفة، ومساندتها الملك حمد الذي يواجه محنة كبرى بسبب اتهامه بزج البحرين في العنف الدامي.
وبالنسبة للسلطة، فإنها قد تجد في تصاعد الجدل حول تمثيل الحكم على طاولة الحوار. وفي إصرار المعارضة على وجود الملك حمد على الطاولة تأكيدا على شرعيته الدستورية، والسياسية هذه المرة عبر قبول المعارضة له ملكا قادرا على إخراج الحوار من المأزق الذي دخلته البحرين إثر إصدار الملك دستور 2002 من طرف واحد، والسياسات البندرية (نسبة إلى تقرير البندر) الإقصائية الذي تبناها الملك حمد نفسه، إضافة إلى مفردات الحل الأمني في قمع انتفاضة 14 فبراير، التي وثق بعض معالمها تقرير بسيوني.
إن ذلك يبدو مهما لشخص الملك الذي نودي بسقوطه على رؤوس الأشهاد، وليس أحسن من المعارضة من يقوم بإعادة الاعتبار للملك. وبالمناسبة، فإنه يبدو ملفتا أن لا تجد في تصريحات المعارضة على هامش الحوار، شعار "تنحى يا خليفة" (رئيس الوزراء الموجود في منصبه منذ 1971)،، وطبعا لن تجد شعار "يسقط حمد" (الذي يفضله ائتلاف 14 فبراير الشبابي)، والذي تراه الجمعيات المعارضة شعارا تصعيديا.
إن هذا المسار الاعتذاري شرط كي تدرس السلطة إمكان النظر في بعض تطلعات الشعب! التي باتت الجمعيات المعارضة تمحورها أحيانا حول إزاحة وزير العدل عن طاولة الحوار، بسبب عنفه وفرضه إيقاعه على المتحاورين، لا بسبب كونه من الوزراء الذين تلطخت أيديهم بالدماء وهدم المساجد، كما كتب تقرير بسيوني، الذي اعتبر الجهاز القضائي جزءا من ماكينة العنف في البحرين.
التفسير الثاني، أن الحوار الحالي ليس إلا استعراضا مسرحيا، لا يخلو من خفة، فيما النسخة الأصلية للحوار يفترض أنها تتم أو ستتم في السر. ومجددا على الطريقة الفلسطينية الاسرائيلية التي تم توصل فيها إلى تسوية أسلو في حوار سري، بينما كان الحوار العلني يُعقد بصورة كاريكاتورية أيضا.
لكن لنتذكر، أن الفلسطينيين "المعتدلين" توقفوا منذ سنوات عن مواصلة فكرة الحوار من أجل الحوار، كما يفعل الآن معارضو البحرين "المعتدلين"، لكن بعد ماذا؟ بعد أن تم القضاء على القضية الفلسطينية كمسألة احتلال.
ولعلي أكرر هنا ما قلته من حاجة المعارضة في البحرين إلى التفاوض مع النظام الخليفي على طريقة المفاوض السوري مع الإسرائيلي، الذي كان يشترط التوافق على الهدف (الانسحاب من الجولان) ثم يتفاوض في آليات ذلك، وليس النمط العرفاتي (نسبة إلى الزعيم الفلسطيني التاريخي الراحل ياسر عرفات) في التفاوض من أجل التفاوض. ولنتذكر أن سوريا لم تُضع (الجولان) رسميا، وبينما أحال العالم مقولة الأرض مقابل السلام إلى متحف الذكريات.
وسأضيف هنا مقترحا جديدا: أن ترسل جمعيات المعارضة البحرينية وفدا للدكتور محمد البرادعي، القائد المصري المرموق، الذي استخدم مهاراته التفاوضية وأعجز نظام مبارك، ولعله قادر على إرباك نظام الإخوان، لعل المعارضة البحرينية تتواضع هذه المرة، وهي في حضرته (عمره 70 عاما)، وتقتنع أن ما تقوم به من حوار بات مؤذيا لها ولجمهورها وأهدافها، إلا إذا صح ما يقال بأن المعارضة تريد فعلا إتمام عملية الدوران للخلف U TURN، وصولا إلى خطابها قبيل 14 فبراير 2011.
الأنظمة الدكتاتورية لا تسقطها ولا تخلخلها المظاهرات التقليدية، ولا المباحثات الاستعراضية، ولا الانتخابات المعروفة نتائجها مسبقا، وإن راكم ذلك بعض مما يؤدي للسخط، بيد أن اللحظة الثورية في البحرين، وهي إذ تواجه مفترق طرق، فإن النمط التفاوضي الحالي للمعارضة يصيبها في مقتل، وإذا انتفى الفعل الجماهيري فإنه حتى الطاولة الاستعراضية سيتم إلغاؤها.
لقد فشلت اليد الغليظة في إجهاض الحراك الثوري، ولعل السياسة أقدر في ذلك، كما تفيد تجارب الأمم. كما أن المفاوضات على طريقة البرادعي وإن لم تستطع إزاحة مبارك أو مرسي فإنها لا تمنحه الشرعية ولا النَفس/ الوقت/ الفرصة/ المؤهلات/ الصدقية للتمدد، إنه يظل تحت الحصار.
في البحرين نظام واقع تحت الحاصر، يضرب أخماس في أسداس فيما يتوجب عليه فعله للخروج من أزمته الطاحنة، وإذا كانت المعارضة لا تثق في قدرتها على مواجهته فلعها تسأل عن كيفية ذلك، أما أن تمنحه قبلات للحياة لا تنتهي فذلك ما يجب أن يتوقف، وفورا، خصوصا وأن هذا النموذج العرفاتي تم تجريبه على مدى عشر سنوات، وفشل في وقف التغول الخليفي.
*كاتب وصحافي من البحرين مقيم في لندن.