» رأي
النظام في البحرين ومعنى ثقافة هدم المساجد والأضرحة
يوسف مكي - 2013-04-07 - 4:45 م
يوسف مكي*
على امتداد الثورات العربية في غضون السنتين الماضيتين، والصراع القائم على مبدأ النفي ونفي النفي بين هذه الثورات من جهة والانظمة السياسية من جهة اخرى، لم تتجرأ هذه الأنظمة سواء في تونس أو مصر أو في ليبيا أو اليمن ، وحتى في سوريا، لم تتجرأ على هدم ولو مسجد واحد من مساجد البلاد، مع العلم أنها كلها أنظمة قمعية ودموية واستبدادية، وكلها أوغلت في قمع شعوبها.
فقط النظام الوحيد الذي لم يكتفِ بمواجهة شعبه بالنار والحديد والاستنجاد والاستقواء بالقوى الاقليمية على شعبه الأعزل في قضية داخلية (هي قضية الثورة 14 فبراير) هو النظام البحريني، والذي زاد على الانظمة العربية الساقطة بما لم تتجرأ على فعله بأن قام بهدم عشرات المساجد، من بينها بعض المساجد العريقة تاريخيا، وبعضها أقدم في البحرين من آل خليفة انفسهم، في الرد على الحركة المطالبة بالديمقراطية. لقد كان هذا النظام أجرأ الانظمة العربية في التعرض لرموز دينية مادية ومعنوية لأحد مكونات الشعب البحريني، أعني الطائفة الشيعية، ودون أن يمنعه وازع ديني أو ضمير اخلاقي.
لا شك أن ما قام به النظام من هدم لعشرات المساجد، انما يمثل مأزقا سياسيا وتاريخيا واخلاقيا. كما يمثل مأزقا بنيويا يتعلق ببنيته القبلية وايديولوجيته الطائفية، وتناقضا بين منطق الدولة الذي يدعيه ومنطق القبيلة الذي هو فيه، حتى لو غطى كل ذلك بقشرة من الحداثة والتحديث والمظاهر الزائفة، فإنه يظل في بنيته وجوهره قائما على ثقافة القبيلة شكلا ومضمونا وفي أسوأ جوانبها ظلامية ووحشية وغرائزية في التعامل مع الآخر متمثلة في السجن والقتل خارج القانون والاعتقال والتنكيل، وهدم المساجد والعبث بالرموز الدينية وغير الدينية كما حدث لدوّار اللؤلؤة ازاء معارضيه.
أي بمعنى إلغاء وإقصاء كل ما له علاقة بالخصم من بشر وحجر ومعالم وثقافة وتاريخ – ومن بينها الدينية والرمزية – ظنا منه انه بذلك سينتصر على خصومه السياسيين والاجتماعيين والطبقيين، من خلال هدم مساجدهم وأضرحتهم، وإلغاء تاريخهم الثقافي والاجتماعي العريق، هذا التاريخ الذي يؤرقه باستمرار منذ وطأت أقدامه هذه الأرض.
ومن مفارقات وتناقضات هذا النظام أنه يطْلَعُ علينا بين فترة واخرى ومن خلال رموزه بحركة او فعالية تهدف إلى إبرازه بمظهر النظام المتسامح مع الملل والنحل والأديان والطوائف المتواجدة على أرض البحرين ، وأنه راع لها جميعا وعلى نفس المسافة منها جميعا.
فتارة، يأمر شخوصُ النظام ببناء أكبر كنيسة للمسيحيين في الشرق الاوسط في البحرين، وتارة يستقبلون رجال دين هذه الأقلية الدينية أو تلك، وثالثة يستضيف إعلام النظام أحد رجالات الدين من الأقليات، ورابعة يصور إعلام النظام مناسبة دينية لهذه الملة أو تلك من الأقليات. ولكن . يا للمفارقة يتم ذلك التسامح في الظاهر في وقت يقوم فيه النظام بازالة وتجريف مساجد وحسينيات للطائفة الشيعية والتي تمثل أكثرية بين الملل دون أن يتورع عن القيام بما هو أكثر من ذلك، لا بل يتعرض لشخوصها من رجال الدين في إعلامه المقروء والمسموع والمرئي بما يتنافى وأبسط القيم والاعتبارات واللياقة الأدبية والأخلاقية في إدارة الصراعات والخلافات، حتى إن بعض المحسوبين على إعلامه يصلون في تغطيتهم الإعلامية إلى مستوى العهر السياسي والإعلامي.
ولكن ما معنى كل ما يقوم به النظام، ما معنى هدمه للمساجد الخاصة بطائفة معينة في ظل ازمة سياسية طاحنة بدأت منذ 14 فبراير 2011 ولم تنتهِ حتى كتابة هذه السطور، ومن المفترض ان تظل ازمة في نصابها السياسي ولا تتجاوزه. أليس أجدر بالنظام البحث عن حل سياسي بدلا من هدم المساجد. أليس اهم للنظام البحث عن حل تاريخي لأزمة الشرعية لهذا النظام بدلا من اللعب في رموز التاريخ وأوابده والتي هي اقدم منه بكثير، والماثلة للعيان في هذا البلد. ألم يكن من الاجدى للنظام ان يعرف انه عندما يثور عليه اكثرية شعبه، معنى ذلك انه على خطأ، ولا بد من الصحيح بدلا من التمادي في الخطأ وهدم المساجد.
ولكن الامور فيما يبدو اعمق مما نتصور، وفي اعتقادنا ان ماحدث ويحدث من صراع بين المنتفضين والنظام الحاكم إذْ يتعلق بامور الحاضر والمستقبل وقضية الدولة والديمقراطية، فإن ماحدث يتعلق بالصراع على الماضي ايضا، على الصراع على تاريخ هذا البلد المدون وغير المدون، حيث لا يوجد لهذا النظام من رموز دينية مادية كالمساجد ولا تاريخية تؤكد عراقته، وكل ما يوجد او يدعيه له انما يؤكد انه طارىء وليس له من تراث عميق وعريق في هذه الارض. وهذا شعور عميق يعاني منه النظام في مسألة الشرعية التاريخية والحكم القائم على الغلبة وحد السيف، وهذا وتلك لا تخلقان شرعية تاريخية.
وللتعويض عن أزمة الشرعية المجتمعية قام بإغراق البلاد بالمجنسين كبديل للسكان الاصليين. وعند بزوع حركة 14 فبراير وتساوقا مع مشروع النظام الجهنمي لم يتوقف النظام فقط عند قمع المحتجين والتنكيل بهم بشتى صور وأصناف التنكيل والقهر، بل قرر إلغاء تاريخهم المتمثل في هدم مساجدهم ورموزهم الدينية، اعتقادا منه انه سيلغي بذلك تاريخهم الذي يقض مضجعه، تاريخهم العريق والسابق على تاريخه وتاريخ غزوه لهم، فقط ليؤكد تاريخه ويلغي ما ليس هو. اعتقادا منه ان بذلك سيقضي على الحركة الثورية، وانه في سبيل ذلك مستعد لارتكاب أي شيء بحق الثوار ورموزهم.
إنه يريد من وراء ذلك فرض شرعية تاريخ الغزو الطارىء على شرعية تاريخ من غزاهم في لحظة من التاريخ ، محاولا استبدال تاريخهم المجيد بتاريخه العابر. فلا يكفي بالنسبة للنظام تزوير التاريخ في الكتب بل لا بد من هدم وإزالة معالمه ووثائقه المادية كالمساجد والأضرحة وغيرها إن أمكن، إزالة التاريخ الملموس، والماثل للعيان.
وكرد على حركة 14 فبراير، ليس هناك مناسبة افضل للنظام للاقدام على ما اقدم عليه من لحظة قيام الثورة حيث يصبح الوقت وفي لحظة اختلاط الاوراق والمواقف مناسبا لأن يقوم النظام بما لم يستطع القيام به في اللحظات التاريخية العادية. إلا انه من حيث بنيته القبلية/الطائفية القائمة على الغزو كان يضمر هذا الاجراء منذ البداية، حتى جاءت اللحظة المناسبة التي نفذ فيها ذلك. انها عملية تصفية حساب تاريخي وسياسي. نظرة قاصرة وبدوية وتنم عن عقدة النقص لدى النظام تتمثل في الفرق بين تاريخ واساطير "الفتح" التي دبجها، والتاريخ الحقيقي لمن غزاهم، او "فتحهم".
هذا هو منطق النظام القائم على القبيلة والغنيمة والفتح وإلغاء الآخر، هذه هي ثقافته الأصلية، فلا تاريخ إلا تاريخ القبيلة، ولا مساجد إلا تلك التي يبنيها نظام القبيلة، أو موالو القبيلة ولا دين إلا ذلك الذي تدين به القبيلة واتباعها، واستمرارا، لا تاريخ لهذا البلد إلا تاريخ القبيلة او الذي تصوغه وتسطره القبيلة، وكل ماعدا ذلك يجب إزالته أو طمسه أو الغاؤه، وهكذا كان هدم المساجد في البحرين، مساجد الطائفة الشيعية التي غزتها القبيلة، ولم تتصالح مع من غزتهم حتى بعد مرور اكثر من قرنين على الغزو. بل دمرت مساجدهم دونما مبرر عقلاني، أو أخلاقي سوى الشعور الدفين لدى القبيلة بأن هؤلاء المنتفضين/الفتية ضد النظام قد بدأوا يستعيدون تاريخهم الحقيقي، يستعيدون حاضرهم ويحلمون بمستقبل ووطن خارج منطق القبيلة والغنيمة، ويطوحون بتاريخ مزعوم.
فكان الرد القبلي: لا تاريخ إلا تاريخنا، ولا مساجد إلا مساجدنا ولا دين إلا دين القبيلة، ولا منطق إلا منطقنا، ولا شيء إلا ما يراه الشيوخ. وكل ما دون ذلك يجب استئصاله أو إقصاؤه وفي مقدمة ذلك مساجد الطائفة الشيعية في البحرين. فكان الهدم والتجريف دون وازع ولا ضمير، وخلط السياسي الحاضر بعقد التاريخ الغائر.
هنا وفي ظل هذا السلوك السياسي المشين المعجون بالروح القبلية، وغير المسبوق من قبل النظام الخليفي تجاه معالم تاريخية دينية ثقافية: يتساءل المرء كيف يمكن أن تكون المنامة عاصمة للثقافة العربية في الوقت الذي تقوم فيه بلدوزرات النظام بهدم وتجريف المساجد، وهي معالم تاريخية وثقافية بالتأكيد، وايضا يتساءل كيف يمكن ان تكون المنامة عاصمة للسياحة العربية في ظل ركام المساجد المهدمة، وهي بالتأكيد معالم سياحية فيما لو أحسن استثمارها، كيف يعقد النظام والمؤسسات الثقافية المحسوبة عليه مؤتمر الاديبات العربيات في بلد المساجد والاضرحة التي قام بهدمها النظام، وهي إجراءات تتعارض مع أبسط الحقوق الثقافية. هذه من مفارقات النظام، يحتفي بالاديبات وبموسيقى الشعوب، ويهدم مساجد ومعالم حضارية وثقافية لشعبه.
أخيرا يمكن القول ان النظام في البحرين ومهما لبس من لبوس الحداثة واستنجد بشركات العلاقات العامة والبروبغندا، هو اقرب في جوهره من جماعة (بوكو حرام) في نيجيريا أو ما يقوم به الاصوليون في مدينة تمبكتو التاريخية في مالي. وعجبي كيف تنبري أقلام المثقفين المهرولين إلى الرز والبيض الملغوم كما قال احدهم وبمختلف انتماءاتهم في الدفاع عنه وتبرير همجيته وبدويته؟
قد يكون ذلك موضوعا لمقال آخر يشرّح فيه اولئك المثقفين المهرولين الى مآدب النظام وعطاياه والمبررين لأفعاله وخفاياه.
*باحث بحريني في علم الاجتماع.