» تقارير
عامان على الشهيد أحمد فرحان: صدري بابُ كل الناس فليأت «الرصاص»!
2013-03-14 - 5:39 م
أنا أحمد العربي فليأتِ الحصار
جسدي هو الأسوار فليأتِ الحصار
وأنا حدود النار فليأتِ الحصار
وأنا أحاصركم
أحاصركم
وصدري بابُ كلِّ الناس فليأت الحصار!
محمود درويش
مرآة البحرين (خاص): في هذه السطور تستعيد عائلة الشهيد أحمد فرحان ورفاقه، ذكرى استشهاده الممضّ. لديهم كلام كثير. حكايا من الذكريات المرّة والحلوة. كيف لا، وقصته أصبحت سيدة الحكايات.
الشهيد الوسيم الشاب، الذي شاهد العالم رأسه في مارس/ آذار 2011 مفجّراً بطلق بربريّ، لم يعد حكاية واحدة. غدا حكاية البحرين وسوريا والعراق ومصر و... فلسطين. هكذا طارت صوره المفجعة، قصة دموية فصيحة بكل اللهجات. كل مدينة تقول: هذا شهيدنا! لفرط الوحشية التي قُتل بها، صار رأسه رأساً لكل العواصم. لكنه بتواضع، شاب بحرينيّ، جذره وفرعه غائر في هذا الأرخبيل الصغير الطافي وسط حوض الخليج. وأما الوحشية، فهي وحشية هذا النظام الكالح الذي أفقره وعائلته، ثم رقص على جثته، وهو ذبيح. في هذه السطور أيضاً، يروي الشاب عبدالمنعم منصور، الذي التصق صدره برأس الشهيد، وعانقه في الطريق إلى المستشفى، ليضمن بذلك حضوراً أبدياً إلى جانبه في الصورة المرعبة، وقائع هذا اليوم الطويل الطويل. المحررة في «مرآة البحرين» ابتسام صالح التقت بهم جميعاً، وما سيلي من أسطر، مقتطفات من الحوار معهم:
"قبيل موته أعادني من المستشفى بسيارته، رافقني حنانه في مشوار طويل ثم تركنا وغاب". تقول والدته في فيلم يوتيوب. رفقا بوالدته أبعدوا عنها مشهد رأسه المبعثر والمتكرر على شاشات الأخبار، أطفأوا التلفاز وخبأوا صورته في خزانة الثياب، لكن مشهد الموت الوحشي عصي على الكتمان. بقصد أو بدونه اندسّ رأسه في يديها، ارتعدت، فرت مذعورة الى فناء المنزل بلا إدراك وهي تصرخ: "ويلي .. هكذا ذبحوا ولدي". اعتكفت بحزنها في البيت ولما أرادت أن تخرج من شرنقة الألم الممض كانت صوره تملأ الجدران والميادين. صار رأس أحمد فرحان علامة على المستوى الذي يمكن أن تبلغه الوحشية في كل مكان. سافر في رحلة طويلة، من البحرين إلى غزة، ومن القاهرة إلى العراق، ثم إلى سوريا، أو إلى أي مكان شاءوا نسبته إليه، إلا أن يكون بحرينيا!
بيت بسيط متواضع
بيت فرحان في قرية "المهزة" بسيط ومتواضع جدا. أهله بسطاء وكرماء لأبعد الحدود. الزائر لا يخرج منه إلا إذا لبى دعوة تقاسم اللقمة معهم. حفاوتهم بالضيوف تفرحهم أيما فرح، لها قيمة معنوية عالية. استقبلتنا العائلة في غرفة صغيرة مزدانة بصور الشهيد، صور مهداة من الناس، والثوار والجمعيات السياسية، مطعمة بالأشعار والفخار.
تحلق أهله حولي يروون حكاياته وخصاله. يختلط كلام الأب مع حديث الأم والأخت والجدة. يتنافسون في سرد كل ما يخطر في البال عن الشهيد. رغم أنه لم يكن الابن الوحيد لكن روحه تحلق في المكان، ليس كأي أحد منهم. كان الثالث في الترتيب بين أخوته السبعة.
تتحدث أخته فاطمة القريبة منه منذ ثورة التسعينات "في وقت العصر بعد أن أوصل والدتي للبيتبعد إعادتها من مستشفى البحرين الدولي رآه بعض الشباب". بالمناسبة، تقول "اختار لها علاجا جيدا ومكلفا مستفيداً من مكرمة الألف دينار، ورغم ضيق اليد طالب بالتبرع بجزء من المبلغ للدوار". تتابع «رآه بعض الشباب في منطقة «اسفالة» وهو يطلب ممن معه من الركاب أن ينزلوا من السيارة، وأوصى أحدهم وهو مبتسم: "بس روح المأتم وسلم على أبوي". رد عليه برجاء: "ارجع يا أحمد الوضع خطير"، رد بتصميم: "ما أقدر أرجع". ثم اختفى في الغوغاء وضاع في سديم الغازات المسيلة للدموع. وقتها كانت سترة ومناطقها تغلي بالفزع والهلع، حتى استغاثت المآذن والمآتم: «حي على الجهاد»! لم يحتمل فرحان كل ذلك، هذا غير الشتائم الجارحة والوقحة من المرتزقة، فاستنهضته الحمية وهو المشهور عنه أنه لا يقبل الضيم والإهانة من أحد.
هذا ما أسرّه العامل الهندي
يلتقط صديقه يوسف حسن خيط الكلام «في العصر تجمعنا مع بعض الشباب عند مركز سترة الصحي حين سمعنا عن انتشار البلطجية في الأحياء وخطورتهم على الأهالي والمواجهة معهم باتت محسومة. في هذه الأثناء مرّ أحمد فرحان بسيارته قائلا : "اتصل بي أحد الشباب، بروح الدوار لكن باخذ فرّة وبرجع لكم". وبعد ربع ساعة سمعنا خبره. ما زال الكلام لحسن : "أحمد صديقي وكان شريكي في زنزانة السجن أيام التسعينات، فقد دخلنا السجن بتهم ملفقة في ديسمبر/ كانون الأول 1996 وخرجنا منه بعفو أميري في العام 1999، أي قبيل انتهاء مدة حكم الثلاث سنوات". تضيف أخته :"نعم كان ثائرا ضد الظلم والفقر الذي ابتلينا به منذ وعينا للحياة لذا توقف تحصيله الدراسي عند الشهادة الابتدائية بسبب ذلك السجن الذي دخله وعمره 17 سنة، وقد فكر أن يواصل الدراسة مؤخرا، لكن الموت عاجله".
ويعود بنا جميل مكي لنفس اليوم ليقول: "بعض الشباب سمعوا اختلاف القتلة العسكر فيما بينهم في موقع القتل، واحد يقول: اضرب والثاني ينهيه: لا تفعل". يضيف أمرا هاما: "أسرَّ لي عامل هندي متقاعد في محطة البترول مكان سقوطه أنه شاهد القاتل وهو يضع فوهة البندقية في فم فرحان لذلك تفجر الرأس من الخلف بالشكل الذي رأيناه". لكن أخيه إبراهيم ينفي : "التصويب على جنب الرأس فوق الإذن، لو كان كما تقول لتناثر المخ بعيدا ولم يتكوم". ويعيد يؤكد جميل: "ذلك لأنه كان ساقطا على الأرض بفعل إصابة ساقه ولم يكن واقفا كي ينتشر المخ في الهواء". ويواصل بأسى: «بعد انتشال الجثمان وإرسال قطعة المخ إلى مشرحة السلمانية، قمنا بالتقاط بقايا المخ وقطعا صغيرة من الرأس في دلو بلاستيكي وضم إلى الجثمان يوم الدفن".
أصيب أحمد مرتين، في المرة الأولى في إحدى ساقيه في يوم حادثة المرفأ المالي، والثانية قبيل القتل مباشرة في ساقه اليمنى لذلك خانته ولم يستطع النهوض مما سهل على القاتل أن يجهز عليه من مسافة قريبة. لا أحد يؤكد ما الذي فعله فرحان بالضبط، حيث لم تلتقط عدسات الكاميرات ولا الهواتف لحظة القتل مثل ما حدث للشهيد عبد الرضا بوحميد، لذلك أتت الروايات متفاوتة. هل هاجمهم بسيارته الكورولا كما يقول الناس؟ وماذا نتج عن ذلك؟ ولماذا قيل لوالده "إن ولدك ليس بشهيد بل هو أعظم من ذلك وأرفع، إنه استشهادي، وتلك شجاعة نادرة".
والدته المحترقة باللوعة تذكرت أنه أوصى قبل استشهاده بكذا يوم: "سوف أُذبح، لا تنسوا زيارة قبري، وعليكم بالعناية بأمي وأبي وأختي فاطمة وأولادها". وويستذكر إبراهيم : " كان القتلة أشخاصا ملثمين لكن نياشين درع الجزيرة على أذرعهم فضحتهم، لذلك نُفيت هذه الحقيقة في مؤتمر صحفي في محاولة للتأكيد على زعم أن درع الجزيرة جاء فقط لحماية منشآت حيوية".
مرجل يغلي.. لكنه وقور!
تتفق الأسرة مع الأصدقاء على مناقب فرحان. خلوق، لا يعرف الكذب، شهم، حنون، كريم، كثير التصدق وما يملكه هو رهن الحاجة، حاجة الآخرين، متعاون مع أسرته، اتخذ من البحر القريب من بيته مصدرا للرزق. وحين يعجب الجزاف بصيده فإنه ينسبه لصديقه ويختبيء خلفه لئلا ينتابه المديح. وفي الدوار حين طُلب منه أن يحمل يافطة مكتوب عليها "أنا الشهيد التالي" رفض بشدة. لا يحب التباهي والتفاخر بنفسه أبدا، متواريا عن الأنظار بدليل صوره الشحيحة في الثورة.
يواصل إبراهيم وصفه بإعجاب: "لديه مهارات حاول أن يطورها، ماهر في النجارة، كان يصنع أقفاص الطيور جميلة، وإن جئته في البناء كذلك، وكل حرفة يضع يده فيها يتقنها، لكنه ليس اجتماعيا لا يعرفه إلا القلة، فهو بطبعه هاديء، كتوم، صموت، خجول".
وتشدد فاطمة باعتداد: «هذا صحيح لكن أخي من الداخل مرجل يغلي، يثور، لكنه وقور، أنا أفهمه جيدا. نستغرب من شخصيته المميزة التي لا تشبه أحدا منا، تراه يدخل البيت بهدوء ويفتح الأبواب بهدوء أشد كي لا يزعج أحدا. معتمدا على نفسه يحضر بنفسه غذاءه ويغسل الماعون، يساعد والدته في أعمال منزلية ولا سيما في شهر رمضان. يقدس والديه وبارا بهما كثيرا، يحب أولادي ويتعامل معهم كأنهم أولاده، ولا يتردد بأن يقوم بأدوار الأم المربية، يحمم الأطفال ويلاعبهم، طرقه في المحبة والحنان مختلفة وتفوق كل أخوته. متعفف عن شكوى الحاجة أو المرض، متعفف حتى عن طلب زوجة، يعتذر عن الزواج رغم بلوغه الـ 31 ربيعا: "لست أهلا له بعد، وليس لابنة الناس ذنب كي تشقى معي"، لأنه أخذ على عاتقه مسئولية البيت كاملة فهو الربَّان والسفينة.
الصورة التي شاهدها العالم
يروي الشاب عبد المنعم منصور حكايته الخاصة والمؤلمة، كيف ساقته الأقدار لالتقاط الشهيد، واحتضانه بيديه، وهي الصورة التي شاهدها كل العالم. لكن قبل القتل ذكر قصة يرددها أهل سترة. يقول "قبل تصميمه على الشهادة التقى أحمد فرحان في طريقه شابا فقال له: سلم على أبوي فرحان، فسأله: ليش؟ رد أحمد : بعدين بتعرف – ثم سأله باستغراب: بس أنا ما أعرفك – رد عليه بثقة : بعدين بتعرفني»!
ثم انعطف في كلامه إلى يوم المحنة وصوته يغالب رجفة الألم ويستحلفني ألا أطالبه في تذكر تفاصيل مؤلمة : "أنا في عذاب فمنذ مجزرة سترة لم أخرج من مشهد الذبح بعد، صورة فرحان ما زالت تلاحقني وتتقافز أمام وجهي، مو قادر أعيش حالي حال الناس".
يضيف "في ذلك اليوم لم أكن وحدي، الذي حدث أنه بعد إطلاق قوات الأمن النار على ظهره سقط على الأرض فتداعى نفر منهم عليه وهو يقاوم بصراخ: الله أكبر.. وهم يزجرونه: اسكت .. اسكت؟ لكنه يرفض السكوت، مما استفزهم أكثر فأكثر. رفض أحمد أن يستسلم لأنه ذهب إليهم بقصد مواجهتهم وهو أعزل من السلاح، أنا أعرفه جيدا كان غيورا جدا على أهله وناسه وذا شهامة ونخوة لا مثيل لهما. بعد أن أسكتوا صوته بالرصاص ابتعدوا عنه في إشارة غير مباشرة للناس أن تعالوا خذوه». يتابع بعد أن يغرق في تنهيدة عميقة «شعرتُ أن انسحابهم عنه غريب ومريب حيث سبق ذلك مشادة كلامية بينهم حول تنفيذ القتل. تجمع الناس حول الجسد القتيل بدافع الفضول معتقدين أنه جريح فقط، ولكثرة الناس حوله غطوه ولم يتيبن مدى جرحه الفادح.
تأخرنا عليه بعض الوقت، فقررت أن أستقل سيارتي لأنتشله بسرعة، وكانت السيارة بعيدة عن موقع الحدث، لكن في هذه الأثناء مرّ شخص بسيارته فأشرنا إليه أن يقف، فحمله الشباب والناس تحيطه في هلع وصدمة وصراخ وتكبير. ووضعوه في المقعد الخلفي، خلف السائق، جعلته في وضعية الجالس وأنا جالس جنبه أكلمه وأطمئنه بأنه سوف يعيش، مع أنني أرى الرأس مفتوحا وبلا مخ والدم يشخب على ظهره لكني كنت من فرط الصدمة لم أصدق الواقع، أو كأنني لا أريد أن أصدق أنه مات وعانق الشهادة. كنا أربعة في السيارة، في الأمام شخصان، السائق وآخر وهما يولولان ويصرخان، كان السائق يسوق بدون إدراك ويردد بانفعال : "قتلوه .. قتلوه" بينما كنتُ في حالة أخرى وكأن الله سخرني لهذا البلاء فأكسبني حكمة الصبر والهدوء حتى أني كنت أرجو السائق: "شوي شوي عليه .. ما مات".
ويستدرك «لكن لسبب ما أو من هول الفزع ارتبك السائق فأدار المقود في انعطافة حادة فاختل التوازن وسقط رأس فرحان في حضني، هنا سقطت في الصدمة وكلما نظرت إليه طالعتني عيناه فازددت رجفة وهلعا. لما وصلنا إلى مركز سترة الصحي نزل السائق بسرعة وفتح باب السيارة جهة فرحان بقصد إخراجه فرأى الرأس وصرخ : "قتلووووه" ثم تراجع، وجاء الثاني والثالث وفعل الشيء نفسه، تراجعت الشجاعة عن خمسة شباب. لم يجرؤ أحد على مجابهة المنظر، وسقط البعض مغشيا عليه فتجمعت الناس باستنكارها وعويلها مرة ثانية عند الباب المشرّع وفضول فلاشات الكاميرا لم يتوقف».
ويقول «شعرت أنه تحول إلى فرجة وهذا الأمر أزعجني وأغضبني أكثر فقررت أن أخرجه بنفسي، هو كان في حضني على أية حال فمددت ذراعي تحته، وزحفت بجسدي إلى الباب المفتوح، لم أجد مشقة في رفعه وحضنه، كان جسده خفيفا جدا لم أشعر بوزنه إطلاقا، وأطرافه طيعة تستجيب للحركة بسهولة».
سألوني: لماذا حملت جثمانه!
ويقول عبدالمنعم "بعد ذلك اختبأت عن زوار الفجر بالمبيت خارج المنزل لكني كنت أشارك في جميع المسيرات، رفضت أن يحاسبوني على شهادتي للقتل بفضح وحشيتهم. بعد 51 يوماً تم اعتقالي، وجرى التحقيق معي، اعتقدت أنني سوف أسأل أولا عن سبب تغيبي عن العمل لكن ذلك لم يحدث أبدا. في المرة الأولى سُئلت: لماذا حملت جثمان فرحان؟ فقلت: لم يطعني وجداني.. لماذا لا أحمله، حتى الحيوان عندما يموت يشيلونه". ويوضح بأنهم ردوا عليه "ليش ما خليته مرمي مثل الكلب، انتو حتى الحيوانات أحسن منكم". جاء الاتهام الثاني:"أنت شهدت زورا أن قوات الأمن هم من درع الجزيرة؟". والأنكى من ذلك، يضيف « أن أُتهم أيضا أنني القاتل. حاولوا أن يمسكوا علي زلة لسان لكني كنت أرد عليهم بإتقان، وغلبتهم. لكن النية المبيتة بالسجن والتعذيب لا فرار منها ولا غلبة عليها».
يتابع "دخلت السجن سنة كاملة عانيت فيها الكثير من صنوف التعذيب، كنا السجناء عراة وفي وضع إنساني مهين للغاية لا سيما أننا اعتقلنا أيام السلامة الوطنية فالوطأة في أشدّها داخل السجون ويزيد التعذيب عليّ بقولهم : "إنت متوصي فيك خليفة بن أحمد". باعتبار أنني كنت أعمل مرافقا خاصا لخليفة بن أحمد الشاعر آل خليفة، مدير مديرية شرطة المحافظة الجنوبية ورئيس البلطجية في دوار الساعة. فكانت وصيتهم الباذخة هي «كسر في يدي، وفقرتين في الظهر وجلد القدمين ورشهما بالملح هذا غير التعذيب النفسي". سألناه "أين أنت من عملك السابق، هل عدت إليه؟". نفى بشدة "الله لا يقوله أرجع. أعمل الآن عملا حرا".