» تقارير
امرأة «عادية» في زمن الربيع البحريني..
2013-02-15 - 8:09 ص
مرآة البحرين (خاص): ستسألون من هي هذه التي تكتبون سيرتها؟ لا نعرفها؟ سنجيبكم هي واحدة من النساء "المغمورات" التي نحتفي بهن في عددنا هذا. واحدة من المجهولات اللآتي لم يداخلهن يوماً شعوراً بالتعب أو الملل أو اليأس. واحدة ممن يرون أنفسهن أنهن "لا أفعل أكثر من غيري"، وممن ساحتهن الميدان بكل مخاطره وتحدياته. واحدة ممن تهيأت لكل ما قد يجري عليها مادام ثمناً لهدفها، وممن لا يحركهن صخب الشهرة أو البروز. نعم هي امرأة مغمورة من بين نساء البحرين، لكنها تمثل شريحة غير قليلة تشبهها، ممن يمثلون المرأة البحرينية في زمن الربيع البحريني.
يا أنا يا الأحداث
حكايتها تبدأ منذ العقد التسعيني المر. تدخل البيت ذات مساء، خطيبها يتحدث لوالدها بإعجاب: "لو تشوف يا عمي مشاركة النساء في المسيرة إللي طلعت. وأنا أمشي كان الشرطي يتكلم في البرقية ويقول أن أكثر من 50 امرأة من سترة مشاركة في كسار فاتحة الشهيد حسين الصافي (استشهد في 26/1/1995م).
تجيبه بزهو: كنت معهم. يتفاجأ من الرد فيغضب: ومن سمح لك بالمشاركة، شوفي يا أنا يا الأحداث. تجيبه أجبت: أنا الرافضة للظلم في كل مكان، والمتابعة لأخبار الانتفاضات في كل مكان، تريدني حين يصل الظلم لبلدي أن أجلس؟ ثم تخيرني؟ هذا خاتمك خذه. يتسمّر في مكانه، يشفق والدها على خطيبها فيبادرها: البسي خاتمك. كان الوطن أكبر مني ومنه.
اذهبي لبيت خطيبك
تُكمل: كان خطيبي آنذاك يعمل خارج الوطن وكان العمل الميداني يقلق أمي كثيرا خوفا على مصير أخوتي، يأست من نصحي حتى استسلمت قائلة: خذي ثيابك يا ابنتي واذهبي بيت خطيبك. هناك كونت مع نساء الحي مجموعة للمساندة. كانت البيوت التي تتعرض للمداهمات تضع عليها قوات الأمن علامة ( X ) حتى لا يتم مداهمتها مرة أخرى ويتم استكمال بقية البيوت. كنا نخرج في الليل ونكمل وضع علامة ( X ) في بقية المنازل لمنع اعتقال الشباب. كانت الناس تستيقظ صباحًا لتجد كل بيوتها بذات العلامة. كان الليل ساترنا حيث نكتب الشعارات على الجدران بواسطة الرش ونقوم بلصق المنشورات، صور المعتقلين والشهداء.
وجدت نفسي أشارك خارج المنطقة حتى شملت معظم قرى البحرين، كنا نستخدم الهاتف العمومي لعمل الاتصالات الخارجية مع جماعات المعارضة في لندن لنقل الأحداث ومن ثم ارسال صور الشهداء.
التمويه
بضحكة تروي: تزوجت حينها وكنت في سنة الثالثة من الجامعة، حين يعود من السفر يفتح الأدراج ليبحث عن العطر في أدراجي فلا يجد إلا المنشورات وبخاخ الرش الذي يستعمل للكتابة على الجدران. كانت الجامعة تعج بالمسيرات للمطالبة بتفعيل الدستور والبرلمان وإطلاق سراح المعتقلين. في إحدى المرات اقتحمت الشرطة الحرم الجامعي بمدينة عيسى وأصبت بطلقة شوزن، أسرعت بالاختباء في غرفة الاستراحة حين علمت بأنهم يبحثون عني بغرض اعتقالي من خلال مواصفات معينة "امرأة بعباءة وتلبس نظارة يعلوها النقاب ". صرخت زميلاتي البسي هذا الحذاء ثم قمن بتغيير هندامي بسرعة، اعتقلوا امرأة أخرى تشبهني في الشكل لا علاقة لها بالسياسة.
رئيس الوزراء: ليش الجلجلة
تستطرد: بعد التخرج زادت نسبة العاطلين عن العمل ولم تنفع المسيرات للوزرات المعنية بالأمر. قدنا مسيرة ألف خريج عاطل عن العمل إلى ديوان مجلس الوزراء ولمزيد من الاحتياط شكلنا وفدا كنت أحد أعضائه مزودين بالملفات الخاصة بالعاطلين. استقبلونا بحفاوة زائدة والتقينا رئيس الوزراء وسط بهرجة إعلامية. امتد اللقاء أكثر من ساعة، بدأها رئيس الوزراء بالقول: "ليش الجلجلة اللي برع ما ليه داعي أي وقت إتيون تعالوا وما عندنا مشكلة".
وضعنا الملف أمامه وكانت البيانات على شكل جداول احصائية، أخبرناه أن هناك 1000 خريج عاطل عن العمل البعض أمضى عشر سنوات دون عمل. سلمناه شريط فيديو يعرض بيوت البعض المهترئة. أريناه صورة لرجل يحمل (أخياش البصل) فيما شهادة البكالوريوس معلقة خلف المحل. قلت له: لو أزحت الستار الذي وراءك سترى المجموعة الأولى التي كرمتها في حفل عيد العلم والآن هم عاطلين عن العمل، ثم أشرت إليه أن يفتح الملف ففتحه. قلت: الاسم الأول في الملف متخرجة منذ العام 1992.
كانت الوعود كبيرة لكنها لم تتحقق إلا بعد المسيرة الثانية التي قدناها بعد شهرين لديوانه مرة أخرى، هذه المرة قابلنا بلا بهرجة إعلامية وبسرعة مشيرا باقتضاب إلى سبب عدم استعجال الأمر فيما اللجنة المعنية تنظر فيه، لكن الحركة أفلحت في توظيف سريع ل450 خريجا ليكتمل العدد بعدها بتوظيف 800 من مجموع الخريجين العاطلين عن العمل.
للتأكد من توظيف العاطلين كنا نتصل شخصيا بهم، اتصلت بخريجة عاطلة منذ ست سنوات كان حلمها أن يأتي اليوم وتسلم الراتب كله لأمها التي تعيل أبناء أخيها الأيتام. كان صوت أمها على الهاتف حينما قالت: تأخرت يا بنتي الموت أسرع، ما لحقت بنتي تشوف حلمها. وجع الموت حين يداهمنا يوخز شعور تأنيب الضمير لحلم بسيط لم يتحقق.
14 فبراير 2011
سرحت ببالها لذاك اليوم: الترقب كان عنوان ذلك اليوم، هل سيكون 14 فبراير كباقي ثورات الربيع العربي التي نتابعها على الشاشات؟ هل ستقوى البحرين على مشهد كهذا؟ مع خيوط الفجر كانت النويدرات هي البدء وفي العصر بدت سترة كمن تشق حوافرها. كان منظر الناس مهيبا وهي تتهيأ للمشي زرافات لمدخل سترة على الشارع العام، كل الأعمار ومن الجنسين. كان عدد النساء يفوق الرجال، القيادات تتصدر المسيرات والحماس يدب في الجميع، لحظات وتم قمع المسيرة. هناك اختبرت روحي الثائرة، اكتشفت أنها لا زالت كذلك.
المآذن .. الجهاد الجهاد
تستذكر وكأنما ضبابا تحلق في المكان: منذ 15 مارس 2011 بدت سترة مختلفة، المآذن تصرخ بالجهاد الجهاد. وزعت أطفالي بسرعة، حملت العدة البسيطة المكونة من علبة حليب ومطهر. لم يتوقع أحد أن يتجه الوضع ليكون هستيرياً، الرصاص في كل مكان.
من فوق سطح أحد البيوت كنت أشير للشباب لأحذرهم من الجنود والمرتزقة، لاحقًا دخل بعض الحقوقين والصحفيين الأجانب، أخبرتهم أن سترة ليست المدخل المحاط بخزانات النفط أشرت للبعيد للقرى المتهالكة هناك حيث مهزة وسفالة البعيدتين عن ثروات الوطن. خرجت ثانية لكن الوضع ازداد خطورة، دلفت إلى أحد البيوت مع بعض الفتيات بصحبة رجل مصاب، لحقنا أحد الجنود وصوب رصاصه علينا في ساحة البيت فرميت نفسي فوق الفتيات حتى لا يصيبهم الرصاص لكنه تركنا ورحل فقمنا بإسعاف الرجل المصاب. لاحقا علمت أن أخي مصاب وقد ذهب مع المصابين لمستشفى السلمانية اتصلت لأطمئن عليه فوجدته يساعد بقية المصابين لفرط إصابات الآخرين مقارنة بإصابته.
كان حصاد ذلك اليوم 250 جريحا، نقلت الكثير من الجرحى لمستشفى السلمانية واعتقل بعض ذوي الإصابات الحرجة. كان الانقباض الخانق والقاتل سيد ذلك اليوم. تمام الساعة العاشرة ليلاً قطع الأهالي صمت المكان المطبق في الليل. كأنما نتفقد بعضنا لنطمئن أننا بخير. لم نتمكن في اليوم الثاني من الوصول للدوار عدنا أدراجنا إلى الشارع العام لسترة حيث الناس مجتمعة وتهتف. جاء أحدهم على دراجة نارية يخبرنا بأن الجيش قادم فاختبأنا في البيوت لكن الرصاص الحي والطائرات التي تحلق على علو منخفض أسكنت المكان صمتا، فقررت الخروج مستندة إلى الجدران لحمايتي من الرصاص ومنذ ذلك اليوم غاصت البحرين في قانون الجحيم المسمى بـ" قانون السلامة الوطنية".
طالما هناك حركة فهناك جرحى
تكمل: بعد الهدوء الذي أعقب فترة السلامة الوطنية انضممت للجنة توثيق المصابين وطالما أن هناك حركة في الشارع يعني أن هناك جرحى، كنا مجموعة من الأفراد تجوب القرى لتوثيق الإصابات موثقة بالصور والتقارير الطبية وشرائط الفيديو إن وجدت. في حدود ثلاثة ملفات استلمها بسيوني جاهزة واستمررنا في توثيق الإصابات حتى يومنا هذا. أغرب شيء في توثيق المصابين أنهم يعطونا البيانات ثم يتركوننا ليكملوا المسيرة ويعودون مرة ثانية، كانت الإصابات الغائرة لا تهمهم طالما لا تعيقهم من الخروج مرة أخرى للتظاهر. كانت رائحة المسيل تخنقنا ونحن ننتظر عودتهم لإكمال التوثيق. شباب يهربون للموت فيهرب منهم، في حضرة التضحية يعجز الموج المضطرب أن يفهم سر التجديف.
رؤية الجرحى والمصابين صاحبها ضرورة أخذ رخصة للإسعافات الأولية لمعالجة الجرحى بشكل قانوني حماية لأنفسنا وللمصابين، وهو مفتاح معالجة الجرحى، حتى أبنائي حصلوا عليها. استطعنا خلال مدة وجيزة بعد السلامة الوطنية تكوين موثقين في حدود 500 شخص جلهم من النساء وتخريج أكثر من 500 مسعف ومسعفة من أعمار مختلفة بمشاركة واسعة من النساء. غاب من كان يقوم بتوفير الأدوات الطبية، حللت مكانه. أصبح العبء كبيرا في توفير المسعفين والأدوات الطبية ونقلها وتوزيعها لجميع المناطق لكن الأمور كانت تمضي بسلاسة غريبة بتيسير من الله.
بعد 14 فبراير لم نعد كالسابق حتى وميض الفرح صار شحيحاً، في خطبة ابن أخي كنت للتو قد حضرت من اجتماع لم يمكنني التزين للعرس عاجلني اتصال سريع لإنقاذ عجوز من الاختناق، تركت الفرح وهرعت إليها.
في المسيرات وبالأخص في التشييع نكون أول الحاضرين وآخر من يترك المكان، حقيبة الإسعافات الأولية لا تفارقنا وأعمارنا نحملها على اكتافنا مثل صحفي يتواجد في ساحة المعركة. لا زالت أذكر ذلك اليوم الذي لم أتمكن فيه من العودة للمنزل بعد معالجة الجرحى بسبب التضييق الأمني الشديد فكنت طوال الليل أتخلص من حليب رضيعي في أحد البيوت. تختم حديثها: هذه أنا، امرأة "عادية" من البحرين، ولا أفعل شيئا أكثر من غيري.