» تقارير
كفاية المبارك: كأن الناس وجدت في صوت فاطمة القوة التي ستعبر بها المحنة
2013-02-13 - 12:44 م
مرآة البحرين (خاص): مر العامان وما زالت تقول: كأنه لم يمرّ على الفاجعة غير شهر!. إنها كفاية المبارك التي وجدت نفسها فجأة في فراغ كبير وحيدة بدون عبدالرسول الحجيري. يتعين عليها أن تملأ أضعاف هذا الفراغ داخل أسرتها المكونة من ثلاثة أطفال فاطمة وهاجر وعلي.
من قلب هذه الأسرة، تتفجر القوة، المفاجأة الأولى صوت فاطمة، وهي تودع أباها في مشهد مشحون بالمحنة، نطقت بقوة حية وسط مقبرة ميتة، أبهرت العالم الذي راح ينصت آلاف المرات ليديها وهي تنتفض بكلمات هزت جدران خوفهم، وكأن الناس وجدت في صوت فاطمة القوة التي ستعبر بها محنة السلامة الوطنية.
عندما كان الشهيد مفقودا وأخباره مودعة في جيب المجهول، في ظرف استثنائي الخوف فيه متمثلٌ فيمن يجدر به أن يكون مصدر الأمن، وكانت كفاية تودِع في يمِّ المجهول أماناتٍ عديدة .. زوجًا، وأقارب، وأصدقاء رسمت أسماءهم وشخوصهم المعرفة، وآخرون كان يمكن لو أتاح القدر أن يكونوا أقرب من ذلك.
يقول قريبها الذي كان مفقوداً أيضا: رغم مضي عامين من الذكرى فإن لحظة لقائي بها بعد خروجي من السجن ما زالت حاضرة كلما ذكرت الشهيد... لا أدري كيف قطعت مسافة أن أكون مفقودا كما كان الفقيد الشهيد، غير أني عبرت قنطرة الاعتقال إلى الحياة لأجد كفاية في مواجهة فقد لا رجعة معه.
وجدتُ (كفاية)التي عايشتها طفلة يتيمة، كبيرة بحجم هذا الوطن الصغيرة أرضه الكبيرة روح أبنائه. ظهرت من فوهة الزمن يتيمة "عشنا معها طفلة تحبو وتتكئ علينا لتقوم"صورة الطفلة اليتيمة الفاقدة للأبوة كانت حاضرة في قلبي وأنا ذاهب فور خروجي من معتقلي لتعزيتها. بصرت سيماء الشهيد على وجهها وكأنه لم يغب، كانت تغص بأمل خافتٍ يطفح مع عودة كل فقيد، لكأن شيئا من عبدالرسول يمكن أن يعود.
لم يسعني إلا أن أتمتم لها: أختي كلنا -مشيرًا لمجموعة من الأهل غُيِّبوا وبُثُّوا في معتقلات متفرقة- كنا بين الحياة والموت، كان يمكن أن يكون أحدنا... أو كلنا عبدالرسول.. لكن الله اختار تفاحته الطازجة لتعود إلى الجنة. طفرت منها دمعة كبيرة واتكأت على وسادة من نور التسليم لقضاء الله وقدره.
في أيام العزاء الذي طال بطول فجيعة الناس بخبر الشهيد، كانت تحجز وقتًا تحاول فيه توثيق ذكرياتها بين وجع ووجع، و تعمل جهدها ألا يقع بصر الطفل "علي" على صورة أبيه حيث لم يكن يستوعب لماذا لا يعود أبوه إلى البيت.
عبدالرسول كان يحمل صندوق الرسيفر الأسود يبحث عن محل يُصلحه، أراد أن ينقل لأسرته ما يطمئنها من أخبار.التقى يومها بكثير من الأهل والأصدقاء لكأنه كان يودِع عندهم بسمة الوداع. ذهب لإصلاح الرسيفر غير أنه لم يعد.
من أول لحظة فقد، سيطر الغموض على الجريمة، لم يكن أمام كفاية -في قدَر هذا الصمت المطبق- إلا أن تؤجل فجيعتها لتعمل الفكر مع أخ الشهيد الذي لم يهدأ له بال يريد أن يعبر كل رعب الدنيا ليجتمع بأخيه فينقذه أو يواسيه أو يفديه بنفسه. لكن الجرح أكبر من أن يداويه أحد.. تحرك الأخ لعله يستطيع أن يعرف ما جرى لأخيه أو يتخذ ما يمكن من إجراءات حتى لا يضيع الحق في الاقتصاص من قتلة أخيه الذين وضعوا السلم الاجتماعي على مقصلة جموح الاستئثار والاستعباد حتى لم تعد حياة الناس عندهم إلا هامشا لا يهم فيه كيف أضاعوا حق هذا وذاك في الحياة والأمن.بعد بحث جهيد عاد مهر عبد الرسول خاليا، كان ملطخا بدمه لكن سيارته كانت تقول: الظليمة الظليمة.
الصندوق الخلفي للسيارة يشهد قبل أن تشهد جلود الجلادين أن ههنا كان محط رحاله.في الصندوق كانت بصمات دمه شاهدة عليه.أثاث السيارة من الداخل كان يقول بلسان حاله: كنت هنا أنزف. جوانب السيارة تقول إنه كان في وضع غير طبيعي، والأثر الحاد على الوسادة الداخلية تقول إنه كان هنا سجال بين الحياة والموت.
تسأل هاجر: كم يساوي اللي ما يضحي لوطنه؟ قلت لها: صفر، حينها بسطت يديها التي كانت تخفيهما وجعلت تقرأ بولَهٍ كلماتها التي سطرتها عن حب الوطن: "حفرت حبك في قلبي.. فداك روحي ودمي.. من ترابك الذهبي وبحرك الأزرق الأخاذ.. أستلهم حبًا نابعًا من الأعماق.. بحريننا.. فديتك بكل ما أملك.. أحبك يا بحرين".
لم يُرَ الرسيفر الذي حمله عبدالرسول ذلك اليوم في سيارته لإصلاحه.. صار الناس هم قناته الفضائية لأهله والعالم وهي تبث لهم حقيقة ما جرى. جماهير أخرجها الحب من خوفها لتقول لأرملته ولذويه لستم وحدكم. معكم الله ومعكم قلوب شرفاء العالم كله تتحدى وحوش الظلام.