» تقارير
الحاجة مريم طريف: كبيرة صرتُ.. شعري أشيب.. وما انحنيت!
2013-02-13 - 12:23 م
مرآة البحرين (خاص): منذ الثمانينات إلى 14 فبراير/ شباط 2011، لم تفارق سيارة الشرطة باب منزلها. باستمرار، كان ثمة سبب يجعل هذا البيت هدفاً قائماً للدّهم. وهو سبب سياسيّ على الدوام. الحاجة مريم حسن طريف لم ترتح منذ 30 عاماً أو يزيد. رغم ذلك، فهي لا تستسلم. تخطى عمرها الآن السبعين عاما. غير مرّة، اعتقل أبناؤها، وأبناء أبنائها. صارت مقعدة. لانت عظامها. وما لان رأسها.
ليس هذا سحراً، لكنها العزيمة. على كرسيّ متحرّك، حضرت دوار اللؤلؤة. وعلى الكرسيّ نفسه، شاركت في مسيرة 9 مارس/ آذار. لكنها ما عادت، كما كانت في التسعينيات. لم تعد تقوى على جمع الحجار، وتسديدها إلى حيث ينبغي أن تسدّد. صارت أكثر عاطفية. أخيراً، أخذت تبكي لدى مشاهدتها قوات الأمن تقتاد أبناءها إلى السجون. في السابق، لم تكن تسكت. تماحكهم، تزعجهم. الأكيد أنها تغيّرت إلا في تمرّدها!
بعد خمس سنوات من وفاة زوجها، الملا حسن سهوان، كانت البحرين تشهد قيام قبضة أمن الدولة (1975). أحد البيوت التي نالتها هذه القبضة، هو بيتها في السنابس. بيت آل سهوان. خصوصاً بعد انتصار الثورة الإيرانية (1979). بدأت المداهمات الليلية المستمرة على منزلها. في العام 1981 اعتقل ابنها جعفر سهوان. حكم عليه 5 سنوات من غير تهمة. عدا تلك الشيلات والقصائد التي كان يلقيها في مواكب العزاء. كانت تلك هي التهمة.
لم تمر غير فترة وجيزة، حتى اعتقل آخر من أبنائها، وهو حسين. لم يكن عمره يتجاوز آنذاك 13 عاماً فقط. كانت التهمة ذاتها، الأسباب المتعلقة بالمشاركة في مواكب العزاء عبر إلقاء القصائد والشيلات. اعتقلت أيضاً أكبر بناتها، خديجة. أفرج عن حسين، لكن كي يصبح ضيفاً دائماً على قسم المخابرات، حتى نهاية الثمانينات.
في كل أيام القسوة تلك التي واجهت الأسرة أبان قانون أمن الدولة في الثمانينات، ظلت الأم الحاجة مريم صلبة. لم تهزها الرياح العاتية. فعلت العكس. فهي من كانت تحرّض أبناءها على الوقوف في وجه الظلم. تقول لهم دائما في الساعات الصعبة: "إنكم أبنائي وأحبكم، لكنكم لستم أفضل من رموزكم الذين أصابهم ما أصابهم».
كانت فترة التسعينات إحدى المحطات التي اختبرت فيها الحاجة مريم كل معاني الظلم والاضطهاد. كانت لأولادها أدوار مهمة في تلك الانتفاضة. اعتقل لها أربعة أبناء مرة واحدة. على فترات متفاوتة طالتهم قبضة الأمن الحديدية. لكن الأمر لم يقتصر عليهم. شاركت هي نفسها، رغم عتيّ السنوات، في المسيرات التي تخرج مطالبة بالديمقراطية. وحين كانت قوات الأمن تعتدي على المتظاهرين تبادر هي إلى جمع الحجارة في «ملفعها» وتبادر إلى إلقائها بين أيدي المحتجين. إنها تطالبهم بالرد. تقول ابنتها جواهر «لم تكبح نفسها في غير مرّة من التقاط الحجارة بنفسها وإلقائها على الشرطة». تضيف «كانت صحتها جيّدة وقتذاك. عضدها لما يزل قوياً. وإرادتها فولاذية».
اعتقل نصف أبنائها السبعة. وآخرون من أحفادها. حوكم بعضهم لسنوات. نال محمد خمس عشرة عاماً. كان حكمه الأقسى. لفقت إلى ابنها جعفر تهمة الانضمام إلى تنظيم «حزب الله». كذلك، اعتقل مهدي وعباس. وتشرد بقية الإخوة. لم يتبق معها في البيت غير واحد. في مثل هذه الحال، كانت تعيش الحاجة مريم. وعلى هذا، فقد تمرّست بأشد أسلحة الكائن البشري الطبيعية: العناد. لم تحمل الكراهية. إنها لا تعرف أن تكره. لكن الأكيد، أنها لا تعرف السكوت عن حقها. كانت دائماً ما تتلاسن مع قوات النظام ومخابراته في المداهمات المتكررة لمنزلها. كانت تزعجهم. ولدى رؤيتهم يقتادون أبناءها، لا تنفك تردد على رؤوسهم «اصبروا وصابروا» مثلما تروي ابنتها خديجة.
حين اندلعت ثورة 14 فبراير/ شباط 2011، كانت الحاجة مريم قد بلغت سن الشيخوخة. كبيرة صارت. شعرها أشيب. خائرة القوى وفرائصها هشة. رغم ذلك، فهي لم تنفك عن متابعة كل ما يجري. تسأل عن آخر التطورات باستمرار. وكانت ترفع الأكف بالدعاء: «انصرهم يا الله». وفي مرّة، ألحّت على أحد أبنائها أن يأخذها إلى دوار اللؤلؤة بكرسيها المتحرك. كانت تود أن تلقي نظرة. تطمئن. إنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً الآن. لكنها لا تود أن تكون في آخر الركب. لم تكفها الحكايات التي كان ينقلها لها أبناؤها وبناتها. تريد أن ترى بعينها.
مع الإخلاء الثاني للدوار (16 مارس/ آذار 2011) كانت الحاجة مريم تواجه فصلاً آخر من دراما التسعينات والألفينات. هكذا، دوهم بيتها غير مرة. هكذا اعتقل ابنها مهدي. هكذا اعتقل ابنها محمد مخرّماً بنحو 80 شظية من الرصاص الشوزن في الظهر والرقبة. جيء به عنوة من الدوحة. ذهب إلى العلاج. سلمته السلطات القطرية بعد أن أودعته في سجونها. لفقت له تهمة سمجة: «محاولة تفجير جسر الملك فهد». وهكذا اختفى حسين. تبخر كنقطة في السديم. كان يمكن له أن يواجه المصير نفسه.
للمرة الثالثة منذ اندلاع الأحداث، اعتقل ابنها مهدي. السيناريو نفسه. داخلاً إلى السجون لأشهر وخارجاً لأشهر. حكم هذه المرّة لستة أشهر. هكذا، بلا هوادة. مرّ شهران. إضافة إلى كل ذلك، اعتقل أربعة أحفاد لها: يوسف، محمد، علي، ومحمود على فترات متفاوته. وقد قضوا مدداً قبل أن يجري إطلاق سراحهم.
تقول ابنتها جواهر «أمي تعبت كثيراً مما كابدته من ظلم طيلة هذه السنوات. فقدت طاقتها التي كانت تلهمنا العزم. هذه المرة فقط، ولأول مرّة، شاهدت أمي تبكي لاعتقال إخواني». تضيف «حين داهمت قوات الأمن بيتنا لاعتقال مهدي بعد إخلاء الدوار الثاني، كانت في حالة هستيرية. لم نتعود ذلك منها ومن شموخها». لكن رغم كل ذلك، تتابع جواهر «ما تزال تحث أبناءها على المشاركة في التظاهرات. إنها مؤيدة بشدة للثورة. تسأل عن الأخبار بشكل دائم. تدير الريموت كونترول لتلقط الأخبار والتحليلات من القنوات التلفزيونية». وتستدرك «ليس ذلك فقط، إنها تبدي آراءً أيضاً، وتناقش» على حد تعبيرها.
تواصل جواهر الحديث عن أمها «رغم كبر سنها ومرضها، إلا أنها أصرت على المشاركة في مسرة 9 مارس/ آذار. شاركت بكرسيها المتحرك. هتفت مع الشعارت التي كانت تدوّي من حناجر الجماهير والآلاف المؤلفة».
كيف تواجه شعور الأمومة إزاء كل ذلك؟ تعلق جواهر «مثل أي أم، تتألم كثيراً على فراق أبنائها. رغم ذلك، عنفوان الثورة يجري في عروقها. الحزن يمضها وروح الثورة تدب فيها كدواء». حتى اليوم، لما تزل تساهم الحاجة مريم بما تمتلك من مدخرات في التبرعات لإنجاح الفعاليات المعارضة التي تقام في قريتها سنابس. لآخر الأنفاس من عمرها: إنها صمود!