» رأي
الثورة في عامِها الثالث: عودةُ الربيع ووطنيّةُ المطالب
عباس المرشد - 2013-01-20 - 9:37 ص
عباس المرشد*
ليس هناك ما يمنع استمرار الثورة في البحرين عامًا آخر يُضاف للعامين المُنصرمين، رغم نبذ العرب لها، انطلاقًا من خلفيات مُشوّشة طائفيًا وسياسيًا، ورغم سعي الغرب المتكرّر للتغافُل عنها، لأسبابٍ اقتصادية وحساباتٍ سياسية، قائمة على مراجعة سياسات دعم الربيع العربي. فبعد عامين من الاستمرار في الثورة، وعجْز النظام عن مُحاصرتها والقضاء عليها، من المهم القول بأنّ النظام استطاع في بعض الأوقات، بدرجةٍ ما، أن يُحقّق بعض النجاح في سياسة إدارته الخارجية، وأن يضمن لنفسه مساحةً يتحرّك ضمنها، ليصف الثورة بالطائفية والمروق على ثوابت الربيع العربي. لكنّه لم يستطع، ولن يكون بمقدوره، الاستمرار في ذلك، وهو تحدٍّ جديد يُضاف لتحدّيات الثورة في ذكراها الثالثة. لقد تحرّك النظام، ومعه الموالاة، منذ 20 فبراير 2011 في مسارٍ ثُنائي مدروس يقوم على مرتكزين هما:
المُرتكَز الأول: هو محاولة طأفنة الثورة وتحريك الملف الطائفي داخليًا وخارجيًا، وكان هذا أساس خِطاب وزير الخارجية البحريني في 17 فبراير 2011، عندما قال إنّ مجزرة يوم الخميس الدامي كانت بهدف القضاء على الفتنة الطائفية التي أحدثتها الثورة في انطلاقتها. ومن بعدها، تولّى تجمّع الفاتح مسؤولية إدارة الملف داخليًا وخارجيًا، واشتد سُعَاره من بعد فرض الأحكام العرفية، في 15 مارس 2011، حيث نشِط رئيس تجمع الفاتح في سفراته ومراسلاته، للتشويش على حقيقة الثورة، وصبغها بالإطار الطائفي. وقد بُذِلتْ جهودٌ واسعة، مدفوعة الأجر، لتكريس مثل تلك النظرة الطائفية اتجاه الثورة في البحرين، ابتدأت من تصريح يوسف القرضاوي، في أبريل 2011، ووصفه لما يجرى في البحرين بأنّه ثورة طائفة ترغب في القضاء على الطائفة الأخرى. ولم يكن القرضاوي يتحمّل مسؤولية هذا التشويش لوحده، فقد أشار إلى أنه على كان اتصال مع مُريديه في البحرين، الذين أوصلوا إليه هذه الصورة. ثمار هذا المسار آتت أُكُلَها سريعًا، ليس لقابلية قبول الطائفية كمخرج وطريق لسَوق الأعذار عن تقديم الدعم والمساندة للثورة في البحرين فقط، بل أيضًا كان العنف، والإكراه، والثروة النفطية، وما يرتبط بها من تمويلٍ وعُقُود عمل، وصفقات أسلحة، ومصالح فوق طاقة مجتمع الثورة في البحرين.
المُرتكَز الثاني: هو محاولة إخراج الثورة في البحرين من نطاق ثورات الربيع العربي، مع أنها أكثرها اتصالًا، من ناحيةٍ ميدانية ومن ناحيةٍ مطلبية. فالثورة، التي انطلقت في 14 فبراير 2011، لم تكن يتيمةً داخليًا، وهي تستلهم حراكًا عمره عقودٌ من الكفاح والنضال والمعاناة، وهي ثورة تمتد جذورها إلى تاريخٍ طويل من التضحيات وتَقَبُّل عُنف الإكراه والتسلّط من جهة، وتاريخ يوازيه من المقاومة والرفض. فقبل انطلاق الربيع العربي، عرفت بعض المجتمعات العربية، منذ 2006، حركات اجتماعية مُتمرّدة ترفع سقف مطالبها، وتقوم على عنصر الشباب، وكانت البحرين من أهم تلك الدول، مع مصر والمغرب ولبنان. وعندما تحرّكت ثورات الربيع العربي، حدّد الشباب البحريني تاريخ ثورته قبل أيِّ أحد، وانطلق قبل كثيرٍ من ثورات الربيع العربي، ضاربًا مثالًا في القدرة على التحريك، والتعبئة، والحشد، ووضع ذلك كدليلٍ على صدق الثورة، وإخلاصها لمطالب الشعب، وتجاوُزِها حدود المكوِّنات الاجتماعية المُختلفة، والتلاوين السياسية الحزبية.
من هنا كانت فترة العامين المنصرمين من أقسى الفترات التي مرّت بها الثورة البحرينية. وهي الآن تجني ثمار صمودها ووعي القائمين عليها، فالنجاح -مدفوع الأجر- تلاشى أمام الوقائع اليومية، وأمام تراجع المدفوع لهم عن الترويج لمَقُولات النظام، بعد أن توقف الدفع لهم، في حين استمرت الثورة بشعاراتها الوطنية، دون أن تنجرف للحظةٍ واحدة ناحية الطائفية مع ما لقيته من محسوبين على الطوائف الاخرى محليًا وخارجيًا. فقد كان الرهان هو أن ورقة الطائفية، شأنُها شأن ورقة البلاطجة، قوية الأثر، مُنتهية الصلاحية، وهو ما يعني الصبر على آثارها، والقناعة بزوالها سريعًا. وأمام عودة الربيع العربي لواجهة الأحداث، بعد سرقته من قبل مجموعات لم تعرف الديمقراطية يومًا، لا مُمارَسةً ولا فهمًا، تعود الثورة البحرينية أيضًا في مقدمة العودة للربيع العربي، كمثالٍ ساطع في الأهداف والمطالب، بسقفيها الإصلاحي والثوري.
أمام ذلك تبرز الحاجة لرسم أولويات الثورة في انطلاقتها الثالثة، وهي أولويات تعكسها جهود الشباب في الميدان أساسًا، مدعومةً بجهود الآخرين. معنى ذلك، أنّ سُلّم الأولويات والأمور التي يجب النظر من خلالها هي رؤية الميدان نفسه، وهي أولويات مرسومة سلفًا، وقد برهن الشباب الواعي قدرة فائقة على إنجازها، فهناك أولوية تحصين الثورة من الشعور بالسأَم والإحباط، وأولوية الحفاظ على المُكتَسَبات التي تم تحقيقها طوال عامين، ومنها وطنية الثورة، وانخراطها في صُلب الربيع العربي بمفهومه العام لا المفهوم التحريفي الذي يُسوّقه البعض.
إنّ تحدّيات العام الثالث للثورة لا تزال تحتفظ بتحديات الفترة السابقة، لكن يُضاف إليها تحديات النهايات المؤسفة، التي ربّما تتحرّك تحت عناوين مُختلفة، ومُنطلقة من جهاتٍ مُتباينة أصلًا، فأمام الثورة عنوانين مُبهمين لحد الآن، الأول هو الحوار، وما قد يُفضي إليه من تسوياتٍ سياسية، قد تكون مُرضيةً للبعض، أو تُمثِّل الحد الأدنى، والعنوان الثاني هو المثالية الثورية.
كان عنوان الحوار قد سقط منذ 13 فبراير، في اللقاء الذي جمع أمين عام الوفاق مع الملك وإفصاح الملك عن رغبته في قمع أيِّ تحرّكٍ سياسي، وسقط مرةً ثانية وثالثة ورابعة، فهو عنوانٌ مضلِّل أكثر من كونه عنوانًا يُحيل لواقعٍ قادم، لكنه يظلُّ تحديًا باقيًا لم تنجُ منه كلُّ ثورات الربيع العربي. لذا فإنّ العنوان الثاني هو ما يُشكّل خطورةً أشد، لكونه عنوانًا ثوريًا يطمح لمثاليةٍ زائدة، تتخذ من النقد القاسي وسيلةً لتمريرها. وهُنا يُمكن مُلاحظة الكتابات الثورية المثالية، التي لا تَرى نصرًا إلا بوسائل مستحيلة أو غير مُمكنة، فخلف المثالية الثورية يقع العجز والإحباط، وكأنّها تؤكِّد القول بأن الثورة يجب أنّ تنتهي لصالح سقوفٍ أقل، والبحث عن سُبُل التحصين العسكري، الذي لا يُمكن الحصول عليه حاليًا وفي المدى القريب. إنّ خطورة هذا الطرح تُضاهي خطورة من يقبل بأيِّ مُخرجاتٍ سياسية تعود لما قبل 14 فبراير.
*كاتب من البحرين.