» رأي
قراءة في سوسيولوجيا ومآل الثورة في البحرين
يوسف مكي - 2013-01-09 - 6:48 م
يوسف مكي*
مثلت ثورة 14 فبراير 2011 مفصلا تاريخيا بين مرحلتين. مرحلة ما قبل 14 فبراير ومرحلة ما بعد 14 فبراير، وهي المرحلة التي تعيش مخاضها البحرين منذ حولين دون أن ينتج عنها شيئا لحد الآن لأسباب كثيرة، ولكن الأيام حبلى بالنتائج. وعندما نقول إن ثورة 14 فبراير تمثل حدثا فاصلا بين زمنين في تاريخ البحرين، فليس ذلك من باب المجاز، بل من باب الحقيقة والواقع.
فمن المعلوم أن البحرين قبل 14 فبراير كانت - وعلى كل الأصعدة – شيئا مختلفا عن البحرين بعد 14 فبراير، وعلى كل الأصعدة أيضا، وأقلها انكسار حاجز الخوف. لقد أحدثت هذه الثورة زلزالا في بنية المجتمع البحريني الآسن والراكد من جراء قوانين الاستبداد والحكم القبلي، كما اربكت السلطة وعرتها أمام العالم، وأبلغت النظام السياسي رسالة أكثر بلاغة من المنطق ومكتوبة بالدم، بأنه (النظام) غير قادر من الآن فصاعدا على حكم البلاد بطريقة ما قبل 14 فبراير، وبالتالي عليه الاستجابة لمطالب الثورة التي دشنت لمرحلة جديدة في تاريخ البحرين الحديث والمعاصر، بحيث أصبح النظام الخليفي أمام حقيقتين هما: عدم قدرته على الإستمرار في الحكم بالأساليب السياسية القديمة التي تجاوزها الزمن من جهة، وعدم قدرته على إنهاء الثورة أو تجاوزها إلى خيار ثالث من جهة أخرى. وبالتالي ليس أمامه إلا الإستجابة لمطالب الثورة طال الزمان أم قصُر. فبحرين المستقبل هي غير بحرين الأمس، ما قبل 14 فبراير، وما بعده.
هذا جانب. أما الجانب الآخر في ثورة البحرين، فمن دون شك أنها مثلت امتدادا لثورات الربيع العربي، ولا تختلف عنها في شيء من حيث المطالب والشعارات، والأهداف والزخم الجماهيري. وصحيح إنه قد تمت محاصرتها إقليميا ودوليا وتم التآمر عليه لأسباب معروفة وغير معروفة، لكن ذلك لا يقلل من أهميتها ومن كونها حلقة ضمن حلقات الربيع العربي وثورة شعب يتوق إلى الحرية والكرامة والديمقراطية في بحر من الأنظمة القبلية.
ولكن ما هو المضمون الا جتماعي والسياسي لهذه الثورة المغدورة؟ هذا ما سنوضحه في التالي:
أولاً: سوسيولوجيا الثورة:
يمكن القول ومن دون تردد أن الشباب في ثورة 14 فبراير يمثلون المحرك الأساسي، وهي ثورة مصبوغة بصبغة الشباب، وهي بهذا المعنى ثورة شبابية تحمل تطلعات وأحلام الشباب البحريني، وهذا ما لم يستوعبه النظام الخليفي. وأيضا هي ثورة شباب لأن المجتمع البحريني يمثل فيه الشباب الفئة العمرية الأكبر بين مختلف الفئات العمرية من بين السكان. وعليه لا غرابة أن يمثل شباب البحرين القطب الذي تدور عليه الثورة والطاقة الهائلة في تحريك الثورة واستمرارها على الرغم من شتى صنوف وفنون القمع والتنكيل من قبل النظام الحاكم، ولا غرابة أن يكون الشباب هم وقود هذه الثورة وضحاياها.
ثانيا: ثورة شعبية/ حالة عامة:
لم ينتم المحركون للثورة في البحرين إلى ايديولوجيا معينة، بقدر ما ينتمون إلى أيديولوجيا أحلام وتطلعات الشباب إذا جاز القول، وبهذا المعنى فإن ثورة 14 فبراير لا تنتمي إلى أيديولوجية معينة وليست مؤطرة في فكر معين، وهنا سر قوتها واستمرارها، فهي ليست صحوة إسلامية كما يرى البعض، وليست ثورة يسارية ولا قومية ولا برجوازية، ولاعمالية ولا لبرالية، ولا مثقفين. هي كل هذا الخليط، هي ثورة شعبية حركها الشباب ثم انضمت إليها بقية القوى والطبقات والفئات الإجتماعية والسياسية والأيديولوجية القائمة في الساحة البحرينية القديمة منها والجديدة لاحقا لاعتبارات كثيرة، ولحسابات مختلفة كل من موقعه، لكن كل هذه القوى الملتحقة بثورة الشباب لم تصنع الثورة، إنما تحاول استثمارها لتعديل أوضاعها الراهنة.
أعود للقول إن هذه القوى على تنوع مشاربها وأهدافها إنما التحقت بها، وأخذت بعض هذه القوى تستثمر بعض نتائج هذه الثورة لصالحها وتظهر نفسها وكأنها هي التي صنعتها، والأصح أنها تسلقت عليها، وللأسف الشديد بدافع من المصلحة الحزبية الضيقة فإن بعض هذه القوى تخّرب على الثورة بشعاراتها ومطالبها المائعة، بل تشوش الرؤيا على الثورة وتشق الصف الثوري، وتحد من زخمها الثوري، وهو ما يريده النظام، فكأن بعض هذه القوى تلعب فوق الطاولة تارة وتحت الطاولة تارة أخرى، وهو ما يضر بالثورة ضررا بليغا.
يضاف إلى تلك القوى الحزبية دخول قوى اجتماعية وشخصيات وطنية وتجار وأعيان ووجهاء بعضهم متضرر بشكل أو بآخر من النظام الخليفي، وكلها انضمت إلى هذا الثورة لأسباب كثيرة بعضها أخلاقي بسبب القمع الذي وقع على الثوار، أو لأسباب سياسية، أو لأسباب مصلحية، أو لأسباب مبدئية... الخ. مما جعل من الثورة البحرينية حالة عامة تشمل مختلف القوى المجتمعية والطبقية، فهي وفقا لهذا المنظور ثورة تحرير وطني ديمقراطي، لأنها بالإضافة إلى مواجهة النظام تواجه قوى احتلال سعودي جلبها النظام.
ثالثاً: ثورة غير طائفية:
أن تكون الثورة في البحرين من حيث قواها المجتمعية من الأكثرية الشيعية فذلك لا يغير من حقيقة كونها ثورة أسوة بالثورات العربية وغير العربية، ولا يقلل من قيمتها أبدا، ولا يجعل منها ثورة طائفية. فكل المجتمعات تتكون من قوى مجتمعية وطبقية وطائفية وعرقية، وليست بالضرورة كلها على خط واحد، وليس بالضرورة أن تتحرك وتثور كلها، وما يحدد حراكها إنما هو موقعها ومصالحها وشبكة علاقاتها مع النظام القائم، كما أن ما يحدد طبيعة حراكها ليس دينها ولا مذهبها ولا قناعاتها الدينية إنما طبيعة مطالبها السياسية، وحجم الظلم والاستبداد والواقع عليها.
ولإيضاح هذه الفكرة، فإن الثورة المصرية يمثل المسلمون فيها أكثرية ولم يقل عنها أحد أنها ثورة دينية أو إسلامية، أو طائفية، وحتى لو افترضنا أن المسيحيين في مصر لم يقفوا إلى جانب إخوانهم المسلمين ستظل الثورة هي الثورة، أي الثورة المصرية دون أن تتهم أو توصف بأنها طائفية، أو دينية، وهذا ما ينطبق على الثورة البحرينية رغم اختلاف ظروف البلدين، وأيضا إن مطالب الثورة هي مطالب سياسية وطنية تشمل الجميع، ولم تطرح الثورة في جميع الأحوال مطلبا فئويا أو طائفيا، ليقال عنها إنها طائفية. أما وصفها بأنها طائفية إنما هو وصف اعتباطي تعسفي، وهو ضمن آليات وألاعيب النظام وأعوانه في الداخل والخارج في مواجهة هذه الثورة.
إلا أن المشكلة فيما يتعلق بموقف الطائفة السنية السلبي من الثورة في البحرين إنما هو مرتبط بأمرين في غاية الأهمية: الأول هو أن الطائفة السنية – بوجه عام – استطاعت تكوين شبكة علاقات ومصالح طبقية مع النظام الخليفي على امتداد الأربعة العقود الأخيرة، الأمر الذي يمنعها موضوعيا من اتخاذ مواقف سياسية من شأنها تغيير الوضع القائم، أي إلغاء شبكة المصالح مع النظام التي تكونت عبر السنين، وما تجمع الوحدة الوطنية المزعوم إلا التعبير الملموس عن شبكة هذه المصالح للطائفة السنية.
الأمر الثاني هو قدرة النظام على استيعاب الطائفة السنية عموما من الناحية الأيديولوجية بالتعاون مع قياداتها القدامى والطارئين، ومحاولة تشويش ما يجري وبث الرعب لديها عن طريق طرح قضايا من قبيل (ولاية الفقيه، والانقلاب على السلطة، وجمهورية ولاية الفقيه، وعملاء وخونة، ومدعومون من إيران وحزب الله وأمريكا هذا فضلا عن المهاترات والإسفاف في إعلامه ومن قبل إعلاميي وكتاب النظام وتحويل المواقف إلى مهاترات شخصية) إلى ما هنالك من فذلكات وأساطير.
وهذه كلها انطلت على الطائفة السنية. وتم تحييدها من قبل النظام عن الحراك الجماهيري الذي هو في صالح الكل، لأنه حراك سياسي بامتياز وليس دينيا، مهما حاول النظام تصويره بغير ذلك. إنها ثورة اجتماعية/ شعبية سياسية ضد الظلم، ومن أجل الكرامة والديمقراطية، برغم محاولات النظام في تزوير الحقائق على الأرض وحرف الثورة عن مسارها الصحيح.
رابعاً: الأفق والمآل لثورة 14 فبراير:
حاول النظام الخليفي في البحرين إنهاء الثورة بشتى الطرق، بالقمع وبالعنف الممنهج، بالإعلام، بالتضليل، بالمحاكمات القراقوشية، بمنع الرقابة الدولية، بدخول القوات السعودية، والأهم من ذلك بشطر المجتمع واللعب على الوتر الطائفي، ليظهر نفسه للعالم أنه يحمي المجتمع/ الشعب من احتراب بعضه ضد بعضه. ومحاولة إقناع العالم بأن ما يجري في البحرين إنما هي حركة طائفية وليست ثورة. لكن كل ذلك باء بالفشل، ولم ينجح النظام في إنهاء الثورة، وهي مستمرة برغم كل ألاعيب النظام وشركات العلاقات العامة، ودعم القوى الإقليمية والدولية.
أما عدم قدرته في إنهاء هذه الثورة فيعود لطبيعتها وقواها المحركة المتمثلة في الشباب أولا، والقوى المجتمعية التي تحتضنها، حيث تستند إلى عمق شعبي وتحظى بدعم وتعاطف جماهيري ثانياً، وفي القيادات الميدانية غير المعروفة وتنويع أشكال النضال الجماهيري ثالثاً، وتخبط النظام في إدارته للوضع، وعدم قدرته على الإستجابة لمطالب الشعب وعدم قدرته على تقديم بدائل سياسية مقنعة للشعب رابعاً.
لذلك فإن ثورة 14 فبراير ستظل مستمرة حتى الإستجابة للأهداف التي خرج من أجلها الثوار، الأمر الذي يفرض على القوى المجتمعية والحزبية التي تريد الدخول في حوارات مع النظام أن تحسب ألف حساب لثورة 14 فبراير وحراكها المجتمعي وقواها الفاعلة.
ومن بين أهم هذه الحسابات أن أي حوار حقيقي وجدي بين المعارضة/ الرسمية والنظام إذا ما أُريد له أن ينجح، لا بد أن تكون القيادات السياسة المغيبة في السجون ومن مختلف المشارب، أقول لا بد أن تكون في مقدمة من يتحاور معهم النظام، نعم هؤلاء يجب أن يكونوا هم قيادة الحوار، هؤلاء هم من صنعوا الثورة، وليس من التحق بالثورة مهما كان حجمه ويرغب في استثمارها الآن، أو التشويش عليها بطرح شعارات وهتافات باهتة، ومنع شعارات أخرى لتحسين صورته أمام النظام.
تنويع أشكال النضال، وقد أثبت الثوار ذلك على امتداد سنتين، والطرح السياسي الوطني العام الجامع – مهما كانت مواقف الطائفة السنية - كل ذلك من شأنه أن يساهم في عزلة النظام، ويخلق البلبلة في صفوف من لم يلتحق بصفوف الثورة حتى الآن خاصة من الطائفة السنية، وعلى الأخص شخصياتها الوطنية والديمقراطية ومثقفيها ممن لم يفصِّلوا مواقفهم على مقاس النظام.
إن ثورة 14 فبراير جعلت النظام الخليفي في البحرين، ولأول مرة في تاريخه في مأزق مركب، تاريخي سياسي، وأخلاقي، كيف يخرج من هذا المأزق. ذلك غير معروف، بل كل المؤشرات تشير إلى أنه لن يخرج منه بحكم بنيته القبلية العصية على الإصلاح، ويبقى على ثوار 14 فبراير أن يعمقوا هذا المأزق، والاحتفاظ بأوراق القوة لديها لتنتصر الثورة في نهاية المطاف. هكذا هي ثورات الشعوب، قد تطول وتمر بمنعطفات، لكن لا بد أن تنتصر في نهاية المطاف، وهكذا هي الشعوب تبقى، وتذهب الأنظمة.
*باحث بحريني في علم الاجتماع.