» رأي
حصاد العفن الطّائفي
نادر المتروك - 2013-01-07 - 6:17 م
نادر المتروك*
الدّولةُ انتهت في البحرين. المواطنون فقدوا السّلطة التمثيليّة التي تجمعهم باسم الوطن، لا باسم الطائفة أو القبيلة أو المصلحة التّجاريّة. عائلة آل خليفة كشفت عن كلّ مخزونها القبلي. حفنةٌ خاسرةٌ تُديرُ السّياسة الأمنيّة في البلاد. هذه الحفنة، حُلمها الدّائمُ هو تدميرُ النّسيج الاجتماعي بين السّنة والشّيعة، وهو مشروعٌ لم تتوقّف الغرفُ المُغلقة عن دعْمه بكلّ الإمكانات المُتاحة، وعدم التردّد في الاستعانةِ بتجاربِ البُلدان الأخرى لتحقيق ذلك. هذه هي الخلاصة.
كان من الممكن أن تدخلَ ثورةُ البحرين في الطّور "الباهر" للرّبيع العربي، لو أنّ التركيبة الدّاخلية هنا خلتْ من ينابيع الشّحن الطّائفي. باتَ من الشّائع إلقاء المَلامة على المعارضة "الشّيعيّة" كونها لم تُجرِ أية محاولاتٍ جادة، وجذريّة، ومتواصلة، للتّخلّص من الإرث الطّائفي، والذي يُمثّل "بقعة الإمكان" بيد السّلطة. في الحالات التي استطاعت فيها المطالباتُ أن تُحقّق امتداداً وطنيّاً - عابراً للطّوائف - كان النّظامُ البحريني يُعِدّ جهازه "الفتنوي" المُعتاد، مستخدماً الفتيل الطّائفي لإحراق الأرض المشتركة التي تجمع المُعارضين لسياسات الاستبداد والفساد. من سوء الحظ، ينجحُ النّظامُ في كلّ مرة. في الغالب، لا يجدُ النّظامُ صعوبةً في الإجهاز على التّحالفات الوطنيّة، وإشعال الخراب المذهبي، ولكنه في أحداث ثورة 14 فبراير 2011م، وما تلاها، اضطرّ لإجراء تنويعاتٍ وتعديلاتٍ على لعبته القذرة، ولكن المفضّلة.
ثمّة مكوّنان أساسيّان يمدّان النّظام الخليفي في البحرين بجاهزيّته السّلطويّة. المكوّنُ الأوّل يتمثّلُ في الإطّراد القبيلي الذي يُحافظ عليه، وبواسطته أمّن نُصرةً "خليجيّة" مستميتة وفزعاتٍ غير محدودة من القبائل. أمّا المكوّنُ الثّاني فيتغذّى من التّمثيل المذهبي الذي يُصرّ عليه النّظامُ، بتقديم نفسه مُعبِّراً عن "الفضاء السّني"، ومدافعاً عن "أهل السّنة والجماعة". لم يكن "غلاف" الدّولة الحديثة كفيلاً بصْهر الانتماءات الفرعيّة، واشتغلَ النّظامُ على ديمومة هذه الأخيرة، لأجل توظيفها في إطار تعويض "الشّرعيّة" الدّستورية من ناحية، وإجهاض المطالبات المنادية بالانتقال الدّيمقراطي وتأسيس هويّة وطنيّة ومواطنيّة كاملة من ناحيةٍ أخرى.
في إطار قمْع الانتفاض الشّعبي؛ لن يكون مستغرباً أنّ النّظام لجأ – ولا يزال - إلى تسعير "الحميّة" القبائليّة والطّائفيّة، وبأعلى المستويّات الممكنة. ولكن - فضلاً عن فضْح الممارسة الرّسميّة - من المفيد مقاربة الظّاهرة الطّائفيّة في البحرين من زوايا أخرى، وتحديداً عبر الأسئلة البحثيّة التّالية: هل الهويّة السّنيّة في البحرين ضدّ الدّيمقراطيّة أصلاً، وأنّها لصيقة – بنيويّاً - بموالاة السّلطةِ السّياسيّة؟ هل ترغبُ الهويّةُ الشّيعيّة – فعلاً - في بناء ديمقراطيّةٍ حقيقيّة، أم أنها مازالت محكومة ببُعدها الدّيني/المذهبي، وبامتداداته الخارجيّة (إيران، العراق، ولبنان/ حزب الله)؟ لماذا تعثّرت المعارضةُ – وإلى حدٍّ واضحٍ – في طريق الامتداد الوطني؟ بأيّ معنى يمكن استيعاب الحديث "الجريء" للمعارضة "الدينيّة" برفعها شعار الدّولة المدنيّة، ولماذا لم يُقنع ذلك الكثيرين؟ ما دور التّيار الدّيمقراطي (العلماني) في تحقيق معادلته الوطنيّة والعبور فوق الاستقطابات المذهبيّة؟.
ثمّة هويّتان مركزيّتان تُشكّلان الصّراع الهويّاتي في البحرين، الأولى تتمثّل في الهويّة الشّيعيّة، والأخرى الهويّة السّنيّة. ومن الملاحظ أنّ أيّاً من القِوى المجتمعيّة الجديدة لم تستطع تكسير الصّلابة، أو اللّيونة، التي تتمتّع بها كلّ من هاتين الهويّتين. يُشار هنا إلى أنّ المجموعات الثقافيّة المتولّدة نتيجة الاحتكاك الثقافي خارج إطار الهويّات؛ لم تفلح في إحداث خرْقٍ ثقافيّ حقيقيّ، وخصوصاً فيما يتعلّق بمفهوم التّديّن، الذي طغى عليه الطّابع المذهبي. من جانبهم، استغرق دعاة العلمنة في معالجة عجزْهم الفكري، واستولت عليهم الآمال الشّعاراتيّة، والتي لم تخلُ من ردودٍ عناديّة ضدّ الإسلاميين الذين يسيطرون على الشّارع العام. يغيب كلّ هؤلاء عن التأثير في المشهد الهويّاتي للبحرينيين، في الوقت الذي تسيطرُ عليه الناقلاتُ المعنيّة بتخليد الهويّة المذهبيّة الخاصة، وتغليبها على الهويّات الجامعة.
تقوم الهويّةُ الشّيعيّة على الاندفاع نحو التّحصين وتأمين الخصوصيّة اللازمة. كان الإرثُ الحِمائي، في الأصل، يقومُ على الانشداد بالمظلوميّة ونحوها. لم تكن المظلوميّة، عند الشّيعة في البحرين، إرثاً تخيّليّاً، أو استعادةً أسطوريّة يتم تحضيرها لمواجهة الواقع. إلاّ أنّ التّشييد المظلومي تشبّعَ بالنّمط الكربلائي في أغلب الأحيان، وهو ما سيكونُ له تأثيره الكبير في إغراق المشهد الشّيعي بالبكائيّات، والإكثار من إظهار البطولات المبدئيّة (الثّبات والصّمود) في مقابل خفوتِ المبادرة السّياسيّة، وضعف قدرات الهجوم السياسي ضدّ السّلطة السّائدة.
لم يكن هذا الارتكاز سبباً في انكفاء الهويّة الشّيعيّة، بل العكس. لقد وجدت الأخيرةُ فرصتها الممكنة في إجراء الانفتاح الدّائم مع الهويّة الوطنيّة، وهو خيارٌ يكاد يكون حاجةً ملحّة – شبه ذاتيّة - لازمت الهويّة الشّيعيّة في البحرين منذ الاستقلال. لأسبابٍ لها علاقة بمركزيّة الاستبداد الخليفي، كانت الهويّة الشّيعيّة تضطرّ إلى إبراز ولائها الوطني، وإثبات القدرة على الاندماج في مؤسّسات الدّولة، لكن ذلك – من جهةٍ أخرى – كان سبباً في تفجير الاختلافات الفرعيّة داخل الهويّة الشّيعيّة نفسها.
وجدت الهويّة السّنيّة نفسها محاطة برعاية النّظام. لم يتهيّأ لهذه الهويّة رجالٌ يشيّدون فصولها بعيداً عن المكافآت التي يوزّعها شيوخُ النّظام. وفي السنتين الفائتين؛ وصلت هذه الهويّة أقصى درجات الالتصاق بالمشيخيّة الخليفيّة، لاسيما على يد رمزٍ دينيّ هام، هو الشّيخ عبداللّطيف المحمود، والذي أحبط كثيرين كانوا يرجون أن يكونَ استثناءاً يمكن التأسيس عليه.
أُحيطت هويّة السّنة في البحرين ببناءٍ عسكري، وأمني شديد المتانة.
خلال الأحداث التي شهدتها الثّورة؛ أشعلَ النّظامُ الخليفي أكبرَ حروبه الطّائفيّة ضدّ الشّيعة في البحرين. استفاد النّظامُ من خبراته السّابقة، وخصوصاً تلك المُحَصِّلة التي تأكّدت لديه، والتي تفيدُ أنّ المكوّن السّني في البحرين لم يتهيّأ بعد لصناعة رواياته ورؤاه بعمزل عن الضّخ الإعلامي الرّسمي، خاصةً أنّ النّظام استطاع أن يُحقّق ضماناً موثوقاً بارتباط السّنة – بنيويّاً – بهويّة النّظام السّياسي، وهو ما ترشّح خلال مقاطع حسّاسة في انتفاضة فبراير. لقد اعتبر شيوخُ السّنة النّظامَ "الخليفي" مُمثّلاً للسّنة، ورفضواً رفضاً قاطعاً الحديث عن أيّ تغييرٍ سياسيّ يُفضي إلى تهميش العائلة الخليفيّة، وإخراجها من دائرة الحكم، ولو على طريقة "الممالك الدّستوريّة العريقة". تأسّسَ هذا التّعريف الهويّاتي للسّنة من خلال جهدين مركّزين: الأوّل المزاوجة بين الحكم الخليفي من جانب والمكوّن السّني من جانب آخر، والثّاني الإيهامُ المتواصل بخطورة الانتقال الدّيمقراطي لجهة صعود الشّيعة سياسيّاً، وجنوحهم بالتّالي نحو "الانتقام" وتكرار "النموذج العراقي".
تحوّل هذا الإشباع التّخيّلي إلى مادةٍ سمكيةٍ تحصّنت خلفها هويّة أهل السّنة في البحرين، وأصبح من المتعذّر الخروج منها، أو التّفكير خارج إطارها.
بدورها، اجتهدت الهويّة الشّيعيّة في الخروج من ملابساتها التّاريخيّة، واستطاعت تسوية بعض صراعاتها الدّاخليّة، وقد تُوِّج ذلك بإنجاز حدٍّ ملموس من التوافق العام، والذي تلاقت عليه فروعُ هذه الهويّة خلال عامي الثّورة. وبدرجةٍ مركّزة، حقّقت هذه الهويّة ترضيةً توافقيّة هامة بحسْمها لمحدَّد الانتماء الوطني، وعدم وقوعها في إغراءات الاصطفاف الإقليمي - مثلما فعلت معارضات عربيّة أخرى – برغم الغزل الإيراني القائم دائماً. وفي هذا السّياق، يأتي تجانس أطرافٌ أساسيّة من الهويّة الشّيعيّة مع مفهوم الدّولة المدنيّة؛ (يأتي) تأكيداً على الاستعداد للمراجعة الذّاتيّة، والتخلّص من تابوهات أيديولوجيّة سابقة. تُفْهَم جدّية هذه المحاولة مع تصريح أوساط مؤثّرة في صناعة الهويّة الشّيعيّة بأنّها غير مؤمنة بإمكان أو جدوى تطبيق الدّولة الدّينيّة في البحرين، ونقطة على السّطر!
لأنّ ذلك يأتي خلْواً من التّأسيس الفكري، وبعيداً عن مهمّة إعادة صياغة المفاهيم جملةً وتفصيلاً؛ فإنّ الآثار تبقى محدودة. تظلّ العلاقة بالمرجعيّة الدّينيّة وطبيعتها محلاًّ لنقاشٍ مطلوب، وما إذا كانت هويّة الشّيعة في البحرين قادرةً – أو عاجزة - على إنتاج خصوصيّتها الإيجابيّة. في المقابل، تنسلّ من سنّة البحرين السّلوكيّاتُ الموبوءة بعبوديّة أهل السّلطة. يفرضُ الاصطفاف مع النّظام والتّطبيل له في كلّ شيء؛ تشبّعاً بالنّوازع المتفجّرة، أو الُمعدّة للانفجار، وبحسب رغبات الحاكمين. لاشكّ أنّ الاستفزاز المتبادل يُعيقُ الإنجاز هنا، ويُحوِّل السّؤال النّقدي، أو المراجعة المقترحة، إلى إجراءٍ مشكوكٍ فيه، أو يُنظر إليه باعتباره عملاً "فكريّاً" يستنزفُ الطّاقة التي تحتاجها ساحاتُ الصّراع السّياسي مع السّلطة (بخصوص الهويّة الشّيعيّة)، أو الصّراع مع المعارضة (بخصوص الهويّة السّنيّة). السّلطةُ، تنتعشُ في هذه المسامات الضّيقة. تنشرُ السّلطةُ العفنَ الطّائفي بين الجميع، وفي الأسواق المفتوحة. تُقدِّمه بوسائلها المختلفة وكأنه طعامٌ لا غنى عنه، وبدونه تكتبُ الهويّات المذهبيّة نهايتها (مجاعتها) المحتومة. وفي الحالتين، تتعثّر تلك الهويّات في إصلاح نفسها، وبالتّالي تزداد تناقضاتها الدّاخليّة، وصراعاتها مع الآخرين. وبين هذا وذاك؛ تبتسمُ السّلطة الدّكتاتوريّة ابتسامةً فاجرة!
* كاتب من البحرين.