علي الطويل المحكوم بالإعدام في سجنه الانفرداي: بين أفعى السلطة وسلّم الحرية «1-2»
2012-12-07 - 12:26 م
مرآة البحرين (خاص): مثل لعبة الأفعى والسلّم التي كان يلعبها صغيراً، يجلس (علي الطويل) محدقاً في بلاطات السجن الممتدة أمامه في حبسه الانفرادي، حيث لا أحد يشاركه الوقت (الطويل) غير المجهول، يجلس كمن يهزّ حجر النرد بين يديه، وعينه على الأفعى التي تريد أن تبتلع عمره ذا ال23 ربيعاً، والسلّم الذي يأمل أن يصعد به نحو النهاية التي يحلم بها: الحرية التي بشرت بها ثورة 14 فبراير..
يعرف علي أن أفعى السلطة أرادت ابتلاع سلّم الثورة وتسميمه، فكان لا بد من تأجيج الشعب على بعضه، وتلفيق قصص القتل والاستهداف الطائفي، وكان لا بد من ضحية يُلبّس ثوب الجريمة لإكمال فصولها، فكان هو أحد القرابين..
تُرى.. أيهما يصل إليه قبل الآخر، أفعى السلطة أم سلّم الثورة حيث الحرية؟ يغمض (علي) عينيه في الفراغ، ويلقي حجر نرده..
حكمت المحكمة حضوريا .. على المتهم الأول علي يوسف عبد الوهاب الطويل بالإعدام وعلى المتهم الثاني علي عطية الله مهدي شملول بالسجن المؤبد وذلك عندما قام المتهم الأول بدهس أحمد أحمد المريسي الشرطي بوزارة الداخلية بتحريض من المتهم الثاني في يوم 15 مارس 2011 في منطقة سترة الذي أدى الى وفاته.
رفعت الجلسة
المحكمة العسكرية
29/9/2011م
السجن الانفرادي
يتأمل علي الطويل الجدران الثلاثة الضيقة في السجن الانفرادي التي تفصله عن العالم منذ أكثر من عام ونصف، يحفظ تفاصيلها، تعرجات الجدار، خربشات ساكنيها القدامى، ترى ماذا كتب على الجدار؟ يتذكر أنه لا يتقن القراءة والكتابة، يعود بذاكرته للوراء حين هجر مقاعد الدراسة وهو في الصف الرابع الابتدائي أسوة بأخوته الأربعة، عمل صغيراً في نقل البضائع، وحين اشتد عوده أصبح سائقا في النقل الثقيل. يتذكر شغفه بالسيارات، شجعه على ذلك امتلاك زوج أخته ورشة لتصليح السيارات، فيما تراءت له صورة أمه الحبيبة حين كان يعطيها كل راتبه ويأخذ منها بضعة دنانير تسد حاجاته الأساسية، يلمح في عينيها الرضا فتمنحه السعادة.
السقف ها هو مجددا، الشقوق الرفيعة فيه تذكره بتصدّع عائلته منذ سُجن أخوه الذي يكبره بعامين في2010، حكم عليه بالسجن سبع سنوات في قضية حرق سيارة آسيوي. منذ ذلك اليوم والأم تحكم غلق بابها ليلاً حفاظا على سلامة أبنائها. يبتسم ساخرًا من تشابه التهم التي تختطف الحياة قسريًا من شباب هذه العائلة، حرق سيارة أو دهس سيارة. هاهو سجن (جو) يجمعه بأخيه لكنه لا يستطيع رؤيته إلا عند الزيارات المنتظمة التي تتم كل أسبوعين للعائلة، يضحك حين يتذكر ثرثرته طوال وقت الزيارة ومحاولة أخيه إسكاته فيقاطعه، حالك أفضل مني فأنت معك سجناء لكن صمت الجدران يلفني وحدي.
اكتشف علي متأخرا أن تجاهله لوضع البلد وابتعاده عن غمار السياسة لم يشفع له أبدًا. لم تراوده فكرة الذهاب لدوار اللؤلؤة ولو لمرًة من باب الفضول، بقي منشغلا بشغفه في معرفة أسرار ميكانيكا السيارات أكثر من معرفة ما يدور في ساحة الاعتصام بدوار اللؤلؤة. يعود متسخا بزيت السيارات عوضا عن أن يلوث عقله البسيط بهموم السياسة، ظلت قدمه بعيدة جدًا عن الدوار وحتى عندما حوصرت سترة في مارس 2011 نأى بنفسه بعيدا عن الاضطرابات، لكن الحذر لا يكفي للنجاة من يد البطش.
يحسب علي قطع البلاط على أرضية السجن، سبع قطع بالطول وأخرى بالعرض، يحسب منها 23 بلاطة هي عدد سنوات عمره، ويتساءل عن بلاطات عمره الباقية، هل ستطول كما اسم عائلته (الطويل)، أم ستقف عند هذا القُصر فقط! يمدّ رجله بينها، كل قطعة منها تذكره بفصل من فصول مسرحيته التي لا يعرف كيف صار بطلها فجأة، لكنه الآن يعيشها قطعة قطعة بكل مرارتها وإيلامها..
القطعة الأولى: سترة في 15 مارس 2011
تستعيد ذاكرة (علي) الفوضى العارمة في ذلك اليوم، بلطجية (مدنيون مسلحون) يقتحمون البلدة، ويتصدى لها أهل سترة، تتبعها تعزيزات من الشرطة ودخول قوات درع الجزيرة، كان حينها في ورشة زوج أخته القريبة من مركز الشرطة، طلب من صديقه أن يأخذ سيارته ويركنها بجانب البيت حيث الأوضاع الأمنية لا تنبئ بخير، لكن صديقه لم يتمكن، يركنها بجانب بيته في منطقة الإسكان، تلك المنطقة القريبة جدا من تمركز البلطجية وقوات الجيش، قام هؤلاء بتكسير سيارات المدنيين التي كانت تقف أمام بيوتهم، اتصل به صديقه ليخبره أن سيارته تعرضت للتكسير. خرج علي مسرعًا، لكن رائحة الغاز المسيلة للدموع خنقته، ذهب إلى المركز الصحي، وهناك رأى رأس الشهيد أحمد فرحان، وإصابات الشوزن تملأ جسد الشباب، ترك المكان مذعورًا وذهب إلى بيت صديقه.
كان الجيش وقتها بعيدا عن تلك المنطقة التي تقع خلف محطة البترول، فتمكن من أخذ سيارته المكسورة نوافذها والمنزوعة أرقامها للبيت. حوصرت سترة لمدة ثلاثة أيام من قبل قوات الجيش، غرقت المدينة في الصمت. المداخل مغلقة والطائرات المروحية تحلق على ارتفاع منخفض، تطلق على أي شيء يتحرك.
أصلح علي سيارته، بعد شهر غادرت عائلة الطويل سترة، لكنه فضَل أن لا يخرج منها وسكن في بيت أخته لقربه من مكان عمله والورشة التي تقع أسفل العمارة. ينتفض فجأة، الذاكرة موجعة جدًا، يمد قدمه اليمنى على البلاطة التي تليها.
القطعة الثانية: قاتل ماشافش حاجة
يضغط بعينيه بقوة مسترجعا أهوال ذلك اليوم الذي قاده إلى هذه الزنزانة الضيقة، يعود إلى 19 أبريل 2011، التاريخ الذي داهمت قوات الأمن منزله في السادسة صباحًا، وحينما لم يجدوا أحداً، هاجموا منزل أخته فألقي القبض عليه، سألهم عن السبب فرد الضابط: ستعرف بعد قليل بعد أن تنال الضرب و(التعليق) المناسب.
في الخارج كانت تنتظره 11 من أجياب الأمن والمدنيين، تم جرجرته وضربه على مرأى الجيران، غطوا وجهه بملابسه وأوسعوه ضربا في الرأس والبطن والظهر وفي منطقة الحوض دون توقف، استمر الأمر داخل السيارة وسط شتائمهم: ابن ال..، أمك .. ، الشيعة خونة، الشيعة كلهم أولاد حرام.
في مركز مدينة عيسى جُرجر لإحدى الغرف، بطحوه أرضا على وجهه ورفعوا قدمه إلى أعلى، كان صوت (الهوز) وحده ما ينافس صرخات الطويل الموجوعة. يتساءل الطويل: لماذا كل هذا ماذا فعلت؟!. يأتيه الرد: اعترف أنك قمت بدهس الشرطي. أنت قاتل، قريبك حسن الطويل قال إنه شاهدك وأنت ترمي قطع كبيرة من نوافذ سيارتك خارج المنزل. يصرخ الطويل: لم أقتل أحدًا، كيف ذلك وزجاج السيارة عادة ما يتفتت إلى قطع صغيرة في حالة أي حادث. ولنفترض، ما علاقة زجاج السيارة بقتل الشرطي؟!!
هذا الرد كان كافياً لينال الطويل 13 ساعة تعذيب متواصلة لم يقطعها نوم أو أكل أو ذهاب للحمام أو حتى صلاة. كان عليهم اتمام المهمة في مركز التحقيقات الجنائية بمنطقة العدلية بالعاصمة، نقلوه هناك وأوقفوه في الممر وهو معصوب العينين، يسمع صوت كبيرهم يأمر بتعذيبه. بعد أن تنضج الأجساد المسلوخة يكون نزع الاعترافات سهل جدًا. يأمرهم بإدخاله مكتب التحقيق، يعرف (الطويل) فيما بعد أن ذلك الكبير هو المقدم مبارك بن حويل الذي شهد عليه في المحكمة العسكرية فيما بعد، يبدأ بسؤاله: من حرضك على الدهس؟ ومن الذي أمرك بدهس الشرطي؟ أذكر أسماء الشيوخ الذين أمروك؟ يتخلل الأسئلة جرعات من الضرب ويواصل بن حويل: أعترف أنك قمت بدهس الشرطي وأن محمد حبيب المقداد هو من حرضك، كانت الإجابة واحدة: لم أقم بدهس أحد، ولم يحرضني أحد على شيء.
لم يصمد (علي الطويل) أمام التعذيب (الطويل). لم تسلم قطعة من جسده من الضرب حتى تلك الحساسة التي سبق وأجرى فيها عملية قبل فترة طويلة. الانهيار من شدّة الألم مدعاة للاعتراف بأي شيء، جريمة قتل كانت أو حتى قلب نظام الكون. حضر اسم المقداد محرّضاً كما أرادوا، وحضرت معه كل الاسماء التي يعرفها، بينها علي الشملول الذي اتهم فيما بعد بالتحريض وحكم عليه بالمؤبد.
بعد نزع اعترافه أُلقي في أحد الممرات معصوب العينين، توقفوا عن ضربه مؤقتا حتى اعتقلوا علي الشملول، نال هو الآخر نصيبه من الضرب لكنه لم يرض أن يعترف بشيء لم يرتكبه. عند الظهر طلب الضابط سلمان الغتم من الطويل: حاول أن تقنعه بالاعتراف أفضل لكما. فك الرباط من عينه ودخل يقنع الشملول بالاعتراف. لم يتعرّف الشملول على الطويل الذي بدا وكأنه مومياء من التعذيب، كان المنظر كافيا ليفهم الشملول بأن مصيره لن يختلف عن الطويل وعليه بأن يعترف بتحريضه للطويل على دهس الشرطي ويلبسان القضية.
توجس الطويل وطلب لقاء الضابط حويل، قال الطويل: هذه الجريمة لم نقم بها. رد حويل: كيف بعد الاعتراف؟الطويل: فعلنا ذلك بسبب التعذيب، وأنا مريض لا أحتمل ومرهق من التعذيب. بن حويل: هذا الكلام ليس له مكان عندنا.
علي الطويل أمام شاحنته حين كان يعمل سائق شحانات |
طلب الطويل الاتصال بعائلته فأجابه بن حويل: سنسمح لك بالاتصال شرط أن لا تغير أقوالك بعد الاعتراف. وافق على مضض، لحظتها كان يفكر فقط أن يطمئن والدته، كان صوتها الحاني على الطرف الآخر من الهاتف: ولدييييي. أجابها: أمي لا تخافي، أنا بخير. كانت نبرة صوته المنهكة كافية لتتخيل الفحش الذي قاموا به، انهارت باكية لكنه تصلب لأجلها، لم يخبرها بما حدث الإ بعد مدة طويلة حين التقاها أول مرة.
بعد يومين أحضروا للطويل إفادات مكتوبة للتوقيع عليها، دون الإطلاع على المحضر الذي لم يعرف ما كتب فيه فهو لا يتقن القراءة، شجعهم ذلك لانتحال توقيعه في محاضر التحقيق والنيابة لاحقاً.
بعد ستة أيام وضعوا الطويل والشملول في زنزانة واحدة مع مجموعة أخرى من السجناء، تعاطف معهم الآسيوي المتهم في قضية جنائية وهو يرى كم الضرب والإهانات والشتائم تنهال على المحكومين في قضايا سياسية، فكان يقوم بعمل تمارين للطويل لتخفيف آلام التعذيب. في هذه الفترة حضرت النيابة العسكرية للتوقيع على إفادتهم من دون التحقيق معهم!!!
القطعة الثالثة :سجن القرين والمحكمة العسكرية
صرير الباب الحديدي جعل الطويل يفتح عينيه، إنها وجبة الغذاء دجاج مقلي، يتناول بقدر يسير طعامه، يمد يديه من خلال فتحة الباب الحديدي ويناول زميله في الزنزانة الملاصقة له بقية الدجاج، منذ تعرضه للضرب في منطقة البطن لا يستطيع تناول الطعام جيدًا. يختار الجلوس على القطعة الثالثة من البلاط، يكمل ببطء وجبته ويستذكر حكايته. بعد انقضاء الأيام الستة نقلا الى سجن القرين العسكري، المعاملة سيئة جدًا هناك، واستمر الضرب والشتم حتى منتصف يونيو أي بعد شهرين تقريبًا من بدء الاعتقال، تغيرت الإدارة وتحسنت المعاملة تدريجيا وحتى الأكل تحسن نوعا ما. توقف الضرب والتعذيب قبل مجيء لجنة تقصي الحقائق "لجنة بسيوني" والتي زارت السجن آنذاك لفترة وجيزة.
بعد مضي ثلاث جلسات، وافقت المحكمة العسكرية على طلب أهله بتوكيل محامي، وفي الجلسة الرابعة تواجد المحامي وأهله في المحكمة العسكرية. علقت المحاكمات بتاريخ 5/7/ 2011 وبعد ثلاثة أشهر أصدرت المحكمة العسكرية حكم الإعدام بحقه والمؤبد بحق علي الشملول.
ما هي الحيثيات التي اعتمدتها المحكمة للنطق بالإعدام؟ وما مدى صحتها؟ وأين مات الشرطي المريسي؟ وفي أي وقت؟ وكيف فنّد الدفاع الادعاءات وطالب بتبرئة الطويل؟ هذا ما سنكشفه في الجزء الثاني من هذا التقرير..