» رأي
وفاة الفاتح: لا قبر لكم !
عادل مرزوق - 2012-10-30 - 7:17 ص
عادل مرزوق*
بدأت قيادات الفاتح تتعايش وطور تجمع الوحدة الوطنية الجديد، طور (التحلل) للكيان (المارد). هستيريا كان آخر تجلياتها الصراع حول هوية أحد الحسابات في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، وقبله الخلاف والاختلاف حول الدور الذي يلعبه مراسل إحدى القنوات الفضائية المتورطة بتأجيج الخطاب الطائفي في المنطقة، لا البحرين وحدها.
وهي هستيريا – على أي حال - ليست في معزل عن حوادث وانعطافات سابقة كانت أكثر دلالة وأهمية: الانسحاب (الناعم) للمكونين الرئيسيين في التجمع الإخوان المسلمين (المنبر الإسلامي) والسلف (جمعية الأصالة)، والتصريحات المتتالية ذات الطابع الانهزامي لشيخ الفاتح عبداللطيف المحمود التي اشتكى فيها من قلة المال والرجال. إذاً، نحن أمام حزمة من الخسارات المتتالية التي عصفت وتعصف بتجمع الفاتح، وتحتاج هذه الخسارات إلى الوقوف عندها، وسبرها.
بهاليل الفاتح: ليست سخرية
بهاليل الفاتح توصيف قد يحمل في مضمونه إيحاء سلبياً، لكنه على أي حال تعبير مجازي لا يقصد السخرية بل لعله يحمل الكثير من التعاطف الحذر، إن صح التعبير. فتجمع الفاتح الذي يبدو أنه ينتظر إعلان الانهيار الكامل لم يكن في حقيقته حشداً أو جمهوراً حقيقياً، بقدر ما كان حشداً مصطنعاً، صنعته مؤسسة الحكم لتنفيذ مجموعة من الأهداف الإجرائية التي كانت مرسومة وفق خطة متكاملة ومحكمة. وبمعنى أكثر وضوح، لم يكن الفاتح تجمعاً عفوياً ينسجم في أي مستوى من مستوياته مع مضامين وخصائص (الجمهور) وفق تعريف عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون. وعليه، يبدو إصدار شهادة الوفاة إجراء طبيعياً، اليوم أو غدا.
كان الشيخ عبداللطيف المحمود – ودون أن يدري – دقيقاً جداً حين كان يرفض بإلحاح تصنيف الفاتح ممثل (الإسلام السني) في البلاد، فالجماعات في تشكلها ليست المجموع الفيزيائي للأفراد الذين يصطفون في تشكيلها، بل هي النتيجة الكيميائية بالضرورة. وهنا تكمن إشكالية الفاتح: انه تجمع لا لهدف، أو لشعار، ولذلك كانت نهايته طبيعية في ظل انتفاء أوردة التغذية الرئيسية للجماعة، وهي (الدولة).
كان جمهور الفاتح جمهوراً نفسياً وفق تعبير فرويد، ولذلك كان جمهوراً مؤقتاً، انتهى بزوال الحالة النفسية الانفعالية الذي صنعته.
تجمع الفاتح: كيمياء الانفعالية
لكن ماذا يكون تجمع الفاتح إن لم يكن ممثل الإسلام السني الذي وقف في ساحة جامع الفاتح بالجفير ليحدد خيارات الطائفة في البلاد بالوقوف وراء مؤسسة الحكم؟
في سبر تأسيس تجمع الفاتح والحوادث التي تلت ذلك مروراً بالهجوم على دوار اللؤلؤة حيث كان جمهور المعارضة ينفذ اعتصامه السياسي وهجوم الجماعات المدنية المسلحة على القرى وجامعة البحرين ودخول قوات درع الجزيرة وإعلان ملك البلاد حالة السلامة الوطنية، تتصل كل هذه الحوادث بالنتيجة الكيميائية التي كانت الدولة تريد صناعتها في الفاتح، إنها حالة (الانفعالية) التي ستؤسس لاحقاً لجميع السلوكيات اللاعقلانية العنفية المتوحشة للنظام.
وفق تعبير غوستاف "تتداخل العناصر المكونة للجماعات بين بعضها البعض وتتركب من أجل توليد مادة جديدة مزودة بخصائص مختلفة عن تلك التي كانت تتحلى بها العناصر المفردة قبل تركيبها". والمادة الجديدة التي كانت مؤسسة الحكم تسعى لصناعتها كانت الانفعالية التي هي الوقود والأداة وجهاز صناعة المبررات لكل ما ستقدم عليه السلطة لاحقاً من جرائم وإنتهاكات وعمليات قتل واختطاف منظمة.
كان تجمع الفاتح الجسر الذي احتاجته مؤسسة الحكم للعبور للدولة المتوحشة التي ستسحق دوار اللؤلؤة بمن فيه بعد اعلان السلامة الوطنية في الخامس عشر من مارس 2011. وهو ما حدث فعلاً.
الفاتح: معبر الدولة المتوحشة
لكن كيف تمت صناعة هذا الجمهور (المنفعل) و(المجروح) الذي سيساهم بل ستشترك قاعدة كبيرة من مكوناته في سلسلة الجرائم والانتهاكات بالوشاية والتبرير بل وبالمساهمة المباشرة في الانتهاكات والجرائم. عمدت الدولة إلى استخدام آليات يصنفها غوستاف بأنها الوقود الرئيس في صناعة الجماعات المنفعلة، وهي بالمناسبة (عملية) و(آلية) كانت مؤسسة الحكم غالباً ما تعتمدها في القضاء على جميع الحركات الوطنية المناوئة للحكم الديكتاتوري في البلاد.
تبدو الرابطة الدينية أسهل ما تقوم عليه الجماعات، بل لعلها أبسطها وأكثرها قدرة على التشكل والفاعلية. وهو ما كانت السلطة بحاجة له بعد تشكل التجمع المضاد لها في فضاء دوار اللؤلؤة في قلب العاصمة المنامة. كانت (الطائفة السنية) ورقة اللعب التاريخية للسلطة، بل أكثر أوراقها فاعلية، وبالتالي كان استدعاء (الطائفة) الخيار الوحيد لتنفيذ مخططها التنويمي للجمهور المزمع صناعته في الفاتح. وكانت شخصية الشيخ العائد من منفاه السياسي عبداللطيف المحمود الأكثر قدرة وإقناعاً لتغطية الاجتماع وفق الجوهر الديني، وليس الملك أو حتى رئيس الوزراء أو ولي العهد. دخل المحمود الفاتح ليدشن في خطابه الأول مشروع (طائف بحريني) لكنه انتهى لحيث أريد له أن ينتهي، وهو تنفيذ أجندة مؤسسة الحكم بإمتياز. ولا أهمية هنا، للاختلاف ما إذا كان المحمود يعلم تفاصيل هذا الدور، أو لا.
ولأن العقائد لا تتشكل بتعبير جورج طرابيشي إلا عن "طريق التحريض والعدوى والإيحاء التنويمي"، تشكل الفاتح باعتباره النتيجة الفعالة والمحصلة لمجموعة من الرسائل التي تكفل مختبر تلفزيون البحرين بصناعتها، فالاستغاثات الطائفية التي كانت تخرج من استديو تلفزيون البحرين (بشهادة العاملين فيه) كانت رسائل مسجلة بأصوات أفراد عاملين في وزارة الداخلية جلبوا خصيصاً لقراءتها باعتبارها رسائل اسغاثة حقيقية، كما عمدت الدولة لاستثمار أهم أدوات الثورة (وسائل التواصل الاجتماعي) لتبث رسائل تحريضية تارة وتخويفية تارة أخرى. منها: الهجوم على القرى ذات الغالبية السنية/ اختطاف النساء من الطائفة السنية/ مهاجمة المرضى في السلمانية. وفي المحصلة: أصبحت حماية الطائفة هي (الخزان الرئيس) لصناعة الانفعالات الكبرى في شارع الطائفة السنية التي ستتفجر في ساحة مسجد الفاتح تجمعاً بخصائص أكثر الجماعات انفلاتاً وشراسة، حيث كل شيء يقوله إعلام الدولة (حقيقة)، حيث تعلق المشانق، وحيث لا عفو، وفق القاعدة المشهورة: لن نقول عفا الله عما سلف!
ضمير الجماعة
الذي كانت الدولة تحتاجه بعد صناعة الفاتح والحالة الانفعالية المتهورة، هو إنهاء ما يسميه فرويد بقانون (الحصر الاجتماعي) في البلاد، ذلك أن قانون الحصر الاجتماعي هو نواة (الضمير الاجتماعي) الذي قد يقف عائقاً أمام الانتهاكات التي خططت الدولة لتنفيذها.
كانت الميليشيات المدنية من أفراد قوة دفاع البحرين ووزارة الداخلية من سيتكفلون بإنهاء وتعكير البيئة القانونية، ليكون بمقدور الدولة القفز على كل الحواجز والعبث بالضمير الاجتماعي في البلاد. وهكذاـ أقدمت الدولة على انتهاك قوانينها في عمليات الاختطاف والقتل والتعذيب قبل القوانين والاتفاقات الدولية التي تكفلت بتعطيلها مع إعلان السلامة الوطنية كما كشف ذلك لاحقاً رئيس اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق محمود شريف بسيوني في تقريره.
التنويم وصناعة الكراهية
في الفاتح، تعرض الجمهور الذي ساقته الانفعالات العاطفية وتراجيديا تلفزيون البحرين لساحة الفاتح لحالة تنويمية. حالة تنويم كانت برسم مهمة تكفل بإنجازها من تصدر منصة الفاتح من القيادات التي ساهم كل منهم بما يستطيع/ يجيد في صناعة الكراهية. وهي بالتأكيد، كراهية تريد لها الدولة أن تكون كراهية فاعلة، مؤثرة، تتمخض وتنتهي عند المشاركة في حفلة الزار المقبلة، أو تبريرها على أقل تقدير.
ما حدث في الفاتح، كان صناعة مكتملة العناصر لأسوأ ما قد تتمخص عنه عملية صناعة الجماعات، ووفق تعبير غوستاف هي "الجماعات التي لا تستخدم قوتها إلا في الهدم والتدمير".
كان تعويل مؤسسة الحكم في تجمع الفاتح يرتكز على صناعة "جمهور سريع التاثير، سريع التصديق" لروايتها وتفسيراتها. جمهور بتعبير فرويد "يعوزه الحس النقدي، ولا وجود في نظره للمستبعد الحدوث"، وهكذا تصبح كل القصص التي حاكتها السلطة عن: أسلحة السلمانية، الأطباء الجزارين، جماعة الدوار الذين يختطفون السنة لتعذيبهم ويلاحقون الأجانب في أزقة المنامة لقطع ألسنتهم ونحرهم على مذبح الطائفة، تصبح كلها قصص (حقيقية) في تلك الحالة الانفعالية، حقائق لا تحتاج للإثبات، أو التشكيك فيها.
مثلث المصيدة بحسب علماء الاجتماع كان مكتملاً، الخطر والخوف وطوق النجاة. الخطر هو المعارضة الشيعية التي تسعى لإقامة جمهورية إسلامية تذبح السنة. الخوف هو اعتصام اللؤلؤة، وأخيراً، طوق النجاة هو إعلان حالة السلامة الوطنية ودخول درع الجزيرة ومذبحة الخامس عشر من مارس 2011 وما تلاها.
ولذلك، تصدى المتحدثون في الفاتح الأول وما بعده لمهمة صناعة كراهية ضارية، تارة عبر سلسلة من التحريضات العقلائية التي كانت تسعى لجذب النخب، وتارة أخرى عبر التحريضات المشتطة لتحفيز القواعد الشعبية.
إجرائياً، لقد مثل 15 مارس 2011 صدمة وطنية لا يمكن تجاوزها، خصوصاً وأن حفلة الزار التي أشرفت عليها مؤسسة الحكم قد مارست من الانتهاكات والجرائم في حق الأغلبية الشعبية في البلاد ما لم يشهده تاريخ البحرين حتى في حقبة العزل البريطاني لحاكم البحرين السابق عيسى بن علي آل خليفة، تلك الفترة السوداء التي أعاد الملك حمد بن عيسى آل خليفة تفاصيلها كاملة.
ما الذي تغير؟
أفاق الكثيرون من جمهور الفاتح من حالة الانفعال التي أيقنت السلطة بعد تقرير بسيوني والإدانات الدولية أن لا حاجة لها اليوم، بل أن وجودها بات يمثل خطراً على السلطة ذاتها.
كل ما باركته نخب وجماهير الفاتح في فترة السلامة الوطنية وما بعدها بدأت تشكك فيه، الحقائق التي بدأت تتكشف بالنسبة للكثيرين أحدثت فارقاً في المواقف، لا أسلحة في السلمانية، لا أنفاق، لا مشاريع انقلابية، لا أطباء مسلحون، ولا مخطوفون.
انتهى مفعول عقار التنويم الطائفي في الفاتح، وأفاق (الضمير الاجتماعي) لدى البعض. مات الفاتح، لكن لا قبر له. فالولادة كانت أيضاً: كذبة!
* كاتب وصحافي من البحرين.