هل المنبر التقدمي معارض أم موالي؟ (تقييم حالة)
2022-11-18 - 2:51 م
ملاحظة واجبة: هذه ورقة محبة للمنبر الديمقراطي التقدمي في البحرين وليست هجومية عدائية. إذا حصل أن شذّت بعض تعبيراتها أو شطحت فإننا نأمل أن تُعزَى إلى خطأ التقدير البشري لا إلى سوء نية. إن الإيمان بأهمية المراجعة النقدية ينبغي أن يشمل أيضاً نقد المراجعة النقدية. ومهما كان النقد حادّاً أو مشتملاً على نوع من القسوة فهو ما يزال من أصول النقد وأصول الحجاج اللذين عرفت بهما ثقافتنا.
مرآة البحرين (خاص): هناك سلوك تلجأ له أسماك القرش الكبيرة يُدعى "الجنوح" حين تضطرّها الحاجة الملحة إلى الطعام إلى الجنوح نحو المياه الضحلة في الشواطيء والتي كثيراً ما كان ضحاياها من البشر.
يعزو العلماء أسباب هذه الظاهرة إلى المرض الشديد أو الإصابة أو الشيخوخة. الأمر الذي يفسّر لنا لماذا تقوم أسماك القرش الجانحة بهذا السلوك فُرادى عادة وليس في جماعات. وكثيراً ما تنتهي العملية بعلوق أجسامها الضخمة في رمال المياه الضحلة ما يؤدّي إلى نفوقها. اللهم إلا إذا حالفها الحظ بالحصول على تدخّل خارجي من البشر لتحريرها وإعادتها ثانيةً إلى مياه المحيط.
تشبه استدارة المنبر الديمقراطي التقدّمي في البحرين منذ ما أطلق عليه "وثيقة المراجعة النقدية" التي أقرتها لجنته المركزية بعد أيام من رفع قانون السلامة الوطنية في يونيو 2011 عملية جنوح أسماك القرش المريضة إلى الشواطيء لتأمين حاجتها من الطعام معرضة حياتها وحياة الآخرين إلى الخطر.
لقد نجم عن مشاركته القصيرة في تحرك 2011 إصابته بمرض شديد الفتْك هو الانقسام الطائفي بين الشيوعيين التقدميين الشيعة الذين تبنّوا تقريبا مواقف المعارضة الشيعية والشيوعيين التقدميين السنة الذين تبنوا تقريبا مواقف الموالاة السنية والحكومة. فكان لابد له من القيام بعملية "جنوح" كبيرة في المياه الضحلة الآسنة لمعالجة مشكلات داخلية قُدّمت لنا في "وثيقة المراجعة النقدية" على أنها مشكلات خارجية حصلت في حركة 14 فبراير.
من أجل نجاتها تحتاج سمكة القرش جعل عملية الجنوح خاطفة وسريعة تتفوق فيها السرعة على درجة الشدّ العالي للوزن الثقيل في المياه الضحلة بفعل تأثير الجاذبية الكبير وإلا فإن مصيرها العَلَق والموت. وهذا هو الشيء الذي لم يستطع المنبر التقدمي تفاديه منذ عملية "الجنوح" الكبيرة في 2011.
لم يكن جنوحاً خاطفا وسريعا يرمّم به وحدته الداخلية ليعود بعده محصنا قويا إلى جبهة العمل المعارض بل أطال المكث هناك وعَلَق فيما تعلق فيه أسماك القرش مضحيا بإرثه وتاريخه. فكان أن أوقف كافة عمليات التنسيق مع "التحالف الرباعي المعارض" بما في ذلك التوقف عن حضور جلساته والمشاركة في مسيراته واعتصاماته وأنشطته بل حتى في مشاورته في خطوة خطيرة نعرف الآن نتائجها البائسة جيداً كقبوله الدخول في اللجنة المكلفة بمتابعة توصيات تقرير لجنة تقصي الحقائق ضارباً عرض الحائط بكل النصائح التي قدمت له.
بعبارة أخرى لقد "لحَمَ" المنبر في هذا المكان ولم يستطع منه فكاكاً حتى باتت "وثيقة المراجعة النقدية" نفسها تمثل عقبة معرفية بحاجة إلى "وثيقة مراجعة نقدية" حولها. فهي لم تكن مراجعة في الحقيقة بل كانت تعبيرا عن انتصار فريق على فريق آخر أخذ المنبر إلى المكان الذي هو فيه و"اللاحم" في بطْحه الآن. "اللّحَام" من الالتحام وهي كلمة من قاموس البحر أيضاً يستخدمها البحارة البحرينيون كثيراً عند وصف شيء يشبه علوق سمكة القرش في المياه الضحلة. ويقال عن الطرّاد "لاحم" أي عالق في الرملة.
مع انتصار الحكومة على الاحتجاجات انتصرت معها رؤية الفريق الحكومي في المنبر التقدمي على الفريق الآخر الذي اجتهد بالمشاركة في الأحداث. وفي الحقيقة فإن هذا لم يكن شأن المنبر وحده فقد شهدنا حالات مماثلة في مؤسسات المجتمع المدني الأخرى مثل أسرة الأدباء والكتاب على سبيل المثال التي عُرِفت تاريخيا بأنها كيان معارض لمثقفي وأدباء اليسار بفرعيه قبل أن تقوم هي الأخرى بعملية "جنوح" خاصة بها تأكيداً لانتصار الفريق الحكومي على الفريق الآخر "لتلحَمَ" هي الأخرى في هذا المكان إلى اليوم. حتى يمكن تصور شكل الفريق الحكومي في المنبر التقدمي وبلواه يكفي التأمل فقط في وجه العضو المنبري "الواشي" يوسف الحمدان!
منذ هذه اللحظة يمكن البدء بإعادة تعريف المنبر التقدمي عبر إعادة طرح أسئلة الموالاة والمعارضة عليه وليس التسليم بمعارضته.
إنّ سؤالنا عن ما إذا كان المنبر التقدمي معارضاً أم موالياً اليوم يشبه سؤالنا عن ما إذا كان الرئيس السابق للمؤتمر الدستوري عبدالعزيز أبل معارضاً أم موالياً اليوم. ولجعل الأمر أكثر راهنية وقابلية للفهم يمكن القول إنه يشبه أيضاً سؤالنا عن ما إذا كانت زينب عبدالأمير النائبة الفائزة مؤخراً من الجولة الأولى بمقعد سابعة العاصمة موالية أم معارضة!
اليوم لا يفعل المنبر التقدمي شيئا غير ما تفعله النائبة زينب عبدالأمير من الحلطمة والتبرم والحرد على الأوضاع عبر جرعات نقد مضبوطة ليس لها قيمة تشبه تلك التي وصفها لنا الإمام علي في إحدى خطبه بقوله "شنشنة هَدرَت ثم قرّت". تشنشن هي من موقع الموالاة بلا شعارات جرّارة مطنطنة ويشنشن هو من موقع المعارضة بتبهيرة ملحمية طنّانة موغلة في الحنين إلى ماضٍ انتهى يفتخر فيه حتى بصانعي المتفجرات. فيما تكاد الحدود بين النموذجين تتلاشى بل تنتهي تماما. فما الذي يقوم به المنبر التقدمي فعلياً اليوم من مشاركته السياسية كتنظيم يساري معارض ولا تقوم به زينب عبدالأمير من مشاركتها السياسية كنائبة مستقلة موالية!
بمعنى آخر يمكن للمنبر التقدمي أن يمارس كل ما يمارسه اليوم من مُمكنات السياسة من مشاركة برلمانية وندوات ونشرة داخلية وبيانات من موقع الموالاة من دونما حاجة إلى أن يكون معارضة. بل أن مساحة المشاركة السياسية التي يمتلكها الآن ما عادت تمتلك مثلها جمعية موالية خالصة مثل المنبر الإسلامي (إخوان) مثلاً؛ ولا حتى جمعية الأصالة الإسلامية (سلف) وهما ما هما. ما يجعل طرح السؤال على هويته وما إذا كان معارضة أم موالاة أمراً مشروعاً تماماً.
إذا كان هناك ملف يمكن أن يشطر المنبر التقدمي إلى نصفين فلن يكون هذا الملف غير التحالف مع الدينيين. منذ التسعينات لغاية اليوم يواصل الفريق الحكومي ابتزاز الفريق الآخر بسبب ما يسميه "ذيلية" الأخير إلى الدينيين لدفعهم الجمعية نحو التحالف في عدد من الملفات مع التيار الإسلامي الشيعي. ولا يبدو أن قيام أمين عام جبهة التحرير البحرانية السابق المرحوم أحمد الذوّادي بحسم الموقف العام للتنظيم لصالح هذا التحالف عبر مقال في "مجلة الأمل" 1996 قد أنهى هذا النقاش.
إن التحالف مع الدينيين هو رزية الرزايا عند هذا الفريق المنبري وآخر جزيء صلب نجا من انفلاش الأيديولوجيا اليابسة.
مع ذلك فأنت لن تسمع له همساً اليوم أو اعتراضاً ملحوظاً إزاء قيام الجمعية بقلب "هرم ماسلو" واستبدال التحالف مع الإسلاميين الشيعة بالتحالف مع الإسلاميين السنة.
بات ملحوظاً منذ العام 2021 قيام المنبر التقدمي بالتنسيق في عدد من الملفات مع الجمعيات الإسلامية السنية والتي يوجد بينها حتى مكفّراتية مثل "جمعية الصف الإسلامي" التي أنشأها العقيد والجلاد السابق عادل فليفل. إلا أن تهمة "الذيلية" تثار فقط عند التنسيق مع الشيعة.
لا ترى هذه الورقة مشكلة في تحالف المنبر التقدمي مع الجمعيات المذكورة فعقد التحالفات الطويلة أو المؤقتة هي من أصول العمل السياسي. بل يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة إذا تمكن من القيام بدور الوسيط وإقناع الجمعيات المذكورة بالمجيء إلى نقطة في منتصف الطريق مع التيار الإسلامي الشيعي. لكننا نتطرّق إلى هذا الأمر هنا للقول إن هذا التحالف الجديد مسموح به ولا توضع في وجهه العراقيل لأنه يقام فقط مع جمعيات موالية. إن المشكلة في الحقيقة ليست التحالف مع الدينيين بل البقاء في المعارضة.
فالموالاة هي البيئة المؤاتية اليوم التي يمكن فيها استزراع خلايا التقدمي العصبيّة بعد أن أصبح ما أصبح عليه.
لا يحبذ أعضاء المنبر التقدمي حتى مجرد سماع فكرة أن العسكريين تلقوا أوامر ملحّة بالتصويت إلى مرشح الجمعية في الدائرة السادسة بالمحافظة الشمالية في انتخابات العام 2022. وهو الأمر الذي أكده مراقبان محليان سَمَحت لهما الحكومة بمراقبة عملية التصويت في حديث خاصّ مع "مرآة البحرين". لكن علينا أن نتذكر بأنه هكذا كانت على الدوام مواقف جميع من استفادوا من أصوات هذه الكتلة المجوقلة الجرّارة التي يتم توجيهها من القصْر لحسابات خاصة به منذ إعادة العمل بالحياة البرلمانية في 2002: الإنكار.
لربما كان مرشح المنبر قادراً على حسم مقعد الدائرة لصالحه من غير الحاجة إلى هذه الأصوات. لكن المشكلة في الحقيقة لا تكمن هنا بل تكمن في السؤال التالي: لماذا تريد الحكومة لمرشح المنبر أن يفوز!
من هنا تحديداً ينبغي أن تنطلق أسئلة المنبر التقدمي الداخلية التي لا يبدو بأنه سيسألها أصلاً مثلما لم يقم بالسؤال من قبل عن قيام أمينه العام السابق [الذي بالمناسبة هو الشخص الذي كلف بكتابة ورقة المراجعة النقدية] بالتوقيع كشاهد زور على التقرير الرسمي النهائي الذي يقول إن الدولة قامت بتنفيذ توصيات لجنة بسيوني بالكامل. كما لم يقم بمساءلته أيضاً عن قبوله عضوية مجلس أمناء معهد البحرين للتنمية السياسية التابع إلى مجلس الشورى الذي يعينه الملك.
ويصعب التصديق هنا بأن هذه "التكتكات" قد اتخذت انطلاقاً من اجتهاد شخصي لقيادي المنبر البارز وليست انطلاقاً من مواقف المنبر نفسه.
ما ينبغي أن نعرفه هو أن المنبر التقدمي أصبح في مكان آخر هو ليس مكان المعارضة بالتأكيد مهما اجتهد في إنكار ذلك. إن عقدة الإنكار هي عملية لاواعية مثلما يخبرنا علم النفس. حظاً سعيداً له.