كانت إحدى معتقلات الكادر الطبّي عام 2011... الدكتورة جليلة العالي ترحل إلى الله بكل أوجاع الوطن
2022-02-12 - 7:13 م
مرآة البحرين (خاص): قبل 11 عاما، وضمن عملية قمع انتفاضة 14 فبراير، اعتُقل حوالي 95 بحرينيا يعملون في القطاع الطبّي، فيما سيعرف لاحقا بـ"قضية الكادر الطبّي". جرى اعتقال بعض الأطباء من داخل غرف العمليات، وكان حوالي 25 من المعتقلين إناث (طبيبات وممرضات).
شملت القائمة مجموعة من كبار الاستشاريين في اختصاصات طبّية دقيقة مثل جراحة المخ والعظام والروماتيزم والعيون والأنف والأذن والحنجرة والفم والجلد والتخدير وكان هناك جراح زراعة أعضاء وجراح أعصاب وطبيبة نساء وطبيب أطفال وحتى أطباء أسنان. كما شملت رئيسة ممرضين بمستشفى السلمانية، وكثيرا من الممرضين والمسعفين وفنيي مختبرات. باختصار كان في السجن طاقم طبّي متكامل يستطيع أن يشغّل مستشفى بأكمله.
أضخم قضية سياسية مفبركة في التاريخ
أمام حالة نادرة في تاريخ قمع وإخماد الانتفاضات، برر وزير العدل اعتقال الأطباء بأنّهم احتلّوا مستشفى السّلمانية بالسّلاح، وقاموا باختلاق إصابات في بعض جرحى التظاهرات أدّت إلى وفيّات (وجاء كمثال حالة الشهيد عبد الرّضا بو حميّد الذي قتله الجيش برصاصة حيّة في رأسه)، وقاموا أيضا بإيصال أسلحة للمتظاهرين، والاستيلاء على أدوية وأجهزة طبّية، ورفضوا علاج مرضى من الطائفة السنّية، ونادوا بالإطاحة بالنظام الحاكم!
احتاج النّظام إلى حجج ضخمة لتبرير عمليات الانتقام من الأطبّاء، والتي كانت في الأساس جزءا من عملية الانتقام الواسعة ضد كل من شارك في احتجاجات 14 فبراير، وكانت هناك اعترافات تلفزيونية مسجّلة انتزعت بالإكراه من الأطبّاء، عدلت السلطات عن بثّها لاحقا.
ربما كانت تلك أضخم قضية سياسية مفبركة في تاريخ انتفاضات هذا البلد جميعا. لم تصمد حجج الوزير أمام العالم، وتحت ضغط دولي كبير جدا اضطرّت السلطات للإفراج عنهم سريعا لكنّها أبقت على محاكمتهم، سعيا لوضع حد لمشاركة النخب أو القطاعات المهنية في أي تمرّد ضد النظام الحاكم مستقبلا. في المحكمة سقطت تهم السلاح والاحتلال الزائفة، ورغم تبرئة غالبية الكادر من جميع التهم لكن القضاء أصر على سجن عدد منهم ليبقى التهديد مفتوحا، متجاهلا كل هذه الفضيحة المدويّة.
الأسباب الحقيقية التي دعت الحكومة للانتقام من الأطبّاء، بخلاف نصب خيمة طبّية (مرخّصة) في ساحة التظاهر بدوّار اللؤلؤة، والمطالبة بإقالة الوزير (الذي منع علاج الجرحى)، والتظاهرات التي نظموها، هي تصريحاتهم لوسائل الإعلام كشهود على إراقة الدماء والتعامل الوحشي من أجهزة الأمن مع المحتجين.
لقد قادت صورة انتشرت لطبيبة وهي تجهش تعاطفا مع أحد الجرحى للاعتقال لاحقا، رغم أنّها من الطّائفة السنّية!
العدالة التي لم تنتصر
نسرد هذه الأحداث بعد 11 عاما، رغم أنّها موجودة بتفاصيل مثيرة في كتاب أصدرته مرآة البحرين تحت عنوان "شوكة الأطبّاء"، وفي الملف الذي أعدّته المرآة بينما كانت الأحداث جارية، تحت عنوان "ملف الطاقم الطبّي: أخطر ما في حلق السلطة". نسردها لأن بعض هذه الأسماء التي غابت عن المشهد، مثل كل شيء تقريبا، تكاد تُظلم مرّتين بنسيانها!
إحدى هذه الأسماء، هي الدكتورة جليلة العالي، التي غيّبها الموت يوم الخميس 10 فبراير/شباط 2022، عن عمر ناهز الـ 64 عاما، وذلك بعد صراع مرير مع مرض السّرطان، الذي اكتشفته فور خروجها من السجن.
في السّجن، نكّلت الأجهزة الأمنية بالأطبّاء، وعرّضتهم، رجالا ونساء، لصنوف التعذيب بما فيه الصعق الكهربائي. كان نمط التعذيب البدني والنفسي موحّدا وممنهجا، بحسب تقرير (بسيوني)، وكانت الغاية منه الانتقام والتأديب السياسي.
ربّما لم يسعف الوقت اختصاصية الغدد الصمّاء والسكّري الدكتورة جليلة العالي لتسجيل شهادتها على حوالي شهر من التعذيب في السجون البحرينية. لكن مصادر أكّدت لمرآة البحرين أن الراحلة أحسّت بآلام مرضها لأوّل مرّة حين كانت في السجن، وفي حين رفضت السلطات الإفراج عنها، أُجبرت على ذلك لاحقا، ليتبيّن بعد فترة إصابتها بمرض السرطان، الذي ظلّت تحاربه على مدى 11 عاما حتّى ودّعت هذا العالم المظلم يوم أمس الأوّل.
لم يكن من المتوقّع أن تدرك العالي وقتا تنتصر فيه العدالة، لها ولكل المظلومين والمعذّبين على هذه الأرض، على الرغم من مرور 11 عاما على سجنها وتعذيبها. توفّيت تاركة تاريخا مهنيّا شرفه أنه لم يتنحّى جانبا عن الإنسانية، ولم يركن إلى الخوف خصوصا ذلك الخوف على "المكانة الاجتماعية".
سيرة جليلة
رغم عدم وجود الكثير من التفاصيل المنشورة عن سيرة وتجربة الدكتورة جليلة العالي، لكن الراحلة كانت جريئة بما يكفي لتكذّب شهود الداخلية الذين نفوا تعذيبها وتعذيب الكادر الطبّي، في القضيّة الصورية التي رفعتها النيابة ضد ضابطين بتهمة تعذيب 50 طبيبا.
ذكرت العالي أنّها كانت معصوبة العينين في تحقيقات العدلية، وكانت يداها مقيدتين بقيد حديد، كما أنّها تعرّضت للصّفع عدّة مرّات خلال التحقيق رغم أنّ عمرها تجاوز الخمسين عاما حينها، وأصيبت بالدّوار جرّاء هذه الاعتداءات.
ولفتت إلى أن أعضاء الكادر الطبي الذين تم تصوير اعترافاتهم تعرضوا للتعذيب النفسي "خلال جلسة التصوير كان يتم إجبار الأطباء على تقديم اعترافات مزيّفة تصل إلى الاعتراف بقتل أحد الجرحى عبر توسعة الجرح، في الوقت الذي قام فيه الطبيب بواجبه الإنساني بمحاولة إنقاذ المصاب الذي فارق الحياة".
وذكرت الراحلة أنها لم يكن لها علم على ماذا تعترف خصوصاً أن دورها كان يقتصر على الخيمة الطبية وكان هناك مرضى سكري يترددون على الخيمة، لكن المسئولين أجبروها على القول بأن الأدوية التي استخدمت في الدوّار تم استخدامها للشيعة فقط.
وتمكّنت العالي من رؤية الأطبّاء في غرفة التصوير، مقدّمة شهادة على "منظرهم المهين" (وضعوا على الأرض ورؤوسهم إلى الأسفل، كل طبيب يحين دوره في التصوير كان يجر إلى إحدى الغرف). حين أفرج عنها نقلت لأهالي الأطباء أنّها رأتهم "يجلسون في قاعة واحدة حليقي الرأس وقد فقدوا الكثير من الوزن وكانوا معصوبي الأعين وموثقي الأيدي وفي حال مزرية".
وكانت الراحلة جليلة العالي قد اختفت تماما بعد أن ذهبت إلى مقر التحقيقات الجنائية سيء الصيت إثر استدعائها في 4 أبريل/نيسان 2011. وفي كتاب "شوكة الأطبّاء"، روى الدكتور باسم ضيف، أحد الأطبّاء المعتقلين، أنّه تعرّف على الدكتورة جليلة العالي خلال تصوير الاعترافات من "كحّتها الباهتة، بدت مجهدة جداً".
وجع الوطن
تقدّم الدكتورة ندى ضيف، زميلة الراحلة في السجن، شهادتها حول الدكتورة العالي خلال مشاركتهم بدوّار اللؤلؤة. تصف الراحلة بأنها كانت "تشع جلالا و هيبة". (التقيتها في دوار اللؤلؤ في إحدى ليالي فبراير الباردة تحديدا في الخيمة الطبية. هي من أولئك الذين يعملون في صمت، ضميرها وإنسانيتها ما يدفعها لتطبيب المرضى وإن كلفها ذلك جهدا مضاعفا).
تقول "كانت خيمتنا الطبية تعمل لخدمة المرضي كخلية النحل وكانت د. جليلة هي ملكة النحل" تضيف "جيء بها للمعتقل مكبلة اليدين معصوبة العينين بعد أن بقيت بالحبس الانفرادي ثلاثة أسابيع. سمعت صوتها تصرخ عبر حائط زنزانتي الخشبي".
تقول ضيف التي سجّلت هذه الشهادة على مدوّنتها في ديسمبر/كانون الأوّل 2011، إن العالي كانت تخضع حينئذ للعلاج في الولايات المتّحدة منذ 3 أشهر، على نفقتها الخاصة، وتؤكّد أن وزارة الصحّة رفضت ابتعاثها للعلاج رغم كل ما قدّمت من خدمات وعطاء للقطاع الطبّي قرابة 30 عاماّ.
تشهد من خلال اتّصالاتها معها بأن "وجع الوطن" لم يزل "أعظم من وجعها".
جالت جليلة العالم مع بناتها بحثا عن علاج لوجع السرطان. لكنّه كان بخبث وقبح النظام في البحرين، هاجم إنسانيتها بعنف وبلا شرف. وأخيرا قضت نحبها على يديه. لكنّها ماتت مرتاحة جدا، لقد أبقت رأسها عاليا، كريما، عزيزا، حتى وإن جارت عليها بلادها، حتى وإن اجتمع عليها داخل زنزانة السجن الظالم، وجع الورم، بوجع الوطن. سكنت أوجاع ورم جليلة إلى الأبد، وبقيت أوجاع هذا الوطن!