باقر درويش: التاريخ غير المكتوب لشرطة البحرين
2021-12-09 - 1:51 م
عندما كنت أشتغل على تحضير مادة حلقات الموسم الثاني من برنامج تقصي الحقائق على قناة اللؤلؤة الفضائية، خصصت حلقة لسيرة رئيس مباحث أمن الدولة إيان هندرسون خمس حلقات؛ تولَّدت في ذهني بعض الأسئلة حول تاريخ شرطة البحرين، فقد ظلَّت السردية الرسمية تستفيد لسنوات من محدودية المصادر التاريخية التي وثقت هذه التجربة بعيدا عن الرقابة، والطرف الرسمي يحتكر رواية نشأة المنظومة الأمنية.
فيما يخص تجربة قانون أمن الدولة -حتى اللحظة- لازال أرشيف الوثائق البريطانية يخفي بعض الملفات عن حقبة "هندرسون" التي استمرت قرابة العشرين عاما تحت دعوى "سرية المعلومات"، رغم أنَّ الرجل مات وحيدا في نهاية المطاف بالبحرين في 13 أبريل/نيسان 2013 دون تأبين رسمي لشخصية أمنية سبق وأن حازت على أوسمة بحرينية وبريطانية رفيعة!، سيكون غريبا بالفعل أنَّ قانون أمن الدولة كان بمثابة طوق النجاة للضباط البريطانيين التسعة الذين من بينهم هندرسون الذين كانوا على وشك الرحيل من البحرين إلا أنَّ حل المجلس الوطني مكَّن رئيس مباحث أمن الدولة بالاستفادة من كتابه: "اصطياد الرجال في كينيا" الصادر سنة 1958؛ ليكتب سيرة جديدة له في اصطياد ضحايا جدد (بحرينيين) وهو يؤسس جهاز الاستخبارات ويكتب ملامح العقيدة الأمنية بتنسيق مع الأمير السابق وبمتابعة بريطانية رسمية.
تشير الكثير من الوثائق والإفادات إلى السيرة السوداء لهندرسون، إحدى وجوهها الفساد المالي؛ طبعا ليس هنالك من علاقة لتجسس هندرسون على المكالمات الهاتفية بين مفوض الشرطة جيم بيل والأمير السابق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وفقا لإفادة ضابط الشرطة الاستعماري ديريك فرانكلين[2] بحذف اسم إيان هندرسون من التداول الرسمي؛ يكفي للتدليل على الصيت السيء لهندرسون بالإشارة إلى تزامن توقيع البحرين على اتفاقية مناهضة التعذيب[3] بالإعلان عن تقاعد رئيس مباحث أمن الدولة.
ولكن، رغم كل هذه الأهمية لشخصية مثل "إيان هندرسون" فإنَّ السردية الرسمية تتجنَّب منذ سنوات الإشارة له رغم تخصيص يوم 14 ديسمبر/كانون الأوَّل من كل عام يوما للشرطة البحرينية، ورغم التأثير البريطاني على دور هندرسون وفق الكثير من الوثائق ومنها مانشر بويكليكس[1].
مع ذلك، فإنَّ الذاكرة الشعبية تحفظ لهندرسون سيرته المتوحشة في بناء جهاز المخابرات، وهنالك الكثير ممَّا تخفيه صفحات الكتب التي وثقت شيئا من تاريخ البحرين خلال المائة عام تتجنَّب وزارة الداخلية الحديث عنه، في ذكرى المئوية الأولى لتأسيس الشرطة النظامية عمَّمت الداخلية عبر وكالة أنباء البحرين تقريرا ورد فيه: (ظلت شرطة البحرين على امتداد هذه المئوية، على مسافة قريبة من كافة المواطنين، ملتزمة بعهد من الولاء والانتماء للوطن، متمسكة بمقتضيات الشراكة المجتمعية وهو ما جعل شرطة البحرين، الأكثر تميزا في المزج بين الشرطة العصرية والخدمية والمجتمعية[4])، إلا أنَّ فكرة البحث عن (المسافة القريبة مع المواطنين) تظهر لنا الكثير من صور الاضطهاد السياسي، وعلى الرغم رغم تغير الزمان فإنَّها تكاد تنسخ نفسها أمام كل تجربة قمع سياسي، أليست لائحة الاتهام ضد قادة هيئة الاتحاد الوطني شبيهة بما كتب ضد قيادات ونشطاء المعارضة بعد 2011؟، والحقيقة هي أنَّ الملك منذ توليه مقاليد الحكم لم يصلح المنظومة الأمنية بما يضع (المسافة قريبة من حماية المواطنين) كأولوية، ولازالت تركة المنظومة الأمنية قائمة في ثلاثيَّة اشكالية المسألة الأمنية: 1) عدم إشراك مكونات المجتمع البحريني في تشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية، 2) وعدم اشراك المواطنين في تقرير العقيدة الأمنية، 3) والإقرار الفردي للسياسات الأمنية.
وأمام السردية الرسمية المبتورة، نتساءل: ماذا عمَّا يرد في المستندات التاريخية من واقع السجون المزري أو الشكاوى حول تجاوزات الشرطة (الفداوية)؛ ستجد التاريخ الرسمي يتغافل عن ذكر أي شيء من تلك التعديات. طبعا هذا ليس بغريب، فالتاريخ الرسمي الذي يكتب من طرف واحد لن يتعاطف مع الحالة الشعبية، ولكن هذا السلوك سيفسر لنا كيف تطورت أشكال سياسة الإفلات من العقاب وبعض الممارسات السجنية، في السنوات الأخيرة -على سبيل المثال- كان هناك الكثير من الشكاوى حول الحرمان من العلاج وسوء أوضاع السجون بما فيها ما يتعلق بالعناية الصحية والنظافة، لكن ألن يبدو غريبا كيف يتماثل ذلك مع حادثة وردت قبل 97 سنة؟.
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1923 رفع سبعة من ممثلي البحارنة عدة عرائض بينها (المناشدة الخامسة) ويرد في الفقرة السادسة منها النص التالي: "إنَّ المحاكم والحكام المنظمين، جمعيهم يحددون مكانا خاصا للسجناء في مدينتهم أو في مقاطعتهم، ويرتبون أم تزويدهم بالطعام والشراب. يا فخامة المقيم، هل تسمح عدالتكم بأن يتم وضع السجناء في مستودع قذر في منزل أمير المقاطعة؟، نرجو من سعادتكم أن تخصصوا مكانا للسجناء وأن تنظموا مسألة الطعام والماء، وأن تخضعوهم لإشراف طبيب كما هو الحال في العالم كله[5]".
العريضة موقعة باسم كل من: أحمد بن خميس، السيد أحمد بن السيد علوي، علي بن حسن، عبد الرسول بن رجب، أحمد السماك، محمد الدرازي، علي بن رجب.
طبعا، بعد أسبوع سيعاد الاحتفال بيوم الشرطة المزعوم، ولن تقدم لنا إجابات حول أسئلة الإفلات من العقاب وواقع ضحايا تشكيل الأجهزة الأمنية وفقا لعقيدة الإلغاء والإقصاء والتعذيب.
*رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان
*هوامش
[1] https://www.wikileaks.org/plusd/cables/1975MANAMA00217_b.html
[2] How a British policeman helped normalise torture in a Gulf monarchy
[5] أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية، المجلد الخامس، صفحة 189، مركز أوال