حسين خلف: غازي الحداد مع من أحب
حسين خلف - 2021-06-24 - 11:28 ص
"المرء من أحب"، حديث نبوي مروّي عن ابن مسعود. ضع المرحوم الأستاذ غازي هذا الحداد في ميزان هذا الحديث وستعرف أين ومع من هو الآن..
في منطقة "الصدّاغة" أو"جنوب" في البلاد القديم كنا نلحظ الذكاء الحاد لهذا الرجل منذ أن تعرّفنا عليه.
فطن، فصيح، والبلاغة تقطر من كلماته.. مع عباراته الأولى سوف تتعلق به، ليبدأ نشر سحره عليك.
ينحدر من أسرة يحترمها كل أهل المنطقة، كان له سرّ خاص، وهذا السرّ لم يكن سوى اثنين، امرأة، ورجل هما : والدته أم عباس، والشهيد محمد باقر الصدر.
كان غازي عميق التأثر بوالدته التي كانت ملاّية معروفة، وامرأةً قوية العقيدة، نسج غازي تكوينه العقائدي من عشقها وإيمانها...
غازي الذي سافر للنجف فترة عامين تقريباً، طالبًا حوزويًا رأى الشهيد السيد محمد باقر الصدر فاشتعل العشق في صدره والوعي في عقله، ومنذ استشهاد الصدر لم تهدأ تلك النار..
مع هذا الحضور الاجتماعي، والإمكانيات الشخصية، والشهادات الأكاديمية في التربية والآداب (جامعة البحرين)، وفي الحقوق والقانون (جامعة بيروت)، ومع الموهبة الشعريّة المتفجّرة، والقدرة على فهم وتحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية، لم توجد لديه شهوة التقدّم نحو منصب ما، لم يتبع ديوان ملك ولا وزير، لم يدخل في حاشية زعيم.
لو كتب قصائد المدح والتملّق للملوك والأمراء لكان الآن هو شاعر العرب الأول.
لو كتب كلمات الأغاني لكان معشوق الصبايا الحسان. لو استخدم قدراته لأجل الوصول لمال أو منصب لكان ذلك شديدة السهولة.
لقد أوقف حياته على من يحبّ، استخدم موهبته وعقله لخدمة ملك واحد هو الإمام الحسين بن علي ابن أبي طالب، ولخدمة كل المباديء التي مات واستشهد من أجلها هذا المعشوق..
يمكن القول إنّه منذ العام 1991 وبعد قصيدة "كان شرعيًا هجوم الطاغية". أصبحت قصائده التي يصدح بها الرادود القدير فاضل البلادي، هي بمثابة بيان سياسي معارض للظلم، لم يتملّق للظالمين بل ذمّهم وسخر منهم، لم يجلب له كفاحه مكاسب، لم يغيّر نمط حياته ليعجب أحدا، ولم يحاول الظهور على غير حقيقته وبساطته، بقي مع الفقراء والمظلومين وكان بهم رحيما. وثّق بحماسة الانتفاضة الشعبانية في العراق والمعاناة التي تلتها في قصائده، كانت قصيدة "دم الحسين ياعلي تفجّر، وأوشك البعثُ بأن يُدمّر" واحدة من تلك القصائد.
قال لي ذات يوم "الأولون لم يتركوا لنا شيئاً، لقد تخيّلوا كل شيء، ووصفوا كل موقف". بعد طول تأمّل، بدأ بكتابة قصائده الحسينية المذهلة " أختي يا زينب قومي" و "هذه الليلة لا دمع ولا أنّة آه"، و "يا شيعة الحسين.." و "ما أرضى يابو السجاد.."
لم يكن أبا ناصر راضيًا عن المسار السياسي في البلاد، كان ناقداً بشدّة، كان تقض مضجعه قضية التجنيس السياسي، ويتحدث عن خطورة ترك هذا الخطر دون محاولة حقيقية لإيقافه قبل أن ينخر جسد المجتمع البحريني.
في 2011، كان هو نفسه الشاعر المتمسك بالدمّ المتفجّر، كان من الطبيعي أن يناصر ثورة شعبه، وقف بدوار اللؤلؤة وأنشد قصيدته الشهيرة المدوّية: عندما ينفجرُ الدمُّ خفيُّ الأمر يظهر..
في العام 2019، الثلاثاء 25 يونيو، سقط غازي في "مهبط وحيه"، غرفة صغيرة في الطابق الثاني في منزل والده الحاج ناصر الحداد كان يهوى فيها الانفراد بشعره، في تلك الغرفة كانت تعرض لجلطة دماغية مفاجئة بعد رحلة علاج غير ناجحة في البحرين تم نقله إلى ألمانيا ، بعد عامين تقريباً وفي 23 يونيو 2021 توقف قلب غازي الحداد، وانتقل إلى العالم الآخر.
فترة غيابه مريضاً، أظهرت للجميع أنّ أبا ناصر سيعيش طويلاً سواء كان في وعيه أم غائباً عنه، حيّا كان أم ميتّا، لقد ارتبط بقضية خالدة وسوف يخلد معها بكلماته..
أقولها وبعقلية لكم الحرية في وصفها بعقلية الدراويش، ومع الاعتذار مقدّما لعائلته، أنا شعرت بالغبطة الشديدة حين سماعي بخبر وفاة هذا الرجل، لأني متيقن تماما أنه صار مع من أحبّ، إنه سعيد بذلك..
ومن العاقل الذي لا يحب أن يكون في هذه اللحظة معه ومعهم!..
بعد كتابة هذه الكلمات يدخل قلبي الحزن لرحيله، أتذكر إن مجلسه أصبح خاليًا منه، وأن العزاء أصبح واجباً لنجله ناصر ووالدته وللبنات الكريمات.
في خيالي طيفٌ لا أستطيع لمسه بيديّ، هناك حيث يقف غازي مبتسماً بفخر مع رجال رائعين، يقترب منه رجل ليبلغه سلاماً خاصاً، لينكّس غازي رأسه، مثل حبيب بن مظاهر الأسدي ، وصله سلامٌ من مصونة حيدر الكرار.. زينبٌ تسلّم عليك يا أبا ناصر..
* كاتب وصحفي بحريني