قراءة في كتاب "النظام الطائفي في البحرين: الأصول الاجتماعية والاستعمارية للعدالة الجنائية" للدكتورة ستايسي ستروبل
غنى مونس - 2019-11-08 - 10:27 م
في العام 2006، كانت الصحافية (ستايسي ستروبل) تعمل على إعداد رسالة دكتوراه، تتناول فيها واقع النساء في الشرطة في البحرين "Women and Policing in Bahrain"، حين لَفَتَها، وبحدة، التّمييز الذي يمارسه حكم عائلة آل خليفة السّنية ضد الشيعة الذين يشكلون غالبية السكان (من بين 1.4 مليون نسمة).
تروي الكاتبة حادثة شهدتها في ربيع العام 2006، في مركز للشرطة، واقع في منطقة مكتظة بالسكان الشيعة في البحرين. حين أتى شاب، في العشرين من عمره على الأرجح، واشتكى للشرطة من الضجة التي يتسبب بها المحيط، ربما جيرانه.
تصف ستايسي تفاصيل الواقعة: "ما زلت أذكر: أجلسوه جانبًا، قالوا له إنّ المشكلة ليست مهمة. شعرت عندها أنه لم يتم التعامل معه على محمل الجد". وتعبر عن شعورها في تلك اللّحظات: "على الرغم من إحساسي بالظلم، لم يسمح لي دوري بالتدخل، ولم يبدُ الأمر مسألة حياة أو موت". وعلّقت الشرطية على الشكوى بعد ذهاب الشاب: "كم يفتقد هذا [الشّاب] للّياقات! هل التفتِّ للُغته العربية؟! كان يخطئ في استخدام الضمائر التي تعود للجندر"، لتعود وتؤكد لها: "إنه شيعي. لقد عاش هنا طيلة حياته ولا يستطيع حتى أن يتكلم اللغة العربية بطلاقة. هم [الشيعة] هكذا".
كيف كان وقع هذه الجمل على ستايسي؟ أثارَت فيها الدهشة، الممزوجة بالاستياء: "لقد قالتها لي بطريقة خبرية جدًا، كما لو أني أحتاج إلى تسجيل هذه التفاصيل الصغيرة على دفتر ملاحظاتي، تسجيل حقيقة أساسية: "إنهم [الشيعة] هكذا".
لم تقف الأمور عند هذا الحد، فأثناء عمل ستروبل على نتاج عملها الميداني لهذه الرسالة، طلب منها مصدرها الرئيس (Main Contact) في قوات الشرطة أن تتجنب ذكر "الهوية الشيعية" Shi'a Identity. أردف الشخص طلبه بالقول إنه "لن يكون من المفيد للبلاد الحديث عن الشّيعة والسّنة" شارحًا أنه "علينا أن نرى أنفسنا [الشيعة والسنة] شعبًا واحدًا، والعمل [الأكاديمي] الذي يُرِكّز على المشاكل الطّائفية يجعل كل شيء أشد سوءًا بالنسبة لنا". ما ولّد لدى ستايسي تساؤلًا أرّق تفكيرها: "لماذا كان لدى هذا الشخص مخاوف بشأن ذكر الطّائفية في عملي [رسالة الدكتوراه]؟"
كيف وُلِد الكتاب؟
تشرح ستروبل، أّنه في أعقاب هذه الحادثة وغيرها من الحوادث المشابهة، أدركت ما يجب فعله: "على الرّغم من أن رسالتي تتناول الجندر، كان الجزء المُدَرّب كصحافية في شخصيتي قد أدرك أن القصة "الفعلية" عن العدالة الجنائية في البحرين تتعلق بالسياسات التّمييزية ضد الطائفة الشيعية".
لم تغبْ هذه التساؤلات والأفكار عن بال ستايسي. فعادت إليها لاحقًا. وحين بحثت أكثر، ونقّبت أكثر، وجدت من خلال تحليلها للخدمات التي تُقَدّمها الشّرطة للشعب، أن الهوية الطائفية على ارتباط وثيق بنوعية الخدمات، وأن شكاوى الطائفة السّنية تؤخذ بجدية أكثر، وذلك قبل أحداث الربيع العربي، ما يُسَلّط الضوء على صحة انتقاد الشيعة للحكومة ذات الغالبية السنية، ويوضح أن الطائفية جزء من الحياة اليومية للبحرينيين. هذا المخاض الفكري أوجد مولود ستروبل الذي نحن بصدده، وهو كتاب: "النظام الطائفي في البحرين، الأصول الاجتماعية والاستعمارية للعدالة الجنائية" (باللغة الإنجليزية: "Sectarian Order in Bahrain: The Social and Colonial Origins of Criminal Justice) الذي صدرت الطبعة الأولى منه عن دار الكتب البريطانية "ليكسنغتون" في العام 2018.
ماذا في "النّظام الطائفي والعدالة الجنائية في البحرين"؟
لفهم أي قضية ترزح الدول والشعوب في زمننا الحالي تحت تأثيرها، لا بُدّ من تحليل الجذور العميقة في التاريخ. هذا ما فعلته ستايسي ستروبل. ومن باب العدالة الجنائية Criminal Justice، وبحكم دراستها لعلم الإجرام والعقاب، وتخصّصها في القانون الجنائي والمؤسسات، وأيضًا السّياسات العقابية، أطلّت على البحرين، وغاصت عميقًا في جذور تاريخها، خلال الوجود البريطاني فيها. سعَت إلى إعادة تأهيل النسيان، بأدلة ووثائق، تثبت صحة ما تقول، واعتمدت، لوضع كتابها، على مفاتيح وأبواب قادتها إلى الدهاليز الخفية للأحداث التي شهدتها البحرين آنذاك.
شكّل أرشيف قضايا العدالة الجنائية الاستعمارية في البحرين خير مصدر، فأفادت منه بشكل مُفَصّل، في محاولتها الربط بين تلك الأحداث، والأحداث الحالية. استخدمت فيه الوثائق التاريخية، سواء كانت أولية أو ثانوية، بما في ذلك الحسابات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية، التي يتضمنّها الأرشيف، لتُقَدّم تحليلًا بانوراميًا مُفَصّلًا للمشهد البحريني. وانطلاقًا من مراجعاتها، قدّمت وصفًا للصّلة بين العدالة الجنائية في البحرين والتّطورات التاريخية الأخرى، وسلّطت الضوء على الطائفية، من خلال تحليل نقدي تفصيلي لوثائق رسمية من أرشيف المكتبة البريطانية.
لوضع الكتاب، درست الكاتبة مجموعة مهمة من القضايا في ملفات أرشيف قضايا العدالة الجنائية في البحرين، وتوصّلت إلى استنتاج شديد الأهمية. بالنسبة لها، "يبدو أن الدراسات الأمنية في الخليج كُتِبت من وجهة نظر الحُكّام السُّنّة".
تلفتُ ستروبل إلى أنها وجدت، في غالبية هذه الملفات، نقصًا في الإشارة إلى انعدام المساواة الطائفية، عند الحديث عن الأمن القومي وتحدياته. ولعل أبرز ما تشير إليه، كيفية وصف البعض للمؤامرات الإرهابية، بالقول إنّها وُضِعت من قبل مجموعات شيعية متطرفة، خاصة في الثمانينيات بعد الثورة الإيرانية، غير أنّها تتلاقى مع استنتاج ورد في تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، المعروف بتقرير بسيوني، والذي صدر بتفويض من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة في أعقاب انتفاضة 14 فبراير 2011، أو بالأحرى تؤكدها: اللجنة، التي ترأسها البروفيسور شريف بسيوني، لم تجد أي أثر للتّدخل الإيراني في أحداث انتفاضة الشعب البحريني، وستروبل لم تجد ما يثبت ارتباط الوضع الطائفي في البلاد بحدوث الثورة الإيرانية في العام 1979، بل تعزوه إلى الأحداث التي شهدتها البحرين، قبل فترة طويلة من قيامها [الثورة الإيرانية]، فتُفَنّد، رُبما عن غير قصد، الأكاذيب التي تمتلئ بها الروايات الرسمية عن هذا التّدخل.
توضح ستروبل لقرائها أن جذور المشاكل الطائفية، التي تشهدها البحرين، عميقة جدًا، ولا تعود إلى ما بعد الثورة الإيرانية، كما يحلو للبعض القول، وتؤكد في مقابلة أجراها معها معهد ريتشاردسون، أنّ عملها يركز على الفترة التاريخية التي كان للبريطانيين فيها دور في البحرين، فهي قد غاصت في عمق التاريخ، إلى فترة أبعد بكثير من زمن الثورة الإيرانية، ووجدت أن الصدع الطائفي في المجتمع البحريني هو أمر أُسِّس له في أوائل العشرينيات.
وتطل أيضًا على الروايات التاريخية للخليج، وتغوص في كيفية تفاعل المذهب والعدالة الجنائية، بطريقة تجعل الأمور أكثر تعقيدًا، وأحيانًا أكثر عنفًا، في المجتمع البحريني. كما تستعيد نظرة تاريخية طويلة الأمد لتطور الطائفية في الخطاب السياسي والثقافي في المنطقة، وترى أن التّوجهات الحالية في مناهضة الشيعة ناجمة عن أحداث تاريخية شهدتها البحرين.
تتطرق ستروبل في الكتاب إلى العلاقات البريطانية البحرينية، لتُفَنّد كل ما ورد في التاريخ الرّسمي بشأنها، ففي الوقت الذي يُصَرّح فيه عدد من المصادر بأنّ البحرين محمية بريطانية، تؤيد ما يراه كثيرون، من تشابه كبير على مستوى الإدارة بين أي إمارة هندية آنذاك، وبين البحرين، وتؤكد أنّه "في العشرينيات من القرن الماضي، كانت البحرين أقرب كثيرًا لأن تكون مستعمرة Colony، لا محمية Protectorate، بريطانية".
تستشهد ستروبل فيه أيضًا بعدد من الأدوار والقضايا، في المرحلة الاستعمارية التي شهدتها البحرين، وفصّلتها، ومن بينها دور السير تشارلز بلجريف، تتناول قضايا أخرى، وفقًا لسجلات المستعمرات، من بينها الهجمات المتكررة على القرى الشيعية وقتل الرجال والنساء والأطفال وسرقة ممتلكاتهم على يد رجال مسلحين، وتورد تسميات خاصة لتميز بين القادمين من بعيد (People of the Sea)، وبين السكان الأصليين للبحرين (People of the Land)، كما تُفَصّل عددًا من القضايا، الطائفية في غالبيتها. وتسَلّط ستروبل في كتابها على ما تصفه بالتّشويش الطائفي "Sectarian Tashwish" من خلال العنف الذي يستهدف الشيعة، والسياسات التي تهيمن عليها العائلة السّنية، فتُفرِد له فصلًا كاملًا (الفصل الرابع)، تحت هذا العنوان.
باختصار، بإمكاننا، من خلال هذا الكتاب، أن نرى كيف نقّبت ستروبل في التاريخ الحديث للبحرين، في مسعاها إلى إيضاح كيفية ولادة النّظام البحريني الحديث للعدالة الجنائية، الذي يُضفي الطّابع المؤسساتي على التّعصب القومي السّني، من دون أن تغفل الإشارة إلى أنّه يعمل ضمن سياسة قَبَلية، وفي الوقت ذاته، لحظت أُسُس التمييز المُمارس ضد الشيعة، ففصّلت كيفية تعاطي النّظام مع المواطنة من جهة، والجرائم من جهة أخرى، وهي مشاكل بارزة ما زلنا نشهدها في ظلّ النّظام السّياسي القائم اليوم في البحرين.