أحمد بن ناصر وداعا...
2019-08-18 - 9:01 ص
مرآة البحرين (خاص): قصّة الرجل البحريني الحاج أحمد بن ناصر، من زاوية ما هي رواية العجوز والبحر التي كتبها آرنست همنجواي. تمثل (العجوز والبحر) بوضوح الصراع الدائر بين الإنسان والحياة ومدى ثبات الإنسان أمام هذا الصراع السرمدي الذي لا ينقطع. تضربه الحياة بأحداثها فيثبت ويتسلح بما استطاع من قوة ليقاوم ويقاوم ويؤصل معنى المقاومة الذي لا بديل عنه.
من هو الحاج أحمد بن ناصر؟، اسمه ليس ضمن أعضاء المجلس التأسيسي الذي كتب دستور البلاد بعد الاستقلال، ولم يكن أحد أعضاء البرلمان لا في 1973 ولا ما بعد 2002 لم يكن أحد أفراد النخبة المالية ولا السياسية ولا الثقافية، لم يحز منصباً دينيًا أو دنيوياً، لم يكن وزيراً ولا وكيلاً ولا مديرًا، فلماذا يشعر الناس بالمرارة لرحيله أمس السبت 17 أغسطس 2019؟.
لقد مات الرجل فقيراً، وأبناؤه في السجن، لم ينل من زهوة الدنيا شيئاً، لا مالاً ولا جاهاَ، لكنّه كان رمزاً عظيماً لأهل البلاد، فالرجل لم يكن لديه سوى أبنائه المبتلون وعصاه الخشبية التي يتكئ عليها ليطالب بالحرية لأهل البحرين.
منذ التسعينيات من القرن الماضي وهو يحث أبناءه وعائلته ويشجعهم على المشاركة بأي حراك يدعو للحرية والمساواة، لم يكن يتأخر بل كان في مقدمة التظاهرات.
الحاج أحمد بن ناصر، الرجل الثمانيني، البحّار الستراوي، رحل عن الحياة بعد صراع مع المرض الذي أصابه في القولون، وعانى مضاعفات ما بعد العملية الجراحية ليرحل عن هذا العالم تاركاً أربعة أبناء، واحد منهم في السجن، وآخر طريدا من وطنه خوف الظلم والطغيان، وابنان سيستقبلان المعزين برحيل والدهما.
الراحل الذي حفظ وجوه المرتزقة والجلادين وحفظوا وجهه، لقد ظل شامخا في وجههم. كيف لرجل في مثل سنّه أن يصبر على اقتحام منزله المتهالك لأكثر من 150 مرّة منذ العام 2011 حتى رحيله؟، كيف له وهو الرجل العجوز سنًا أن يسبق الشباب والشابات لساحات التظاهر؟، يسبق بفطرته من سبقوه في التعلم والسفر ورؤية العالم و«البلدان الحرّة» التي لم يرها، لم يكن بحاجة لذلك ليشعر بأهمية الحريّة، أدرك بفطرته أنها يجب أن تُنال وينعم بها الجميع.
امتلأت أمس حسابات النشطاء في البحرين بصور المرحوم أحمد بن ناصر الرجل الذي قدّم أبناءه لأجل الحراك الشعبي الكبير حتى بات اثنان منهم ضحايا للنظام الاستبدادي، واحد منهم محكوم لسنين تفوق المائة عام، والثاني مغترب قسرآً عن وطنه، قدم كل شيء لوطنه حتى عصاه اتخذها عكّازاً يتكئ عليها ليحقق بها مآربه النبيلة.
نجله جعفر أحمد ناصر محكوم بالسجن بعد ملاحقات كيدية لم تجعله يهنأ بحياته، فقد تم اتهامه في العام 2010 بمحاولة استهداف (مهند أبو زيتون) مدير تحرير صحيفة الوطن سابقًا، وبعد أن تم الإفراج عنه لعدم وجود أدلّة كافية، تم ملاحقته مجدداً في العام 2011 لمدة طويلة، وتمت محاصرة وتفتيش منازل منطقة مهزة لمدة 17 يوماً حتى تم القبض عليه وتعرض لتعذيب وحشي وبعدها تمت محاكمته بناء على اعتراف انتزع منه تحت التعذيب فصدرت بحقه أحكام تجاوزت السجن 180 عامًا.
ابنه الأكبر علي، تعرض للاعتقال لمدة ستة أشهر، وظهرت صور اعتقاله كرجل أشيب يتم اقتياده وسط المنامة بأيدي قوات وزارة الداخلية ومرتزقتها.
نجله عبدالحسين لم يتم اعتقاله ضمن هذا الحراك، لكنه معتقل سابق في انتفاضة فترة التسعينات في القرن الماضي.
أما نجله حسن فهو محكوم غيابياً ومسقطة جنسيته، لكنه يعيش خارج البلاد بعد أن استطاع الفرار بحياته وحريته من بطش النظام.
مات الحاج أحمد بن ناصر، لم يخلف مالاً أو عقاراً، لكنه صنع أمثولة البحريني المناضل المكافح، الذي عاش ومات على مبدئه، صلباً أمام المرتزقة الذي كان يمنعهم من دخول داره البسيطة قبل أن تلبس نساء العائلة حجابهن.
في الرواية اصطاد البحّار العجوز سانتيجو سمكة كبيرة جدًا، لكنه لم يستطع العودة بها إلى هافانا إلا بعد أن أكلت أسماك القرش لحمها وبقي هيكلها العظميّ، عاد ليثبت كفاءته كصيّاد ماهر رغم إن أسماك القرش أكلت ما اصطاده.
أكلت حيتان آل خليفة أبناءه، لكن أحمد بن ناصر بقي عنيد الجمجمة، رحل كرجل حرٍّ لا يمكن أن تؤكل كرامته، عاد بها من رحلته المريرة، تركها لنا أمثولة نلوذ بها كلما أصابنا شيء من الوهن. تذكروا عظام الحاج أحمد بن ناصر، إنها مدفونة في تراب سترة، في الأرض التي تستحيل فيها هياكل الشرفاء كنوزا عظيمة.