سجين الرأي الرادود يوسف الديري.. بين وجع المرض الذي ينهش عظمه، وطفله الصغير الذي يُنكره..
2019-07-05 - 2:55 ص
مرآة البحرين (خاص): بصوته العذب، اعتاد يوسف أن يُشجي مسامع أهل منطقته (الدير) بقراءة الدعاء، ويستثير لواعجهم وهو ينشد قصائد الرثاء في المواكب الحسينية، لكن ماذا يفعل يوسف اليوم وهو يعيش لواعجه الخاصة، وقد استبدّ به ألمان وليس ألمًا واحدًا، كلاهما أوجع من الآخر، وجع في الجسد وآخر في القلب.
أما وجع الجسد،،
فسجين الرأي المحكوم بالمؤبد يوسف حسن جاسم، والذي يبلغ من العمر 24 عاماً (مواليد 1995)، يعاني من آلام شديدة في العظام، تراكمت مع إهمال العلاج حتى صار يشكو من تألم جسده بالكامل. تقول عائلة يوسف لـ" مرآة البحرين" أن ابنها محروم من العلاج، ومحروم من المصادر الغذائية الصحية التي يحتاجها جسده، وأن لديه مشكلة في العظام ويعاني من آلام شديدة في الأسنان، ويحتاج إلى تناول وجبات صحيّة تحتوي على الكالسيوم، لكن وجبات السجن لا تتوفّر على ذلك منذ شهر فبراير الماضي هذا العام، ولا تتضمن الحليب ولا أي من مشتقاته من الأجبان وغيرها، خلو الوجبات الغذائية من الكالسيوم تسبب في مشاكل بالعظام عند عدد من النزلاء وهشاشة في العظام، وهذا ما تتجاهله إدارة السجن كما تتجاهل مناشدة يوسف وعائلته لتوفير قدر مناسب من احتياجه الغذائي هذا.
تزداد حالة يوسف الصحية سوءاً يوماً بعد يوم، وسط إهمال ممنهج من إدارة سجن جو، والمماطلة في نقله إلى عيادة السجن للكشف عليه ومعالجته، ومؤخراً صار يعاني من انتفاخ غير طبيعي في البطن بسبب طعام السجن الذي لا يلائم جسده، إذ يشعر بتعب شديد بعد تناوله وتنتكس حالته الصحية أكثر.
في المرة الوحيدة التي أُخذ فيها يوسف إلى عيادة السجن بعد طول انتظار، رفض الطبيب السوداني فحصه ومعالجته وقال له هذا ليس الوقت المخصص لك وليس من المفروض أن تأتي الآن، فقال له يوسف: لقد جاء الوقت المخصص لي ولم يُحضروني. طلب يوسف من الطبيب أن يفحصه ويأمر له بالأدوية التي يحتاجها لكن الطبيب رفض. أصرّ يوسف أن يحصل على العلاج وقال: لا أستطيع أن أتحمل كل هذه الآلام أحتاج إلى الدواء. لم يكترث الطبيب. استدعى الطبيب ليوسف وكيل شرطة اسمه (ماهر) ليخرجه، وعندما رفض يوسف الانصراف بدون علاج، قام الوكيل بسحبه على الأرض وإخراجه.
لا يقف الأمر عند هذا، بل يعاني يوسف من مشكلة جفاف شديد في عينيه، وبسبب هذا الجفاف لا يتمكّن من فتح عينيه إلا بعد وقت طويل من استيقاظه من النوم، كل ما في الأمر أنه بحاجة (لقطور) لعلاج الجفاف الشديد الذي أصاب عينه، فعينه كانت قد أجريت لها عملية (ليزك) في (إيران) قبل اعتقاله بفترة بسيطة، لكن حتى هذا القدر البسيط من العلاج لا يتوفّر عليه يوسف داخل السجن.
سافر يوسف لإيران وأجرى العملية في نفس اليوم الذي دخل فيها البلد، التأشيرة الصادرة وتقارير المستشفى تثبت أن يوم دخوله إلى إيران هو ذاته يوم إجرائه للعملية، في 11 فبراير 2017 تم اعتقال يوسف، بعد يوم واحد من قدوم مولوده البكر إلى الحياة، وتم اتهام يوسف بذهابه إلى إيران من أجل تلقي تدريبات عسكرية. الأوراق الثبوتية التي قدمها دفاع يوسف للمحكمة لإثبات سبب تواجده في إيران وإجرائه العملية، لم تنجيه من التهمة المنسوبة زوراً إليه، وتم تثبيت التهمة الباطلة عليه.
لكن كل ذلك ليس موضوعنا الآن، بل حاجة يوسف إلى القطرات الطبية اللازمة والضرورية لمعالجة الجفاف الشديد الذي تعاني منه عينيه، كم أن الأمر بسيط، لكن هذا البسيط يعيشه السجناء بمعاناة كبيرة، وإهمال الأمراض البسيطة يتسبب في مضاعفات كبيرة وخطيرة.
أما وجع القلب،،
فهذه معاناة أخرى يعيشها يوسف وتضاف إلى آلامه الجسدية، إنّه همّ طفله الصغير (أحمد) الذي لا يتجاوز العامين من عمره، لم يضم يوسف ابنه أحمد غير يوم ولادته في 9 فبراير 2017، وفي اليوم التالي تم اعتقاله مباشرة.
الطفل الذي نشأ وهو لا يعرف أباه إلا عبر زجاج مانع للصوت واللمس، ولا يراه في الشهر غير مرة واحدة فقط، ولا يصل إليه إلا بعد مشقّة إجراءات الزيارة في سجن (جو) التي تصير أصعب تحت شمس هذا الصيف اللاهب، صار أحمد ينفر من زيارة أبيه، وينفر من أبيه نفسه، بل ينفر حتى من مكالمته عبر الهاتف، فليس لهذا الطفل أية ذاكرة جميلة مع والده، إنه ليس الأب الذي يخرج مع ابنه ويلعب وينام في حضنه، هو ليس الخيمة التي تظلله وتحميه وتحتويه، إنه ليس سوى شخص يراه بمشقة وفي مكان موحش يقطع ولا يصل، هكذا يرى أحمد أبيه.
لقد صار يرفض الذهاب إلى أبيه، ويرفض الحديث إليه، يحاول الأهل بكل الطرق تحبيب الطفل في والده، يستحضرون اسم أبيه في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، يغدقون عليه الهدايا والألعاب وبرامج الترفيه باسم أبيه، لكن لكل ذلك تأثير مؤقت فقط، يزول عند أول لحظة زيارة، عندما يشاهد أحمد أبيه خلف ذلك الحاجز الزجاجي اللعين، العازل للصوت واللمس، والقاطع لكل أشكال التواصل، يقع أحمد من فوره في صدمة، قبل أن يتحوّل الأمر إلى هياج وصراخ لإخراجه من المكان.
في كل مرة تزور العائلة يوسف، يعود الابن باكياً والأب مجروحاً مهموماً، لا يعرف يوسف ماذا يفعل لابنه الذي يتحرّق شوقاً لرؤيته واحتضانه فلا يقدر، لا هو قادر على تسكين روع طفله، ولا هو قادر على إدخال لحظة فرح إلى حياته، إنها الحسرة التي لا شيء يخفف حرقتها في القلب، والأسئلة التي لا تغادر مخيلة يوسف: هل ستكبر هذه الفجوة بيني وبين ابني أكثر؟ هل ستزيد كلما كبر وأنا لست معه ولا أستطيع لمسه ولا حتى إشعاره بوجودي في حياته؟ هل سأخسر حبّ ابني لي وأصير بالنسبة إليه مثل الغريب؟ هل سأخرج لأضم ابني قبل أن يصير شاباً يافعاً لا يعرف من أبيه إلا ما يراه خلف ذلك الحاجز الزجاجي الأصمّ؟ كل هذا الوجع يحرق قلب يوسف ويضاعف أوجاع جسده المتعب.
صغير على الوجع الكبير،،
نعم، صغير يوسف على هذه الأوجاع، فأربع وعشرون عاما هي بالكاد عمر أولئك الشباب الذين تخرّجوا من الجامعة وبدأوا يكوّنون أنفسهم ليبدأوا حياتهم. كان يوسف واحداً منهم. اعتقل للمرة الأولى في 2012م على خلفية الأحداث السياسية بتهمة التجمهر والشغب، كان حينها قد أكمل للتو دراسته الثانوية، قضى في السجن عامين كاملين وخرج وهو في التاسعة عشر، لم يثنه ذلك الانقطاع اللااختياري عن إكمال تعليمه فانضم إلى الجامعة لدراسة الهندسة المدنية، وفي الوقت نفسه انتظم في وظيفة ليعيل نفسه وتزوج في 2016.
في 11 فبراير 2017 تم اعتقال يوسف مرة أخرى بعد الاعتقال الأول في 2012م مع مجموعة من قرية الدير، وتم توجيه تهم الإرهاب لهم، أسقطت جنسيته بحكم القضاء وحكم عليه بالسجن المؤبد، ثم أعيدت له جنسيته وبقي الحكم المؤبد، وبقى يوسف يصارع آلامه التي تكبر ولا يعرف أي مصير ينتظرها، وجع في الجسد وآخر في القلب.