مطر مطر: فرصة لمراجعة عقديْن ماضيين
2019-03-06 - 10:40 م
مطر مطر*
لا أجد نفسي في مناسبة مرور عقدين على حكم الملك حمد بن عيسى آل خليفة أجدر من [عالم الدين الشيعي] السيد عبدالله الغريفي في توجيه القول الليّن والنصيحة الصّائبة للملك. ولا أجد أنّ لديّ من البلاغة أو الشجاعة في هجاء الملك ما يفوق تلك التي لدى بعض زملائي في المهاجر؛ إذا كان هجاؤه هو ما ينقصنا لبلوغ مرامينا من أمن وكرامة وعدالة. كما لا أجد نفسي أيضاً واعظاً للبحرينيين في الداخل وأنا مقيمٌ في الخارج.
لكنّ هذه فرصة سانحة لي لمراجعة العقدين الماضيين وأرجو أن تكون فيها الفائدة. أتذكر الأجواء الجميلة التي صاحبت تولي الملك حمد الحكم. لم أرَ شعوراً بالأمن يسود البحرين كما كانت عليه آنذاك. أفراح البحرينيين وشيلاتهم لحظة إطلاق سراح السجناء السياسيين وعودة المعارضين من منافيهم. بعد ذلك كانت المداولات حول إعداد ميثاق العمل الوطني. أثناء الإعلان عن الميثاق كنت أقيم في الكويت في السنة الأخيرة من دراستي. كانت الريبة تدفعني للبحث عن الأفخاخ والتحذير منها. كانت مرحلة التسعينات مليئة بالمظالم والجرائم بحق المطالبين بالتغيير وكانت هذه المظالم تغذي ريبتي من الميثاق. بعد أن أعلنت قوى المعارضة نيتها التصويت بنعم، كنت ممن يشجعون ويحشدون للتصويت بنعم للميثاق؛ لكن ما إن وصلت لصندوق التصويت لم تطاوعني يدي للتصويت بنعم.
عندما أعلن الملك بشكل منفرد عن الدستور الجديد بدأتُ التفكير مباشرة في أهمية التحشيد لمقاطعة أي انتخابات تترتب على هذا الدستور. جاء موقف [آية الله] الشيخ عيسى أحمد قاسم سريعاً في حينها. فبعد 24 ساعة من إعلان الدستور أدلى بحديث في إحدى خطب الجمعة رأى فيه أن الدور الذي يمكن أن يلعبه المجلس النيابي المنتخب صار ضيقاً، ورغم ذلك فإنه يتحتم على هذا المجتمع المسلم أن يفي لإسلامه في كل عملية انتخابية، وذلك بالحضور الناشط والفاعل إعلاماً وتصويتاً.
لم تأخذ دعوة المشاركة أصداء حينها وما زلت أجهل السبب وراء ذلك. أتذكر في تلك الفترة وقوفي في الشارع لاستطلاع آراء المارة حول موقفهم من المشاركة في أي إنتخابات قادمة. لا أذكر نتيجة ذلك الاستطلاع الآن؛ لكن ما هو راسخ في ذاكرتي هو أن نسبة كبيرة من المارة كانوا منزعجين و مستغربين من السؤال. كثير من المارة كان يقول بأن "هذا الأمر يحدده العلماء". كان الكثير يعتبر مجرّد السؤال هو مقدمة لانقسام وفتنة ومدعاة ريبة من صراع داخلي. كان ذلك أكثر أهمية من القرار النهائي نفسه.
لم أكن أحلل هذه المعطيات بهذا الشكل آنذاك. كنت مندفعاً لتفادي ما أعتبره "خطيئة المشاركة". أعددت ورقة عن أبرز ما يبرر المقاطعة بناءا على مواد دستور 2002 ورحت أضعها على مدخل جامع الإمام الصادق. كنت أشاهد عن بعد انطباعات من يقرأها وكان الانطباع مماثلاً. لقد كان الاحتجاج على الدستور والدعوة للمقاطعة بمثابة محاولة لإحراج المرجعية الدينية والقيادات السياسية.
شخصيا لم تكن نيتي ابتزاز المرجعية الدينية أو تجاوز الجمعيات؛ لكن بالتأكيد فإنّ بعض دعاة المعارضة كانوا ينظرون للمرجعية الدينية والقيادات السياسية بأنها عقبة أمام الإصلاح السياسي ويجب تحجيمها. المؤسف في الأمر أن خطبة قاسم كانت تتضمّن الكثير من الهواجس التي أهملت حينها، ويبدو لي أنها ما تزال مهملة حتّى اليوم. أما الجزأ المشرق في الأمر فهو أن قوى المعارضة مارست أرقى صور الممارسات الديمقراطية حينما حسمت مسألة المشاركة والمقاطعة عبر حوارات حرّة يتساوى فيها رجل الحوزة والرجل الأكاديمي. يعود الفضل في هذه الممارسة الراقية لإرادة الشيخ علي سلمان [أمين عام جمعية "الوفاق" الوطني المنحلة].
من المؤكد أن قرار المقاطعة لم يكن يمتلك من الأفق ما يجعلنا أقرب إلى تحقيق تطلعاتنا في دولة عصرية؛ ولكن افتراض أن الحل كان في المشاركة لم يكن يعدو أن يكون أمراً افتراضياً هو الآخر. فليس هناك ما يثبت أن حالنا سيكون أفضل لو التزمنا بالمشاركة على طول الخط.
بعد كل هذه السنوات أجد أننا استغرقنا في فهم المعارضة على أنها استعراض المظالم وهجاء الظالمين. كما استغرقنا في فهم الإصلاح على أنه مجموعة من الأطر القانونية. ففي التسعينات كان الشعار "البرلمان هو الحل" وفي مطلع الألفية أصبح "الدستور التعاقدي هو الحل" ثم في 2010 أصبح "المملكة الدستورية هي الحل". لكن عند النظر لحجم التحدي الذي تواجهه قطر على سبيل المثال بحكم الحصار السعودي الإماراتي عليها أتساءل شخصيّاً: كيف للبحرين أن تقيم إصلاحا دستوريا؟ ما قيمة أي وثيقة دستورية إذا كانت الإمارات هي من تدير المطار الوطني! والولايات المتحدة الأمريكية تدير الأسطول الخامس! والسعودية هي من تزود البحرين بالنفط لتكريره! وتتحكم في تدفق أكثر من 80 % من زوّار البحرين عبر المنفذ البري! وهي من تدير حقل "أبو سعفة" البحري وتقدم المنح! لقد كنت أتطلع لأن تكون البحرين هي مفتاح الحل لإصلاح سوق العمل الخليجي فهي صاحبة التجربة المختبرية الصغيرة التي يمكن للسعودية أن تستفيد منها وتستنسخها على مستوى أكبر.
هذه أحلامي؛ أما الواقع فإن البحرين قد أضحت عبئاً مالياً ومصدر قلق وهواجس من ربيع خليجي عند حكام السعودية و الامارات. في النهاية البحرين هي جزء من الجزيرة العربية. أي خير يعمها فهو سيعمنا وأي سوء يطالها فهو سيطالنا أيضا. أمام هذه المعطيات يبدو لي واضحاً أن ما يفوق أهمية النظم الدستورية هو موازين القوى التي تحمي أي تسوية.
-
نائب بحريني سابق مقيم في الولايات المتحدة الأمريكيّة