» رأي
الصّحافة العنيدة
نادر المتروك - 2012-05-13 - 6:12 ص
نادر المتروك*
ليس صْعباً إثبات أنّ الصّحافة في البحرين مرّت بأسوأ مراحلها -على الإطلاق- خلال العام المنصرم. يمكن التأكيد أنّ انزلاق المشاريع الصّحافيّة، وبوتيرة متسارعة، باتجاه الرّؤية الرّسميّة، هو الصّورة العامة للصّحف اليوميّة الصّادرة في هذه البلاد غير الآمنة. كان يُفترض أن تؤدّي صحيفة "الوقت" درواً مختلفاً. وهي فعلت الاجتهاد المختلف طوال فترة صدورها. مع انقطاعها المفاجئ، واجهت صحيفة "الوسط" وحيدةً محنةً من نوع آخر. السّؤال الذي يُروادُ المهتمّين بالصّحافة وحرّية الكلمة اليوم، هو: كم من الوقت، والجُهد، يحتاجه الوسط الصّحافي لاستعادة بعض مكانته المسحوقة؟
الصّورة التّلميعيّة التي انكبّ النّظام على تثبيتها في السّنوات التي سبقت ثورة 14فبراير؛ لم تبتعد عن موضوع الصّحافة، حيث أعطى أولويّة ما لإيجاد مشاريع صحافيّة جديدة، ولم يُبد ممانعة أوّليّة ضد الخروجات المنضبطة التي أبدتها بعض الصّحافة. كان واضحاً أنّ الإجراءات القمعيّة التي استقرّت عليها الصّورة النّمطيّة للنّظام طيلة العقود الفائتة، بانتظار إزاحة موسّعة، ولكن مقنّنة أيضاً. عمليّة تصحيحيّة تطال الإنتاج الإعلامي، ولكن من غير المساس بالعلامات النرجسيّة التي تميّز بها أقطاب الحكم. جاء مشروع "الوسط"، و"الوقت" لاحقاً، لتعزيز تلك العمليّة المعقّدة. إذن، ولأنّ الأمر يتعلّق بالتغطية العامة، والرّؤية الإجماليّة للأوضاع، فقد كان من الطّبيعي أن يشْرع النّظام في إعادة تشكيل النّمط الصّحافي الموروث.
في العُمق، لم تتحوّل الصّحافة في البحرين إلى مستويّات الحرّية الحقيقيّة. ينسحب ذلك على ألمع التجارب الصّحافية أيضاً. ظلّ الرّقيب جاثماً. ولم تتخلّص الصّحف من الممنوعات المسبقة. للدّقة، لم تكن الأرضيّة "الصحافيّة" مهيأة آنذاك للإقدام على ذلك التخطّي "القتالي". المفارقة، أنّ هذا اللّون من التخطّي، أقدمت عليه الصّحيفة الوحيدة المستمرّة، غير المحسوبة على "النّظام"، أي الوسط، وخلال الحقبة الأشدّ سواداً، واستطاعت أن تفعل – ولا تزال - ما يندرج تحت بند "الصّحافة العنيدة". تمّ ذلك بفضل شخصيّة قويّة، مليئة بروح القتال والمشاكسة، تمثّلها منصور الجمري. الأخير، سيكون واحداً من رموز الصّحافة الحديثة في البحرين، ليس فقط لأنه وفّر البيئة الصّحافية المناسبة لولادة جيل صحافي شاب، غير محسوب على مدرسة "وكالات الأنباء"، واجترار المواد الجاهزة الصادرة عن الأخيرة. من هذه الناحية، يمكن القول أن البحرين لم تحظ – طوال تاريخها – بصحافة حرّة حقيقيّة، ولكنها بالتأكيد حفلت بأسماء عديدة من الصّحافيين الأحرار.
خلال الشّهور الأولى للثّورة، وحين امتدّ البطش باكراً للصّحافة، كان من اللافت أنّ التهديد الذي تعرّضت له آخر الصّحف المستقلّة، الوسط، شديداً في دلالته، ومباشراً. حوكم الجمري، وتعرَّض للإهانة من قِبل الإعلام الحكومي، وشُنّت ضدّه هجمة منظّمة، انتهت بتوقيف الصّحيفة. كان يُراد إغلاقها نهائيّاً. لم يكن متوقّعاً أن يعلو الصّوت في ظلّ قانون الطوارئ الذي نفّذته الدّبابات المدعومة من النظام السّعودي. المفاجأة كانت في الاتجاه الآخر. أبدى الجمري صموداً مميّزاً، ورفض الانصياع للإرادة التدميريّة التي أرادت إقبار المشروع الذي بناه طوبة طوبة. استثمر رئيس تحرير "الوسط" مخزونه القديم، وحرّك علاقاته المؤثرة، واستطاع أن يتغلّب على خصومه الكبار. استرجع الجمري الصّحيفة مجدداً، وقد كانت على وشك أن يبتعلها التنين. هذه الاستعادة "الجريئة" لا تنفصل عن مرحلة "التدجين" المؤقتة التي كان يُخطّط لها إبان استلام عبيدلي العبيدلي رئاسة التحرير، وقبل أن يترك الأخيرُ كلّ شيء ويذهب خارج الجريدة. يُمثّل هذا المقطع "الدراماتيكي" إشارة مختصرة لطبيعة المحنة البشعة التي أحاطت بالصحافيين في البحرين. كانوا محاطين بأنواع شتّى من الإخراس وإزهاق حرية الكلمة، وحرّية الحياة.
من جانبٍ آخر، ولّدت ملاحقة الصحافيين، والتضييق عليهم - لأسباب تتعلّق بتأييدهم الثّورة، والتعاطف مع مطالبها الديمقراطيّة – تشجيعاً على كتابة الإزعاج، وكان لوسائل الاتصال الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) الفضل الأكبر في ذلك. تحوّل النّاس إلى إعلاميين، ومارسوا دوراً صحافياً فاقَ الأدوار الإعلاميّة (التّضليليّة) للسّلطة. كان حضور بعض الصحافيين المحترفين داخل الفضاء الافتراضي أثره في إضفاء جدّية ملحوظة في الكتابة الإلكترونيّة، إلا أنّ الجسارة التي يُتحيها هذا الفضاء شجّع على تجريب الممنوعات، وتجاوز الخطوط الحُمر، لاسيما في ظلّ "جسارة" الأجهزة الأمنيّة المختلفة في اقتراف الانتهاكات. سطّرت الكتابة عبر وسائل الاتصال الحديث "ملحمة" وفيرة في مجابهة التضليل الرّسمي، ولم تستطع السّلطة – رغم التكاليف الباهظة – مجاراة الإنتاج الإعلامي والصّحافي والدّعائي "الأهلي"، وفي هذا الصّدد كان مفهوماً اتهام المستشار الأمني جون ييتس للبحرينيين بإساءة استخدام هذه الوسائل، واستعمالها لتشويه حقيقة الأوضاع في الدّاخل!
التحسينات الإعلاميّة التي أوجدها الإنتاج "الشعبي" ليس متوقّعاً منها أن تُعيد للصّحافة مجدها القديم. سيبقى نهوض الصحافة مرهوناً بنهوض الوطن وبولادة مشروع الدّولة الحديثة التي تحترم الحرّيات. عدا ذلك، فالصّحافة ستظل حبيسة الطارئين عليها، وستستمر ملاحقة كلّ منْ تسوّل له نفسه تمزيق هذا الغلاف الغليظ.
*كاتب بحريني