» تقارير
باسم ضيف يروي الساعات الأخيرة للشهيد صقر، "الزعيم" كلمته الأخيرة
2012-04-09 - 6:02 ص
مرآة البحرين (خاص): القضبان الحديدية الباردة، أصوات السياط الممتدة على الأجساد العارية، صرخات الموجوعين، وشكر الحامدين، رائحة الموت، ودموع المجهول، ذكريات الظلمة والخوف، كل ذلك وأكثر، كان حاضراً، يحضر بثباتٍ أمام ناظر الطبيب باسم ضيف، جراح العظام الذي اعتقل وعذب لمشاركته في تضميد الجرحى منتصف مارس الماضي، بخطى الخائف، وابتسامة الوجل، كمن يقبل على أمر يدرك مدى قسوته.
وقف ضيف، عند منزل الشهيد علي صقر، كان عبور الممر الضيق أصعب لحظة، لأنها ستحمله إلى حيث ينتظرونه، وحيث تلك الذكريات الموجعة تنتظر أن يبسطها، ذات الذكريات التي تجنب مراراً الخوض فيها مذ ترك لقضبان السجن أنين مواجعه. أمام منزل الشهيد علي صقر، الصغير بحجمه، الحميم بمشاعر أهله، استقبلنا شقيق الشهيد قرب الباب، دخلنا عبر الممر الممتد، إلى الغرفة الوحيدة بالطابق السفلي، وهناك كانت أخوات الشهيد وأبناؤهن، يجلس الجميع بترقبٍ مثير. اُستقبل الضيف بمشاعر ممزوجة، بين فرح الالتقاء به، والحزن لالتصاق الزيارة باللحظات الأخيرة بحياة الشهيد، الطبيب ضيف كان آخر شاهدٍ على اللحظات المرعبة التي واجهها الشهيد صقر قبل الموت.
■ هيبة الموت..
جلس في مواجهة العائلة التي اكتظ بها المكان، صمتٌ ساد الأجواء، ربما هو الصمت حين تحضر هيبة الموت. بعد لحظات كانت دموع الطبيب الذي احتضن جراح الكثيرين تتساقط بسخاء، احمرّ وجهه، وأطرق موجوعاً، عجز عن الكلام، قبل أن يلبي دعوة العائلة، تساءل: "هل أقوى على فعل ذلك؟ لست أدري، ربما كان الموقف أكبر مني".
نظر في وجوههن، الملامح تترقب، كان الشهيد حاضراً، في تلك العيون التي تخفي خلفها دمعاتٍ حارة، ساد الصمت، فقط أنفاسهم جميعاً، تعزف لحن المواجع، بدأ الأمر بالبكاء، استحضار الوجع كان كفيلاً ببكاء الطبيب. قال: "لم أعرف الشهيد إلا بعد استشهاده، بأسبوعين أو ربما عشرة أيام، كان رفيق زنزانتي في سجن الحوض الجاف، هما يومان فقط، قبل أن يختفي صوته للأبد" صمت وأطرق واجماً، ثم أكمل:" قضيت في التحقيقات الجنائية ثلاثة وعشرين يوماً، لكن ما لقيته في سجن الحوض الجاف كان موتاً لا يطاق، وكان للشهيد نصيب الأسد مما لقينا، علمت بعد مدة أن اثنين توفيا بالسجن، صقر (ولم أكن اعرف اسمه حينها) والعشيري الذي كان صوته يصلني من الزنزانة المجاورة وهو يقول "الحمد لله" كلما عذبوه، لم أكن حينها أعرفهما، ولا حتى بالاسم، عرفت شيئاً واحداً حينها، أن موتهما كان رحمةً علينا جميعاً، يوم توفيا توقف التعذيب بسجن الحوض الجاف، بعد استشهادهما فكوا قيودنا، رفعوا العصابات عن أعيننا، وأحضروا لنا فراشاً للنوم وسمحوا لنا بالجلوس لفترة ممتدة لأول مرة منذ 26 يوماً.
كان ضيف يتجول بين الأعين الصغيرة، قبل أن يكمل حديثه، ربما أراد أن يتأكد أنهم ما زالوا قادرين على تحمل ما يقول، أكمل بتأثرٍ :"كان الشهيد مربوط الرجلين واليدين، معصوب العينين، أخبرني موقوف جنائي آسيوي أن الشهيد به لجام في فمه!!، أنا أيضاً كنت معصوب العينين ومربوط اليدين، ولهذا احتجت لشخص ينقل لي ما يحدث في تلك الزنزانة المظلمة، كان الشهيد عاجزاً عن المشي، يقوم ويهوي، ولا يقوى على الكلام، لم أكن أعرف من يكون، ولا جريمته، لكني عرفت أنه مستهدف أكثر من الآخرين، كان تعذيبه شديداً، واستهدافه واضحاً، في الليلة التي سبقت استشهاده اشتد التعذيب علينا، كانت تلك الليلة الأسوأ، ولم أكن أعرف كم سنحتمل، فضلاً عن قدرة الشهيد المتبقية على الاحتمال أيضاً، لكني لم أعرف أنه كان يقترب من الموت أيضاً"
أحمرّ وجه الطبيب مجدداً، تساقطت دمعاته، قال بصوتٍ متقطع:"كان يطلب مني فك قيده، لكني كنت مقيداً أيضاً، وعاجزاً عن مساعدته"، ربما شعر ضيف عندها أنه خذل الشهيد، وأنه فقط لو استطاع فك قيده، مساعدته، الكشف على جسده الذي حطمته أدوات تعذيبهم، لربما لم يمت حينها، ربما دار في رأسه الكثير من الأسئلة، واللوم، والشكوى، لكن الأكيد أن الكثير من الدموع كانت حاضرة لوقتٍ طويل، وستظل كذلك.
صمته هذه المرة طال، شيء يخص في صوته. إحدى أخوات الشهيد شعرت بوجعه، عالجته بكلماتها البسيطة:"لا تبكي يا دكتور، نحن صمود، ولو استشهد منا أحدٌ آخر فلن نبالي أيضاً".
كان واضحاً أن أمر الشهيد لم يكن يهم أهله فقط، لم تكن أخواته الوحيدات الشغوفات لاستكمال القصة، أو ذاك الجزء الذي لم يعرفوه بعد منها، لكن الطبيب الذي شهد موته، مهتمٌ أيضاً باستكمال قصته، قصة الرجل الذي مات قبل عام، وما زال حاضراً في دموع كل من عاش معه، قابله، وشهد موته، سألهم باهتمام:"متى اعتقلوه؟" قالت أخته:" لم يعتقل علي، هو سلم نفسه، بعد استمرار هجوم قوات الشغب علينا لأربع مرات، وتهديدنا بالأسلحة، والاغتصاب، أو القتل، إن لم يسلم أخونا نفسه، فاتصلنا به، وقام بتسليم نفسه"
في مديرية شرطة المحافظة الشمالية (مركز شرطة دوار 17)، قرابة الواحدة والنصف ظهراً، كان الشهيد يقف أمام موظف الاستعلامات بالمركز، قال لهم: "لم تهجمون على أهلي أربع مرات؟ ما الذي تريدونه مني؟ قالوا له: ألا تخاف؟ فأجاب بحزم: ومن قال لكم إني أخاف، أنتم حكومةٌ ساقطة" اختفى صوته بعدها، واختفت معه أخباره أيضاً، إلى يوم الإعلان عن استشهاده، لم يكن الشهيد صقر رجلاً جباناً، لقد كان شجاعاً مقداماً، يعرف عنه ذلك كل من عرفه بحياته، لم يكن يخشى أحد، ويحمل بنيةً قوية، سخرها لإنقاذ الجرحى يوم الهجوم على المرفأ المالي، لم يذهب لدهس الشرطة كما ادعوا، لقد كان هناك ينقذ من شعبه فقط من يمكن إنقاذه.
■ الزعيم..
ذهب الطبيب قاصداً بيت الشهيد بناءً على طلبهم، أرادوا أن يعرفوا آخر كلماته، وكان هو فقط من يعرف آخر كلماته، اللقاء الذي احتاج لعامٍ كاملٍ كي يحدث، حمل معه الكثير، ليس للمعنيين باللقاء، بل لكل من آمن أن صقر رجل كان يحمل قضية، وإرادة قادرة على المضي من أجل مبدأ، من أجل حلم، من أجل وعد، أكمل ضيف حديثه:" حين يشتد التعذيب على الشهيد كان يتفوه بكلمات لم أفهم معناها حتى اليوم، لكني سأقولها، نزولاً عند رغبتكم، تريدون آخر كلماته، آخر ما نطق به، آخر وصاياه المبهمة، سأنقل لكم ما كان، كما سمعته، كان يردد دائماً (الزعيم)، وتبادلت الأعين نظرات الدهشة، الكل في تساؤلٍ صامت، عن معنى تلك الكلمة المبهمة، إلا واحدة من الشقيقات، وكانت الأقرب له، وجدتها تبتسم، وكأنها تعرف ما يعنيه الشهيد، سألتها:"هل تعرفين ما يقصد؟" أومأت برأسها، قالت:"نعم، يقصد الشيخ عيسى قاسم، له تسجيل يظهر فيه بجانب سماحة الشيخ وهو يبكي، فيقول له الشهيد: "يالزعيم انت لا تصيح، ولا دمعة تنزل منك، أنت بس قول الجهاد وشوف هالرقبة لك سدادة، نفتتهم تفتيت"
في إحدى حفلات مجونهم وصخبهم المغلف برائحة الدم، توقف صوت صقر، اختفى، وتوقفت الأرجل عن الركل، والعصي عن الضرب، ساد الصمت في تلك الزنزانة الباردة، يقول ضيف: "جاؤوا بعدها، اقتادوني لمكان أجهله، وكنت لا أعرف التوقيت حينها، ضربوني، وسألوني ماذا رأيت؟ قلت لم أر شيئاً، ولم أكن أكذب، فقد كنت معصوب العينين، لكنهم استمروا بالسؤال، ثم أعطوني ورقة طلبوا مني أن أوقع وأبصم أيضاً، دون أن أرى ما كان بتلك الورقة!
لقد عذب الشهيد في ذاك السجن طويلاً، لم يشهد باسم ضيف عذابه طويلاً، لكنه شهد أسوأها، يومين ونصف فقط، حملا الكثير من العذاب، والألم، الكثير من ساديتهم، تماماً كما حمل رائحة الموت التي تسللت عبر صرخات المعذبين، أو احتمالهم المتخم بالحمد والشكر، يضيف الطبيب باسم:"كان الشهيد يطلب أن يذهب الحمام لقضاء حاجته فلم يكن يسمح له، كما كان مربوط الرجلين برباط بلاستيكي، وبيديه القيود، وكلما أعادوه للزنزانة بعد تعذيبه، كان يرتمي فوقي، لم أكن قد رأيته، لكني استشعرت أنه رجل يحمل جسداً لا يستهان بقوته، كان يرتمي في حجري، ويطلب أن أفك قيوده، كم كنت عاجزاً عن مساعدته، عاجزاً عن التخفيف عنه"
إحدى أخوات الشهيد قالت بهدوء:"كم كنا نتمنى أن نلتقي بشخص شهد موت أخينا، أن نعرف آخر كلماته، أن نعرف تفاصيل عذابه، أن نشاركه وجعه ولو بالذكرى، ونحمد الله أن قد منّ علينا بما أردنا، فكنت أنت الشاهد لموته الأخير" وكانت تلك الشهادة التي وثقها الطبيب لاحقاً حين التقى بلجنة بسيوني، فذكر مظلومية الشهيد، وتفاصيل عذابه، التي أفضت لموتٍ كان يسرع الخطى نحو رجلٍ مقيد الجسد، طليق الكرامة.