في بيت رضا الغسرة.. كان مهشّم الرأس
2017-02-13 - 3:16 ص
مرآة البحرين (خاص): عصر الأحد 12 فبراير 2017، بيت الشهيد رضا الغسرة. بعد وقت قصير من الانتهاء من دفن الشهداء في لوعة المكان والأهل. لم يرجع أخ رضا غير الشقيق "ياسين" من المقبرة بعد، سُمح له هو وعمّه فقط بالتواجد في مراسم الدفن، إخوة رضا الأشقاء جميعهم في السجن.
البيت صغير مكتظّ بالنسوة، لا تكاد تجد مكاناً تجلس فيه. مدخل البيت ممتلئ، الغرف الصغيرة ممتلئة، والممر المؤدي إلى الغرف كذلك. لا تسمع إلا صوت الحسرة وآهاتها، تتجرعها النسوة كما يتجرّع المسموم كأسه الذي يعرف أنه يحمل أجله.
تجلس أمّ رضا مستندة على جدار صالة البيت الصغيرة، وجهها مسحوب إلى كتفها، تدور بعينيها كمن تنتظر دخول شيء آخر عليها غير ثياب الحداد، كأنها تبحث عن شيء يصلها برضا، شيء يريها إياه، تحرّك رأسها للأعلى والأسفل وتضرب بيدها على رجلها. لا كلمة يمكن أن تصف حال وجهها الملتاع بالحسرة: لم ألقِ عليه نظرة وداع واحدة.. لم ألمسه.. لم أحضنه.. لم أقبل بين عينيه.. عيناها الشاخصتان تبحثان عن كلام يمكن أن يُخرج ما فيها.. لا تجد.. ترفع رأسها: "الله على الظالم.. الله على الظالم..."
تنطق امرأة من أقرباء رضا: "قلت لهم دعونا نُلقي النظرة الأخيرة عليه، نريد أن نودّعه فقط، رجوتهم، قالوا لي: من زماااان دفنّاه.. ثم أداروا ظهورهم وساروا هازئين"..
ترفع أم رضا عينيها وتضيف: "قلت لهم وهم يمنعوني من الدخول لتوديع ابني: نحن اليوم نبكي وأنتم تضحكون، غداً نحن سنضحك وأنتم ستبكون".
تصمت قليلاً ثم تقول بصدمة من لا يصدّق ما رآه: "جاؤوا لنا بجيوووش.. جيوووش.."، تعلّق إحدى الحاضرات وكأنها تكمل ببلاغة: "جيوش من خوف"..
تعلو أصوات النسوة الضاجات بالبكاء.. تدور أم رضا برأسها.. تسنده على الجدار.. تحدّق في الحسرة.. تطلق شهقة تصل حرارة جمرتها إلى كل من في المكان..
على باب إحدى الغرف، ربما هي غرفة رضا، لصقت صورة له، كان يطالعنا بابتسامته المرحة التي تميّز معظم صوره التي تصلنا إليه بينما هو في زنزانة هنا أو مخبأ هناك، يطالعنا بشعره الكثيف وخصلته المتدلية في منتصف جبينه، وتغوص عيناه في عمق ابتسامته، كأنه يقول لنا: لقد نلتها أخيراً.. نلت حريتي.. فأنا لست مخلوق لكي أبقى في هذا الجحيم.. أنا طائر حرّ.. ومكاني ليس هذه الزنزانة الكبيرة، ليس هذه الأرض..
تعود والدة رضا وكأنها قد سمعته: تقول للنسوة اللاتي يحتضنّها.. لقد نال رضا ما أراده دائماً.. لقد فاز بالخلود.. الشهيد لا يموت.. البطل لا يموت..
في الغرفة الثانية تجلس أخوات رضا وزوجات أخوته، تخبر إحداهن: "قلنا لهم، لتدخل فقط والدته كي ترى ابنها وتودّعه.. هددونا بجيوشهم الجرارة التي اصطفت تقابل فاجعتنا، لا يوجد هنا شيء لكن، اذهبن إلى بيوتكن وإلا ضربناكن"
تكمل: " في المقبرة، وجد الأهالي حفر القبور مناف للتقاليد الدينية، ورفضوا دفن الشهداء فيها، فقال لهم رجال الأمن، إذاً احفروها أنتم لوحدكم. اضطر أخ رضا وعمّه القيام بحفر القبر وحدهم رغم أن الحالة الصحية لكليهما لا تتحمّل هذه المشقة الجسدية والنفسية".
ليس ثمة قارئة في بيت رضا، لكن كل الحاضرات تحولن إلى قارئات، تصرخ إحداهن منشدة أبيات الواقعة: "يا مجهز حسيييين.. قل لي القبر وين؟".. تضج النسوة بالبكاء ويلطمن صدورهن ويضربن على أفخاذهن ويصرخن يا حسييين يا حسيييين يا حسييين.. تصيح أخرى: "هَذا حُسينٌ بِلا غُسْلٍ ولا كَفَنٍ عَارٍ تَجولُ عليهِ الخَيلُ مَيْدانا".. يرتفع صوت النحيب ويختلط الصراخ بالبكاء.. تستحضر ثالثة أبيات شعر تنعي فيها جنازة جثمان الإمام موسى الكاظم الذي شيّع مكبّلاً بالحديد.. تتعالى الصرخات أكثر.. تنسج رابعة أبياتاً تنعى فيها شهداء الحرية الذين منع أهلهم من تغسيلهم ودفنهم والصلاة عليهم.. يصير المجلس زلزال بكاء.
يدخل "ياسين" أخ رضا للتو عائداً من المقبرة، وجهه مثل شحوب الموتى الذين عاد منهم للتو، ترفع كل النسوة أعينهن إليه متطلعات، وكأنهن يردن منه أن يخبرهن عن حال رضا: "كيف رأيت البطل رضا يا ياسين؟" يتعالى الصراخ، تتراكض أخواته إلى حضنه مولولات، يلمّهن بذراعيه ويغوص برأسه في حجورهن، ويختضّ الجميع في نوبة بكاء طويلة، تعمّ الهستيريا المكان. "يكفيه ما فيه إنه مريض بالقلب" تقول زوجة أخيه وهي تشهق بالبكاء.
يرفع ياسين رأسه ويقول محاولاً مواساة نفسه أو النسوة: طالما كان رضا مرتبطاً بفاطمة الزهراء في كثير من محطات حياته، ها هو يُدفن في يوم وفاتها. تعلو الصرخات والصياح. ثم يضيف: وسأزيدكنّ، في مثل هذا التاريخ تماماً، دُفن والدي قبل عام ولم يتمكن رضا من حضور مراسم تشييعه وعزائه. ينفجر المكان بالبكاء. ينسحب ياسين خارجاً..
لاحقاً، يخبر ياسين عائلته بما رآه مما لم يستطع قوله أمام النسوة: لقد رأيته مهشّم الرأس بثلاث رصاصات، لقد اضطررنا إلى تجبير رأسه كي نتمكن من غسله وتكفينه، وفي كتفه كانت تسكن رصاصة أخرى، وجسده مشرّح من أعلى الرقبة حتى أسفل الجسم..
لكن صورة رضا.. ما تزال تضحك، بذات الابتسامة المرحة، وبذاك الوجه الممتلئ بالحيوية والحياة، وبتلك الخصلة المتدلية من شعره في وسط جبينه، حتى وإن فجّره الرصاص.