» رأي
حتى لا نبقى غنيمة حرب...
عادل مرزوق - 2012-03-28 - 11:27 ص
عادل مرزوق*
أخطر ما يفعله قارئ حكاية ما، هو أن لا يقرأها كاملة، ذلك أنه قد ينسبها لتاريخ ولادة مزيف، أو قد يميل لإطلاق أحكام أو قرارات أو حتى انطباعات تغفل تفاصيل لم يشأ أن يقرأها، أو أن يشتغل على دلالاتها. وهكذا، تكون مجمل هذه القرارات أو الأحكام أو الانطباعات جزءاً من فوضى وتفاصيل الحكاية، لا حلولها. ولا فرق هنا بين أن تكون الحكاية حكاية فرد واحد، أو حكاية شعب بأكمله.
في حكايتنا، يبدو أننا نتعمد تجاهل/تغاضي/تناسي تفاصيل ومحطات هي بالتأكيد بالغة الدقة والدلالة في تاريخنا. ثمة ما يشبه قرار جماعياً/جمعياً قد اتخذناه دون أن ندري، مفاده أن لا نتذكر، أن لا نفكر، أن لا نكتب، أو حتى أن لا نستشهد بتفاصيل الحكاية كاملة. حالة تدعو للشك في أنفسنا قبل الآخر الخصم. ليست دولة القبيلة من تبدو المستفيد الوحيد في تغييب تاريخ الحكاية وحسب، ولكأننا جزء من هذا التغييب المتعمد، والاستفادة أيضاً.
الذي يحضرُ في جل خطاباتنا، وتحليلاتنا، وفهمنا لما يجري رغم تبايناتنا، هو أننا ولدنا في الرابع عشر من فبراير العام 2011، ولكأننا خرجنا من العدم، أو أتينا من تاريخ مجهول لا أرشيف له. لكننا نعرف جيداً، أننا لم نولد مع سقوط أول شهيد في فبراير، ولا مع وصولنا لدوار اللؤلؤة. نحن متفقون وبإجماع مستور في خوالجنا، أن تاريخ الحكاية كان أقدم، وتفاصيلها أيضاً.
نخطئ كثيراً حين نوهم أنفسنا– متعمدين ومدركين خطورة ما نفعل – أننا غير معنيين بالتفاصيل والأرشيف وأصل الحكاية، وكأننا البحرين بعد هذا التاريخ ليست متصلة أو معنية بما كان قبله. وبالمناسبة، مِثلُ هذا الوهم كان قد كلفنا الكثير، وقد يكلفنا اليوم أكثر وأكثر.
ليس المراد أن تعصر ذاكرة الناس إلى مسرح الحركة المطلبية في التسعينيات من القرن الماضي، إلى ما تجرعناه من العذابات والذل والظلم والاضطهاد والجرائم والانتهاكات. لا، فالحكاية - مجدداً - أقدم وأعمق وأكثر امتداداً وتشعباً. ولعلي استحث نفسي - قبل الآخرين - أن أشحذ واستجمع وأركِب في مخيلتي وفهمي ومداركي تفاصيل الحكاية كلها.
الحكاية التي أعنيها، ليست حكاية الرابع عشر من فبراير العام 2011، أو الحركة المطلبية في التسعينات، أو مرحلة الاستقلال ودستور 1973، أو حكايات الكفاح ضد المستعمر ومعاونه المحلي، أو غزوات (الفداوية) إذ يطوفون القرى ليسرقوا أقوات الناس ظلماً وعدواناً، أو حكايات القهر عن النساء اللاتي اختطفن من القرى على يد الشيوخ وفداويتهم كما تثبت ترجمات الوثائق البريطانية، أو جرائم القتل والترويع وقطع الرقاب وانتهاك الحرمات والأعراض في القرى مذ وطأت أرجل (الفاتح) وعائلته سواحل هذه الجزيرة. الحقيقة، أنها كل هذه الحكايات مجتمعة في حِمل واحد، في مكان واحد، وزمان واحد.
تبدو الحكاية طويلة، وثقيلة. والأدهى، أن كلفة جمعها في مخيلة واحدة هي بكل المقاييس كلفة باهضة، كلفة تكسر الظهر، وتخلط الأوراق. لكنها رغم ذلك، ستجعلنا هذه الكلفة الباهضة مدركين بوضوح أن الحكاية ليست موضوعنا نحن في امتداد حوادث طرية يقطعها الرابع عشر من فبراير، ليست متعلقة بمن قُتل وعُذب وشُرد ومُنع لقمة العيش وأهين وانتهكت حقوقه وحرمة ماله وأهله بعد الخامس عشر من مارس العام 2011، هي حكاية ذلك الفقير الذي لم يكن يصطاد السمك في ساحل سترة أو يزرع أرضه المسروقة في جد حفص ليأكل من كد يديه، بل ليسلمه صاغراً لشيخ جعله الحاكم المستبد سيداً عليه لديه، هي حكاية النساء اللاتي خُطفن من القرى ليعملن جواري في قصور الشيوخ وفداويتهم ومرتزقتهم، هي حكاية القتلى والضحايا عاماً بعد عام. تفاصيل الحكاية ليست سراً، ويجب أن لا تكون كذلك.
هذه حكايتنا، حكايتنا الكاملة. صحيح أنها حكاية حركة وطنية لشعب يسعى لتأسيس وإنجاز دولته المدنية، لكنها قبل ذلك، حكاية تحرر شعب لم يعد يقبل البقاء كـ (غنيمة حرب) مملوكة، لا حقوق ولا كرامة له.
نحتاج أن نفهم القصة والحكاية ذلك أنها متكأ خياراتنا وقرارتنا، ولا أقول ذلك لأضرب سداً مع دعاوى الحوار مع الآخر والذي هو عائلة الحكم، لكن لنكون أكثر وعياً وإدراكاً لهذه اللحظة من تاريخنا: هل نبذل المزيد حتى نعود لحريتنا، أو نقبل البقاء كـ (غنيمة حرب)؟!، يرمى لنا الفتات، لنرضى عقداً من الزمان، فإن افلتت ظهورنا من السياط، عادت لتجلد ظهور من يأتي بعدنا!
* صحافي بحريني