الشهيد علي السنكيس في اللقاء الأخير: أبكي خوفا عليكم... وسأقضي الليلة في الصلاة
2017-01-21 - 8:19 م
وأعشق عمري لأني إذا مت
أخجل من دمع أمي
خذيني إذا عدت يوما وشاحا لهدبك
وغطي عظامي بعشب تعمد من طهر كعبك
وشدي وثاقي بخصلة شعر
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
محمود درويش
مرآة البحرين (خاص): لقد كان صباح السبت 14 يناير/كانون الثاني حين هاتَف عبد الشهيد السنكيس زوجته، يخبرها عن تلقيه اتصال، يفيد بزيارة غير مجدولة لابنهما علي عند الساعة الرابعة عصراً، كان الخوف قد حاصره منذ لحظتها.
شعرت الأم بما ينتظرهم، أرادت التأكد، اتصلت هاتفياً بوالدة عباس السميع تسألها عما إذا كان خبراً مشابهاً قد وصلهم بشأن زيارة ابنهم، كان الجواب نعم. صار اليقين أقرب من دقات القلب. اتصلت بوالدة سامي مشيع تسألها أيضاً، فكان جواب الأخيرة: لا، لم يردنا اتصال. قالت لها والدة السنكيس: ترقبوه.
جاء الاتصال لاحقاً، والمفارقة أن مشيمع كان أول من دخلت عليه عائلته عند الساعة الواحدة. قبلها لم يكن أي من الثلاثة (عباس وسامي وعلي) يعلمون عن أمر الزيارة، لم يعرفوا إلا عند الساعة الثانية عشر والنصف؛ قبيل زيارة سامي. كان كل واحد منهم قد وُضع في زنزانة انفرادية، لكنهم تمكنوا من التواصل بالقدر الذي يتيح لهم معرفة قدرهم الآتي بعد ساعات.
كان موعد زيارة السنكيس الساعة الرابعة، خرجت العائلة عند الساعة الثانية والنصف ظهراً، القلب كتلة من الدم المضطرب والقلق، الدقّات تنبض بكل دقيقة ترقّب. وصلت العائلة عند الثالثة، بقيت ساعة على الموعد، أُخذت منهم هوياتهم، ثم أُمروا بمغادرة المبنى والوقوف بعيداً حتى يحين موعد الزيارة. لم يسمح لهم بالوقوف حتى في مواقف السيارات: اخرجوا من كامل المبنى وعودوا بعد ساعة.
احتارت العائلة، أين تذهب في هذه المنطقة التي لا مكان فيها غير امتداد الرمل. أين تقف في هذا المكان الذي لا يشبه غير صحراء، كيف تمرّ الـ60 دقيقة على قلوب تهتزّ مثل طبل. لاذت العائلة بمحطّة بنزين هي المكان الوحيد الذي رأوه قريباً، وبعد انتظار طال وكأنه عام، انقضت الساعة. انطلقوا مجدداً إلى سجن "جو".
"التفتيش الذي تعرضنا لنا لم نتعرض له طيلة السنوات السابقة، أعطونا شعورا بأننا قتلة مجرمون. لأول مرة أرى كابينة خاصّة للتفتيش، طلبوا منا خلع أحذيتنا، وضعوها في جهاز تفتيش، بعدها قاموا بتفتيشنا بدقة، ثم أركبونا سيارة بها 4 من الشرطة النسائية وشرطيين، وصلنا إلى مكان التفتيش الثاني، كان دقيقاً جداً وأكثر تشديداً، المكان ممتلئ بالشرطة، مشينا بينهم، كانت رأسي مرفوعة، جميعنا مرفوعو الرأس". تقول والدة السنكيس.
دخلت العائلة على علي. مقيّد اليدين والرجلين، وعيون رجال الأمن ترقب من النافذة، لا تغادر عيونها صغيرة ولا كبيرة ولا حتى بمقدار اختلاسة. جلست أخت علي عن يمينه، ووالده عن يساره، واختارت الأم أن تجلس أمامه. دمعت عينا علي، أخذ من والدته ورقة محارم ورقية ليجفف دمعه. سألته والدته ورأسها لا يطرف: لماذا تبكي يا علي؟ أجاب: خوفاً عليكم. قالت: ولماذا تخاف علينا. الشهادة يا ولدي لا ينالها أي أحد. وأنت قد اُخترت لها وهذا شرف عظيم. ها هو السجن قد طهّرك، والشهادة سترفعك إلى أعلى مقام.
ثم سألته والدته: أولم تكثر من الصيام، ألم تحافظ على صلاتك، أجاب علي: بلى، وسأقضي الليلة في الصلاة أيضا، قالت الأم: حبيبي فرصتك الأخيرة اليوم، طهّر قلبك، انقطع إلى الله. طلب من والدته أن تسأل أهل منطقته السنابس أن يسامحوه ويبرؤوا ذمته. مررت الأم يدها على رأسه وصدره وظهره وكل جزء من جسده، وراحت تحيطه بالأحراز والأدعية، "كنت أشعر براحة واطمئنان" تقول الأم، أما والده فقد جمد ساكناً غير قادر على الكلام.
حاول الجميع بعدها الخروج من قالب المأتم الحزين، والدخول في جو أكثر مرحاً، إنه اللقاء الأخير فليكن الفخر عنوانه، "كنت أريد أن أقول لهؤلاء المحدّقين عيونهم علينا من خلف النافذة، أننا لسنا منكسرين ولا نادمين، بقينا رافعين رؤوسنا حتى آخر اللقاء". وقبل أن تغادر العائلة، انتظرت الأم توديع زوجها لابنها وتوديع ابنتها لأخيها، ثم عانقت علي وهمست في أذنه: "هذه آخر زيارة يا حبيبي يا علي"، ثم غادرت المكان.
بعد انتهاء الزيارة، دخل عدد كبير من رجال الأمن لأخذ علي، وكأنهم قد دخلوا على عصابة كبيرة لا على فتى سجين مقيّد اليدين والرجلين، ومحكوم بالموت. وهم يهمون بالخروج قاموا بتفتيشهم بتشديد أكثر من الدخول. شعرت العائلة بالإذلال والإهانة والقهر، لكنها بقيت رافعة رأسها، وعادت البيت وهي رافعة رأسها، كان كلّ شيء في ترقّب خبر الفاجعة.
بعد مغادرتها ظلت أم علي تنتظر اتّصالا آخر. صباح الأحد 15 يناير اتصل بها زوجها، كانت تملؤها أحاسيس مختلطة بين التسليم والوجل، جاءها صوته: أين فضيلة؟ أجابت: أنا فضيلة أما عرفتني؟ قال لها: "لقد تمّ التنفيذ يا فضيلة".
حتى وإن تنكّس قلب أم علي، فإن رأسها ظل مرفوعا!