كيف استلم أهالي الشهداء ثياب الإعدام
2017-01-20 - 9:35 م
مرآة البحرين (خاص): وكأن صدمة الإعدام وحدها ليست كافية، وكأن تسليم الأهالي جثث أبنائهم مخرّقة بالرصاص ليس كافياً، وكأن دفنهم في مقبرة بعيدة عن قريتهم وأهلهم وأحبتهم لم يشف قلب السلطة. لقد جاؤوا الأهالي بالثياب التي تم إعدام أبنائهم فيها، وليست أي ثياب، علقت بها قطع اللحم التي تناثرت من أجساد الشهداء بعد أن طشرها الرصاص، وفارت بالدم.
غارقة في الدم جاءت، لم يخف سوادها لون الدم المتيبس فوقها، ولا اللحم الملتصق بها. ماذا كان يريد هؤلاء من تسليم هذه الثياب إلى الأهالي؟ هل تمكن آباء الشهداء وأمهاتهم أن يروا تلك الملابس التي كانت تحتضن لحظات أبنائهم الأخيرة، ذلك الكيس الأسود الذي غطّى عيونهم عن رؤية وجه قنّاصهم الأسود، وحجبهم عن رؤية ابتسامة المتشفّي الأخيرة، وتلك الملابس التي عايشت أحاسيسهم الأخيرة، واهتزت مع خفقات قلوبهم وهي تنتظر الطلقة المفجّرة؟
عندما اعتقل عباس السميع، جاؤوا إليه بكل ما يخص عمّه الشهيد حسن طاهر السمّيع، حتى وصيته الأخيرة قاموا بعرضها عليه، قالوا لعبّاس إنه امتداد لعمّه حسن، وإن عمّه هو من قام بتحريضه على كراهية النظام، لقد اعتبروه تلميذ عمّه في التحريض على النظام والحكم، كان عباس يستغرب ذلك، فقد كان يبلغ من العمر 5 سنوات فقط عندما استشهد عمه.
بعد استلام ملابس الإعدام، طلب والد السميع من ابنته أن لا تخبر والدتها. يعلم أنها لا تقوى على ذلك. هو نفسه لم يتمكّن من رؤية هذه الملابس فكيف بالأم الثكلى، لكن أخت عباس لم تستطع كتمان الخبر عن والدتها. في مجلس العزاء، ترددنا كثيرا بالتوجه إليها، كانت محاطة بالكثير من المعزيات اللاتي كن يحلقن حولها، بخجل تقدمنا، سألناها عن حالها، كانت قوية، رابطة الجأش. تشجعنا: أم عباس.. هل جلبوا لك ملابس الإعدام، هل شاهدتها؟ وضعت يديك عليها؟
بالقوة ذاتها ردت أم عباس وبصوت بح من كثرة البكاء: لا.. لم أشاهدها ولا أريد. ثم أردفت بحنق: تسليم ثياب الإعدام إلى أهالي الشهداء نوع من التعذيب النفسي للأهالي. أي شريعة تفعل ذلك؟
تُخبرنا عمّة عباس السميع عن كيفية وصول الثياب لهم، أنها في أول أيام الفاتحة (الإثنين 17 يناير) خرجت من التعزية عصرا متوجهة إلى بيتها للصلاة، وفي الطريق أوقفها شخص من أقرباء أحد العوائل الثلاث كانت قد رأته في المقبرة، أخبرها أن لديه أمانة لهم. تقول: أخذني إلى سيارة، وفتح لي الصندوق وقال: هذه ثياب الإعدام. شهقت متساءلة: كيف حصلت على أغراضهم؟ كيف استلمتهم؟!
تقول عمّة عباس: ما زلنا لا نعرف كيف وصلت ملابس الإعدام إلى هذا الشخص. الغريب أن كيس (علي السنكيس) هو فقط الذي كتب عليه اسمه، أما الكيسان الآخران فلم يكن عليهما أسماء، لقد تمكّن أهل مشيمع من تمييز حذاء ابنهم، وبقي الكيس الثالث الذي يحوي سروالا عرفنا أنه يعود لابن أخي عباس.
تكمل عمّة عباس: تحيرتُ ماذا سنفعل بالملابس فلا طاقة لنا على فتحها ولا مشاهدتها، لكن ربما هناك بقايا من لحمهم المتناثر بقوة الرصاص، هذا يحتم علينا دفنه، حتى لو كان بحجم الإبرة. لقد استلم الأهالي الملابس وقاموا بدفن قطع اللحم، والآن ملابس عباس لدى أناس من الثقاة سيقومون بحفظها شاهدة للزمن.
لم تكن لدى عمّة عباس القدرة على مشاهدة الثياب: كان وصول الملابس صدمة كبيرة على الجميع، لم يتوقع أي منا أن نشاهد ملابس الإعدام أمام أعيننا، ما عرفته أن كيس سامي كان مليئا بالدم يبدو أنه نزف كثيرا. أنا لم تكن عندي المقدرة على رؤية ملابس إعدام عباس، لكن أهلي وأقاربي شاهدوها، لم نضع في الحسبان أننا سنستلم ملابس الإعدام، في ذلك شماتة كبيرة وقسوة قلب، ولكأن الرحمة انتزعت كاملة من قلوب هؤلاء، لم تبق فيهم إنسانية ولا إحساس. ما زلت أتذكر كيف كانت بعض الشرطة النسائية تلوك العلكة أثناء مراسم الدفن وكأنها تحضر حفل عرس، لم أستطع تمالك نفسي، خاطبتها: هل أنت في عرس؟ هنا جنازة! جنازة شباب.
أخت الشهيد سامي مشيمع تقول: جاؤوا لوالدتي بأكياس فيها ملابس إعدام أخي سامي، أوصلها شخص لا أعرفه، لا أعرف كيف وصلت الملابس ومن الشخص الذي قام بجلبهم. رفضت أمي تسلم الثياب وقالت: هل آخذ ملابس ابني لأحرق قلبي؟ لن أستلمهم.
شاهدنا جميعاً الفيديو المنتشر لوالدة الشهيد علي السنكيس وهي تعرض ثياب ابنها الشهيد أمام الكاميرات في الشارع، كانت تهرب من رؤية ثياب إعدام ابنها بحثّ النسوة على مشاهدتها، وتهرب من التمرّغ في ثياب ابنها بحث النسوة على البكاء. رفعت رأسها وهي تخطب في حشود النساء اللاتي غلبهن الصراخ والبكاء: انظروا لما فعله المجرمون؟ أنتم لم تحتملوا أن تشاهدوا هذا المنظر فكيف بمن فعل ذلك، كيف تمكن من فعل ذلك ثلاث مرات، أنا لن أبكي، ولا أريد أن أبكي، هذا فخر لي، لقد أعطاني الله ما أردت. ثم أشارت بيدها نحو الثياب: "اللهم تقبل مني هذا القربان".
تقول أخت السنكيس: "في وقت متأخر من مساء الأحد، وبعد أن تم الانتهاء من الدفن، تلقينا اتصالا من أحد الأقرباء، أخبر والدتي أن هناك أغراض لأخي علي بحوزته، ما فهمته أن هناك قطع لحم لأخي كانت عالقة في الثياب، توقعت حتى الرصاصات ستكون موجودة، طلبت والدتي أن يحضرها إلينا في الحال، كنت أريد كل شيء يخص أخي علي، أحضروا لنا الملابس، من جاء بهم كان يريد استرجاعهم، لذلك تجرأنا أنا ووالدتي وفتحنا كيس الملابس". وكان ذلك ما شهده الجميع في الفيديو المتداول. إنه القتل مرتين.