هديل بوقريص: رواية (جو) .. كل ورقة خطتها يدك مقدسة في محنتها، يا جهاد
هديل بوقريص - 2016-12-13 - 9:53 م
رواية (جو) هي من الروايات الثقيلة التي يجب أن تكون مهيئا ً قبلها لتجرع الحقيقة، لتنزع ثوب الإعلام الملائكي الذي تطرحه الأدوات الإعلامية للأنظمة على عينيك، لترى الشياطين وهي تقفز مرتدية الزي الرسمي على الشاشة لتخبرك بأن كل شيء على ما يرام، لتأخذك إلى حيث دفنوا الحق خلسة ووقفوا على ضريحه. هم أنفسهم من حاولوا قتله في كل مرة ليخرج حيا ً يرزق في نهاية المطاف.
هي رواية تأخذك لتواجه السجن من على بعد خطوة واحدة وهي الورقة، فقبل أن تزيح الغلاف من على أول ورقة عليك أن تقرر دخول الزنزانة التي جمعت كاتب هذه الرواية ورفاقه، أن تمر بكل هذه الممرات الضيقة العفنة، وأن تنام معه على سجادة المعلم المهترئة لتتأمله وهو يصلي، لتجد سريرا معلقا ً بالهواء كعمل بهلواني لينام أحدهم، لتأكل وتشرب معه ولترتدي ما كان يرتديه، لتحتار ما بين الضحك والبكاء، ما بين الإستسلام والقوة، وتنزعج من صراخ السجان عند نومك الذي بالكاد أصبح عميقا ً لتوقظك قبلة المعلم فجرا ً ليخبرك بحلول موعد الصلاة.
وأنت تحمل هذا الكتاب عليك أن تعرف بأن كل ورقة تسللت من الزنزانة إلى خارج السجن هي ورقة مقدسة بحد ذاتها، كل ورقة خاضت رحلة التكوين، الاختباء والبعث من جديد، لتنتهي وبمعجزة النجاة بين يديك، في طريق مليء بالانتظار والقلق والخوف، حيث حبست الأنفاس عدة مرات وهي تمر من تحت أيدي السجان وأعمدة الحديد المملحة وخراطيم الماء الحار، هي رحلة أوراق صادقة حجزت لنفسها مقعدا ً هاما ً من مقاعد أدب السجون فتكبدت كل هذا العناء لتقول الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة.
كتابة رواية في السجن ليس بالأمر اليسير، رغم القائمة الطويلة بحقوق السجناء، الدنيا التي تكفل لهم الحق في ممارسة هواياتهم والإطلاع على الكتب وتوفير الأجواء المناسبة لذلك، إلا أن الأوراق البيضاء لم تصل إلى يد السجين بسهولة بل وجدت بعد عناء الباحث عن كنز في دكان السجن، بينما يمكنك أن تختار أي مكتبة وتختار نوع الورق الذي ستكتب عليه، ومع ذلك لا تجد القدرة الكافية والإرادة الملزمة لتدفعك للكتابة عن الممنوع لأنك تلقائيا ستخضع لقائمة ممنوعات وأنت في الواقع في الخارج وحر، حرية تامة وكاملة لكن الرقيب الذي جعلك تخاف حتى من همس قلمك لورقك جعلك تترد من حمل هذا الهم لتدونه.
(جهاد) لم يبحث عن موقع مطل على شاطئ البحر ولم يختر زاوية مناسبة في المقهى، بل تنقل بين زوايا السجن، باحثا ً عن بقعة ضوء تنير الصفحات البيضاء فتمر عليه الفئران الضخمة من حين لآخر، وبين عيني الرقيب والمعذب في 84 يوما ً بعشرة أقلام وخمس دفاتر، ليدون إفادته وإفادة السجناء من حوله في هذا السجن المكتظ في 352 صفحة ليبكي وحيداً وينطوي على ألمه الذي يجب أن نحمله بكل مسؤولية إلى العالم الخارجي الذي يقف بنكران تام للواقع، هذا هو واجب المثقف الحقيقي، هذا هو واجب الأدب الحالي أن يحمل صرخات الشعوب وآلامهم، أن يكون صوت من لا صوت له، وعلينا أن نتمتع بحاسة السمع الحادة جدا المعجونة بالضمير الإنساني لنتفاعل مع (جهاد) والآلاف غيره ممن غيبوا في السجون ظلماً ولم يجدوا سبل الإنصاف ليخرجوا من هذه الدوامة السياسية.
(جهاد) قبل هذه الأوراق وخلالها وبعدها في خطر وهذه مسؤولية جديدة تضاف إلى قائمة مسؤولياتك كقارئ، كمثقف، كمستمع، كمدافع عن حقوق الإنسان، كإنسان. كيف ستتعامل مع محنته؟ كيف ستنقذ حياته لو تعرض لخطر وعقوبة إضافية لقوله الحقيقة؟ كيف ستستمر بسماع صوته؟ ماذا لو اختفى هذا الصوت وإلى الأبد لأنه قال الحقيقة؟ في أي موقف ستقف؟ هل ستترك الجناة يتسربون من أوراق الرواية دون ملاحقة؟ هل سندع الأمر يمر دون البحث عن وسيلة لمعاقبتهم ومواجهة أفعالهم؟ هذه تساؤلات، ربما تطرحها في قصة مروية، من خيال كاتب وتشعرك بالحماس لمعاقبة الجناة وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب، لكنك في اختبار حقيقي الآن مع رواية حقيقية، الجناة أحياء والناجي من الانتهاك يدلي بإفادته؟ ما الذي ستفعله حيال ذلك الآن؟
أحيي وأنحني لهذا الإنسان الشجاع الذي قرر أن يقف في وجه منظومة كاملة، ليصرخ باسمه واسم سجناء (جو) هو لم يستخدم جمل مبهمة ورمزية ولم يستعن باستعارات عبر تصوير حرفي للمكان، الزمان والحدث، بل اعتمد على إرثه اللغوي وحاول أن يصف كل ما حدث بجمل قصيرة كافية وموجزة ليبرهن بأن الرواية لا يجب فقط أن تعتمد على لغة الكاتب بل في أحيان كثيرة يجب أن تعتمد على روحه وقوته من الداخل.
*مدافعة عن حقوق الإنسان من الكويت.