» تقارير
أحمد فرحان في ذكرى استشهاده الأولى: رأسك تاج الحرية
2012-03-15 - 11:24 ص
"الحرية هي ذلك التاج الذي يضعه الإنسان على رأسه ليصبح جديراً بإنسانيته"
نجيب محفوظ
مرآة البحرين (خاص): لقد عرف الشهيد أحمد فرحان كيف يختار تاج حريته جيداً، لقد جعل كل رأسه، تاجاً لحرية شعبه.. دكانه البحر، يقع بالقرب من بيته البسيط والمكون من ثمانية أفراد.
امتهن صيد الأسماك كحال معظم أبناء جزيرة سترة. قطفت أحداث التسعينات من شبابه اليانع ثلاث سنين قضاها بين القضبان وخرج منها في الواحد والعشرين. شابا تشرب جيدًا مرارة الفقر والسجن معًا لتشد من عوده الغض.
الظروف القاسية لم تساعده على إنهاء تعليمه، فكانت ثروته البحر وملوحته التي تنعش الأجساد المنهكة. لم يمض طويلا حتى اشترى طرادا(قاربا صغيرا)، باعه متأثرا بحادثة غرق طفلين في الحي. هكذا هجر البحر ليمتهن عملا حرًا. كلُ ما يحصل عليه من مال كان يغدق به على عائلته، محاولاً تعويض حرمانها.
■ الهدية الأخيرة
لم يقبل لأمه عطرًا رخيصًا فابتاع لأبويه وأخته عطورًا غالية الثمن. لم يتسن له أن يشمها بعد لكي يتأكد من طيبها، بقت العطور مخبئة في خزانة ملابس العائلة، لتحمل صفة "الهدية الأخيرة".
بالنسبة للعائلة هو شخص استثنائي، تسميه أمه (فلفي) أي الثالث من أبنائها، هو ابنها المدلل لفرط احترامه لها. متعلق بعائلته، مرهف الحسّ. بالنسبة لأخته الكبرى فاطمة هو الرفيق أيضا، تتذكر كيف يأخذ عنها المكنسة لترتاح، يُلاعب صغارها فيما هي تزاول عملاً آخرا بالمنزل، مازال صوت الماء حين يتوضأ وخطواته حين يمشي لا تُبارح مخيلتها.
تقول: "اشتقت لمناكفته، كنت أكرر عليه ستقتل نفسك وتقتل الزرع الذي ترمي فيه أعقاب السجائر، ليكن لديك إرادة كما عهدتك واقلع عنه". عندما رحل، فتحت فاطمة علب سجائره، وجدت أعقاب السجائر في العلب مقطوعة من النصف، عرفت حينها نيته في الإقلاع عن التدخين.
تنهره أمه عندما يقوم بنشر الغسيل ورأسه تحت الشمس الحارقة: ضع قطعة قماش على رأسك تحميك من حرارة الشمس. لم تعلم وقتها بما سيحلُ بذاك الرأس.
في محطات حياته المعدودة، تبقى محطته الأخيرة حاضرة في المشهد كحال شبابها التوّاق للحرية. كان مرابطا في ساحة دوار اللؤلوة، قبل أن تنام أمه يفتح الباب ليطمئنها أنه عاد، حالما يغلق الباب عليها، يعود إلى الساحة مجددا. في دوار اللؤلؤة أراد أن يسترد شبابه الذي سُرق منه في السجن ولحظات الفقر والحرمان، بالنسبة اليه اللؤلؤة والبحر هما التوق للحياة مجدداً.
اختار النظام أن يستهّل الفصل الأول لسحق الثورة في مكان مغاير لدوار اللؤلؤة. اختار كأسلافه جزيرة سترة؛ لتخلد تفاصيلها السوداوية في ذاكرة الناس. هكذا كانت إذًا الخطة ، السيطرة على سترة كأحد أقوى معاقل المعارضة الرئيسة ومن ثم السيطرة على قريتي العكر والنويدارت المُجاورتين. المعادلة تكمن في حصر أكبر عدد ممكن من الناس في قراهم، يلي ذلك "تطهير الدوار" اللفظة العنصرية المقيتة التي استخدمها النظام الحاكم لقمع المحتجين السلميين هناك.
■ يوم سترة
بدأ إطلاق رصاصات الشوزن (بنادق مُحرمة دوليا تستخدم لصيد الطيور) بلا هوادة منذ الصباح، فيما المصابون بطلقات الشوزن يتلقون العلاج ويستعجلون العودة للمواجهة، ليعودوا بطلقات أخرى في أماكن أخرى من أجسادهم .
أُطلقت نداءات استغاثة تطلب كميات ثلج للمصابين، وقفت النساء على أبواب منازلهن وفي أيديهن الثلج . جُمع الثلج ونُقلِ الى مركز سترة الصحي. كل ذلك وأحمد فرحان وعائلته خارج خريطة المكان، كان في إحدى المستشفيات، لا لعلاج ألم يعانيه في ساقه فهو لا يعبأ بنفسه كثيراً، بل لعلاج أمه المريضة.
يعود أحمد فرحان مع والدته الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، يلمحُ أرتالا من الأمن والمليشيات المسلحة على مداخل الجزيرة، يتوقف لشراء الغذاء بينما الشباب قرب السوق متوجسون من القادم، يُكمل طريقه للمنزل، يصلي وينهي غذاءه مع العائلة. يخرج سريعًا بعد أن انتشر خبر وصول القوات السعودية والإماراتية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
طوّق الجيش وميليشاته مداخل سترة، بالأخص المدخل الرئيسي القريب من محطة البنزين. بدأ الجيش في إطلاق الرصاص بلا هوادة فيما الطائرة من فوق تشاركهم الطلق، كان الوقت يُشير إلى الثانية ظهرا. تشكل الشباب على حلقات موزعين على المناطق. الوضع لا يقارن بين مُتظاهرين سلميين عُزل وجيش مسلح بكامل عتاده وبالرغم من ذلك استبسل الشباب وتقدموا للأمام معلنين بتظاهرهم السلمي رفضهم لاستباحة الجزيرة. كان أحمد في المقدمة، ربما شعر هذه المرة بأن الرصاص لن يكون رحيمًا، تذكر أخته البارحة وهي تمازحه قائلة فيما كان يتأمل دخان سيجارته: " أحمد أنا أعترض تروح شهيد وأني ما أروح شهيدة " ضحك حينها ولم يعلق.
■ السلام الأخير
أصيب أحمد حينها بطلقات شوزن في قدمه اليمنى، فرّ إلى محطة البنزين، لم تسعفه قدماه كثيرًا، وقبل أن يتسلق سور المحطة وجه إليه جيش العار طلقات شوزن في ظهره، خرّ على الأرض ساكنًا. لم يكتف العسكر بذلك، أطلق أحدهم، عياراً نارياً مباشراً على رأس فرحان، فجّر الرأس من فوره، وتناثرت قطع من الدماغ على الأرض في مشهد بشع ومريع.
ترك العساكر القتلة ضحاياهم على الطرقات، لم يعبئوا أن يداروا جرائمهم، ولا أن يتداركو ما يمكن منها، تراجعوا الى الوراء.
هرول الأهالي لنقل المصابين لمركز سترة الصحي، أمام مشهد أحمد تسمرت عيون الجميع، لم يصدقوا المنظر الذي شاهدته أعينهم، كل بطولاتم في مواجهة العسكر كسرها هول المنظر، الشجاعة غابت لحظتها، نظرة منهم إلى فجاعة الموت وكارثيته جعلهم يضعون أيديهم على رؤؤسهم ويقفون متجمدين في أماكنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.
وحده عبد المنعم يلتقط أنفاسه، ينحني على الأرض، يضع يديه تحت الجسد المنخول برصاص العسكر. هل عرف أنه هو نفسه الشاب الذي كان قبل قليل يسأله أن يبلغ أهله السلام؟ يرفعه منعم عن الأرض، فيتناثر الدماغ على الأرض، وأمام ذهول الناس وصياحهم، تنهار شجاعة منعم الذي يأخذ في البكاء في مشهد مؤلم ومريع، لكنه يبقى يحمل الجسد الذي ائتمنه على السلام، كي يوصله إلى مكان يضمد رأسه الذي فجره عسكر قتلة لا يعرفون معنى السلام .
■ هو أحمد
تُلتقط الصور التي تظهر هذا المنظر الذي يهز كل العالم. تنتشر صورة عبد المنعم وهو يحمل رأس الشهيد المفجّر بسرعة البرق. يسارع إعلام النظام إلى تكذيب الصورة والإدعاء بأنها التقطت في فلسطين. خلال لحظات أرسل شباب الثورة صور أخرى للشهيد تظهر خلفها بوضوح اللافتة الخاصة بمركز سترة الصحي، فيما علق أحدهم في كوميديا سوداء لاذعة " كل ذلك وأنا لا أعرف إني في فلسطين، أستأذنكم للتوجه للصلاة في القدس".
المفارقة المؤلمة أن الأخ الأصغر للشهيد كان متواجداً في المستشفى للعلاج من طلقات الشوزن، اتصلت أخته لتتأكد إن كان الشهيد هو أخوها أحمد أم لا، قال لها "لقد مرّ من أمامي لكن لم أتمكن من تمييزه"، لم تستوعب أخته طبيعة المشهد، صرخت بأخيها الأصغر "أحمد كان يلبس فانيلة زرقاء وشورت ورجله ملفوفة بشاش أبيض، تأكد وعاود الاتصال بي سريعا" أغلقت الهاتف بسرعة واتصلت لزوجها ليذهب للمركز الصحي ويستعلم.
ساور الأم المريضة القلق، خرجت لترى سيارة أحمد قرب البحر لعله عاد، لكن صوت ابنتها أعادها. رن الهاتف ثانية أنه زوجها، بفجاعة يؤكد: هو أحمد. تضرب فاطمة الباب، وتخرجت في الحي تصرخ: "في وداعة الله يا أخوي"، لم يمض على فراقه لها سوى ساعة واحدة، لكنه الفراق الذي لا يعود بعده لقاء.
مرت ثلاثة أيام قبل أن تتسلم العائلة جسده، في تلك الأيام كانت الطائرة لا تكف تحلق بارتفاع منخفض على بيت الشهيد. لم يكف عساكر القتل بؤس هذه العائلة وبؤسها وفجاعة فقدها، كان الحصار قويا على جزيرة سترة كلها.
عند رأس أحمد فرحان لن تنته قصة هذه الثورة كما أراد النظام أن يفعل من خلال بطشه المريع، لن تنته، بل ستجعل النهاية أصعب على هذا النظام. النهاية بالنسبة إلى هذا الشعب هي ما تجعل رأس الشهيد فرحان يفخر بما قدّم من ثمن الحرية. لن يقبل هذا الشعب إلا أن يكون فرحان فرحاً بثمن رأسه الذي أهداه قضيته، لن يقبل إلا أن يرد على سلام فرحان بسلام النصر، سلام أن يُعطى هذا الشعب ما يستحق من الحرية والكرامة والعدالة، وليرتفع رأسك عالياً يا أحمد.
هامش:
- تفاصيل الحادث كما ذُكرَ في تقرير بسيوني (النسخة العربية).
- الحالة رقم 7: أحمد فرحان علي فرحان
- 925 - أعلنت وفاة أحمد فرحان على فرحان الساعة 14:04 يوم 15 مارس 2011، وورد بشهادة الوفاة أن سبب الوفاة هو إصابته بأعيرة نارية في الرأس مما نتج عنه كسر في الجمجمة.
- 926 - وأكد تقرير الطب الشرعي سبب الوفاة وخلُص إلى أنها نتيجة إطلاق النار من مسافة تقل عن أربعة أمتار. ووجدت أيضًا العديد من الجروح الناجمة عن طلقات الشوزن على طول الجانب الأيمن من الظهر وقد أطلقت الأعيرة النارية التي سببت الجروح من مسافة ثمانية أمتار تقريبًا.
- 927 - وتلقت اللجنة معلومات تشير إلى أنه بتاريخ 15مارس، كان هناك احتجاج سلمي في منطقة سترة وأفاد الشهود أن الشرطة بدأت في مهاجمة المتظاهرين. فأصيب المتوفى في ساقه اليمنى بطلقة شوزن، فنهض وحاول الهرب فأطلق عليه النار في رأسه من مسافة قريبة في حين كان مستلقيا على الأرض.
- 928 - وقد أجرت وزارة الداخلية تحقيقًا في هذه الحالة. فادعى ضباط الشرطة أن السيارات كانت تحاول صدمهم وأنهم أطلقوا النار على السيارات نتيجة لذلك. ولم يعترف أي من الضباط بإطلاق النار على المتوفى. وادعى أحدهم أن أفراد الشرطة لم يكونوا مسلحين أثناء هذه الحادثة.
- 929 - ويمكن، بناء على ما سلف، أن تنسب واقعة وفاة السيد/ فرحان إلى الاستخدام المفرط للقوة من جانب ضباط الشرطة. كما أن عدم حمل المتوفى للسلاح وإطلاق النار عليه من مسافة قريبة في ساقه اليمنى قبل إطلاق النار عليه في رأسه يشير إلى عدم وجود مبرر لاستخدام القوة القاتلة. وقد باشرت وزارة الداخلية تحقيقا في هذه الواقعة. ولم تتلق اللجنة أية معلومات بشأن ما آلت اليه التحقيقات.