» تقارير
كاميرا صادق المرزوق ..أكثر الأشياء صلابة في الاحتجاجات
2012-02-15 - 3:57 م
مرآة البحرين (خاص): صادق المرزوق، الكاميرا التي شهدت فصول الأحداث منذ بداياتها، عليه غبار كل المسيرات والاعتصامات، وفي ألبوماته أثر لكل الأقدام التي مرت من شوارع الثورة، حدثنا وهو يقلب آلالاف الصور التي حملها إلى ذاكرته وذاكرة الجهاز المحمول عن مسيرة عام كامل، وجدناه يقف عند محطة سابقة للرابع عشر من فبراير، هو اعتصام الرابع من ذلك الشهر أمام السفارة المصرية وذلك للمطالبة بسقوط حسني مبارك، نلمح إبراهيم شريف يلقي كلمة في الجموع التي تضمنت أفراداً من الجالية المصرية، وإلى جواره وجوه المعارضة السياسية في وقفة تضامنية مع الشعب المصري.
صورة من التضامن يحفظها المرزوق للتاريخ، وتحفظ لنا هذه الرغبة للالتحاق بركب الثورات العربية الذي للتو انطلق، رغبة لم تتأخر فها هو المرزوق يصف لنا عبر صوره مسيرة الرابع عشر من فبراير في النويدرات، عبدالوهاب حسين يتقدم جموعاً لن تنتظر قوى الأمن طويلاً قبل أن ترد عليها بمسيلات الدموع، يتفرق الجمع ثم يعاود ترتيب صفوفه لتبدأ المسيرة ثانية وتبدأ جولة المسيلات مرة أخرى.. الحدث عينه يتكرر في سترة لكن هذه المرة في صورة أكبر، آلالاف المتظاهرين جاءوا من مناطق سترة السبعة، ليحتشدوا عن الشارع رقم1 بالقرب من مدخل سترة..قوى الأمن تتمركز بالقرب من المتظاهرين، يقول المرزوق، حاول المتظاهرون إقناع الأمن بسلمية الحراك، والاتفاق معهم على نقطة معينة يصلون إليها ثم يعودون تجنباً للاصطدام..اختبار الاتفاق لم يطل طويلاً، فقوى الأمن باغتت الجموع بالهجوم الوحشي، هجوم غير مسبوق، انتهى بمواجهات وإصابات كبيرة.
المسيرات في ذلك اليوم لم تنقطع، وبالمثل كان القمع الذي خلّف وراءه أول شهيد لحراك الرابع عشر من فبراير، الشهيد على المشيمع في قرية الدية، يقول المرزوق بأنه قرر وعدد من الزملاء المصورين التواجد في مستشفى السلمانية لحين وصول جثمان الشهيد الذي جرى تشييعه في اليوم التالي.
ظهيرة الغضب
صادق المرزوق |
يقول المرزوق: كنت أرقب الحشد الكبير الذي لم ينفض بعد،كاميرتي مفتوحة لرصد كل الخطوات التي يرسمها العابرون من هناك على الأرض،هتافات ولافتات لم تهدأ، أنظر بعينين مفتوحين لهذا المشهد وأستعيد صورة المواجهة التي سبقت المسيرة عند بوابة السلمانية، خرجت جثة الشهيد لتستقبلها مسيلات الدموع، حاولت الخروج أول مرة من المستشفى ولم أتمكن لكثافة الدخان،وجدنا ضحايا الاختناق يرجعون إلى الداخل، فيما يحاول الآخرون مساعدتهم بالكمامات والبصل وعبوات العطر.
المكان الآن غير المكان، يكمل المرزوق سرد مشاهداته، فالحشود التي أعلنت غضبها في مسيرة التشييع قد قررت التوجه إلى دوار اللؤلؤ،كنا نهرول في مشينا، طمعاً في اختصار المسافة، نجمع ما تبقى من طاقة ليوم منذور للركض بين المحطات، بلغنا الدوار في خمسين دقيقة، في هذه اللحظة وصلنا خبر استشهاد فاضل المتروك، جو غضب عارم بدأ يلف المكان، لافتات مختلفة بدأت تخرج للعلن، "الشعب يريد إسقاط النظام"، "دماؤنا رخيصة من أجل الوطن".. بدأت الأعلام البحرينية تنتشر بكثافة في حدود المكان.
وجد المرزوق نفسه أمام لحظة تاريخية، كان يرقب بعدسته مشهداً لا سابق له في البحرين، وجوه من مختلف الأطياف والأعمار والانتماءات تعتصم في موقع واحد، يغمره إحساس بالفرح رغم كآبة الأخبار التي حملت إليه تأكيد سقوط الشهيد الثاني، بدأ وعدد من الأصدقاء الانتشار في الدوار، يروي لنا كيف أنهم لم يستقروا في مكان، يبحثون عن أي لقطة توثق الحدث، ينشغلون في رصد مطالب الشعب بداية، كان الشعب محور كل شيء، حتى إن الدوار -على حد وصفه - كان يسمى بميدان الشعب قبل أن يصبح ميدان الشهداء بعد الخميس الدامي.
في المساء كانت الاستعدادت مكثفة للمبيت في الدوار، الخيام بدأت تأخذ مواقعها باكراً في تلك الليلة، يقول المرزوق: بتنا وفي رؤوسنا الكثير من الصور التي جمعناها في مشوار يوم طويل، استكملنا مهام رفع الصور إلى وكالات الأنباء والمواقع الالكترونية واندفعنا إلى حصة النوم، صباحاً كان المكان مفعماً بالحياة، وكانت الجهود مستمرة لاستكمال التجهيزات الصوتية، واستكمال المضائف، وجدنا البعض مشغولاً بتنظيف المكان، والبعض الآخر بكتابة اللافتات، تأملت هذه المشاهد بكاميرتي فسجلتها قبل الانصراف إلى مستشفى السلمانية، استعداداً لتغطية مسيرة التشييع الخاصة بالشهيد فاضل المتروك.
كان اليوم شاقاً هو الآخر، يضيف المرزوق، الكثير من المسيرات والكثير من التغطيات التي تقاسمناها مع الأصدقاء الذين التحقوا بالمركز الإعلامي في الدوار، كانت حقائبنا تمتلئ بالعدسات وأجهزة التخزين الخارجية، وبطاقات الإنترنت، وكل العتاد اللازم لتوفير الصورة ونقلها للعالم في الآن واللحظة، كانت ليلة برد قارس لم نحتط لها بما يكفي من الملابس، قررت في الأثناء العودة إلى سترة وجلب مزيد من الملابس والأغطية، كانت الواحدة فجراً، أي قبل ساعة ونصف من الهجوم الوحشي على الدوار في ما عرف بالخميس الدامي.
الهاتف النقال يرن على صوت إحدى قريبات المرزوق في الثانية والنصف فجراً تؤكد حادثة الهجوم، عندها توجه مباشرة إلى الدوار، حاول الدخول من منطقة برهامة، وصل إلى أبراج اللؤلؤة وحاول التقدم مشياً لكن الجموع كانت تخرج من هناك، كان الخوف سيد الموقف، هجوم مباغت وإطلاق نار غير مسبوق، أصوات مدوية تغتال صمت الساعات الأولى من الفجر، كان المرزوق يحاول التقاط ما يمكن من الصور وهو في طريقه إلى هناك، شاهد في الأثناء حالات اختناق، سيارات الشرطة تتعقب الشباب الخارج من الدوار، فقفل راجعاً إلى موقع الأحداث الأول: مستشفى السلمانية.
صوت الإسعاف المتقطع
يشير المرزوق إلى أنه أول المصورين وصولاً إلى هناك، يحدثنا عن جلادة وصلابة واجه بها مراراً الأزمات السابقة، يذكرنا برغبته القديمة في أن يكون مصوراً للحروب والنزاعات، غير أنه هذه المرة بدأ يشعر بأنه يتنفس بصعوبة، ونبضات قلبه تتسارع في إيقاعها، ويكمل: المناظر فضيعة حد البشاعة، ما زلت أذكر أحد المصابين وهو ينزف الدم لجرح عميق في فخذه، كان يحرضني على التصوير، يقول: صورني وانشر، شاهدت طفلة محمولة لا تصرخ ولا تتكلم..فقط عيون مفتوحة على الآخر من هول الصدمة، شهدت وصول الشهيد محمود أبوتاكي وهو مازال يعالج أنفاسه الأخيرة، في غرفة الإنعاش كانت المحاولات مستمرة لإنقاذ حياته لكن لا فائدة، انحنت عيني مراراً على أغراضه الشخصية، كان كل متاعه في تلك اللحظة: تربة وقرآن وكتاب أدعية إلى جانب هاتفه النقال.
يتوالى وصول الضحايا، والمرزوق منكب على التصوير، يضغط على الأزرار لكن عقله عاجز عن فهم ما يجري، حتى البكاء كان بالنسبة له لحظة مؤجلة، كان الاهتمام منصباً على التصوير ورفع الصور إلى الانترنت مباشرة، حتى وصول جثمان الشهيد علي المؤمن في اليوم التالي، جسد محفور بالرصاص، وربما بطعنات السكين، وجد المرزوق نفسه يصرخ بلا وعي: مات..مات..فيما كان الفريق الطبي يتوجه به إلى غرفة الإنعاش، كان الشهيد علي خضير قد سبقه بالوصول إلى هناك، كما لحقهما الشهيد عيسى عبدالحسن الذي حمل للمشرحة مباشرة، وقف المرزوق يتأمل بشاعة المنظر وبشاعة الفعل الذي هشم رأس هذا الأخير.
حصار السلمانية
بين يدي المرزوق كانت الكاميرا تصف أحداث يوم هلع كبير، يوم ملطخ بالدم، وبصور الوجع، وبكثير من الإشاعات التي تركت الشارع في لجة من الحزن لا تنتهي، لكنها في المقابل كانت على ما يصف المرزوق وقوداً لمتابعة فصول الحكاية،حكاية 14 فبراير، قبل أن يحاصرها مرسوم السلامة الوطنية، وقبل أن يحاصر الجيش مستشفى السلمانية في ليلة باردة موحشة، السادس عشر من مارس، كان الحصار مطبقاً على كل منافذ المستشفى، بينما كان المرزوق ورفاقه يحاولون الاختباء في مخزن صغير لرفع الصور المتبقية إلى مواقع الانترنت..كان الناس في الأثناء يفترشون الممرات ويتكدسون في المسجد، وغرف المرضى، ينامون ويصحون على وقع أي صوت.
سيعرف المرزوق معنى الخوف جيداً في عيون الناس، وفي أحوال زملائه من المصورين، حيث وجد أحدهم في لباس طبيب، وآخر مستلقٍ على سرير مريض، كل ذلك تحسباً للحظة دخول الجيش إلى المستشفى، كان وقتها يطوح بنظره خارجاً من زجاج النافذة، ويحاول القبض بكاميرته على عمود الدخان الصاعد من ناحية الدوار، أسند ظهره بعدها للجدار مشغولاً بالتفكير في كيفية إخراج أجهزة التخزين والعدسات والكاميرا واللاب توب من ذلك المكان، فبعد التفتيش عند مخرج المستشفى ثمة تفتيش آخر، ولن تكون هذه المعدات إلا سبباً للدخول في متاهة أمنية لا نهاية لها.
بعد أن تم الإعلان عن إمكانية المغادرة من المستشفى، كان خيار المرزوق ورفاقه أن يتركوا الكاميرات وباقي المعدات في مكان مجهول داخل المستشفى وأن يبحثوا لهم عن مخرج آمن، وعن لحظة غياب. تكفيهم المطاردات الأمنية التي نالت كل آثار 14 فبراير، ولم يسلم منها حتى الدوار الذي لم يجدوا الراحة إلا بهدمه..لحظة مجنونة تم فيها ملاحقة المصورين واعتقالهم، بل وتقديمهم إلى محاكمات عسكرية، فيما كان نصيب المرزوق منها مداهمة منزله مرتين، وكلها لم تحل حتى الآن دون إصراره وزملائه من المصورين على أن يكونوا رواة ثقات للأجيال القادمة بعدسات تأبى إلا أن تكون مخلصة لقضيتها.