» تقارير
أم يوسف موالي: هذه الجثة لا أعرفها!
2012-02-14 - 10:42 ص
مرآة البحرين (خاص): قرب القبر جلست، رفعت يديها بتضرعٍ موجع، رددت بصوت الواثق: "اللهم تقبل منا هذا القربان" ثم تعالت زغرداتها وسط القبور، علّ الأرواح المقيمة هناك تستقبل عرّيسها بما يليق، كانت فرحة لموته كما لا تكون الأمهات، وأمام وكيل النيابة وقفت بشموخ، قالت: "انا فرحة من أجله، سعيدة لهذه النهاية، كل أم تتمنى أن تطمئن على ابنها، كل أم تفكر كيف تدرس ابنها في أفضل الجامعات، كيف تجهز مهره، وتتخير له عروسه، وتبني له بيته، لقد اختصر ابني كل هذا المشوار، أنا سعيدة من أجله ولم أعد أفكر كيف أرتب له حياته، لكن قتلته سيفكرون به طويلاً، وستنتهي حياتهم ببشاعة كما لم يتخيلوا أبداً"
صديقي وحبي الأبدي
في المنزل، وبالتحديد في غرفته التي بدت خاويةً من كل شيء إلا هو: صوره، كؤوسه، سريره الذي بقي كما تركه آخر مرة، قصاصات الورق، والكثير من الكتب التي تنتظر أن يقرأها، ونملاتٍ ستخرج في الصيف دون ان تجد فتات الخبز الذي كان يتركه من أجلها في زوايا غرفته، سيفتقده كثيرون، لكن ستفتقده هي أكثر، أمه التي بدأت حديثها "ماذا أقول عن يوسف؟" لم تعرف من أين تبدأ، ولا أي الأشياء أحب إلى قلبها كي تحدثنا عنها، أحببت كل ما فيه: هدوءه، حنانه، طاعته، التزامه، تواضعه، وزهده، براءته، كل ما به لا يشبه غيره، قالت: "لم يكن ابني يوماً، لقد كان صديقي، كان ظلي، واليوم فقدت ظلي".
بذات الهدوء أكملت: "قبل عامٍ ونصف طلبت الحصول على تقاعد مبكر، يومها قلت لمسئولتي: "أريد أن أتقرب من أبنائي، أريد أن أتقرب من يوسف" لم تعلم حينها أن القدر يعدّها لفراقٍ طويل لا تأتي بعده ريح يوسف، القدر الذي منحها فرصة القرب منه، التزود بكل ما به ليومٍ، لا يبقى من يوسف الا تلك الذكريات، التي ستغدو كل زادها لسفرٍ طويلٍ يخلو منه.
الباب المفتوح
صباح الأربعاء، قطع ورقة من دفتر يومياته، كتب عليها بخطه الطفولي (الله أكبر.. الحمد لله.. الله له الملك... الأربعاء يومٌ من أيام الله)، لا أحد يعلم لمَ كتب تلك الكلمات، لكنه تركها فوق طاولته، وخرج، ترك الباب شبه مفتوح، كانت تلك طريقته في قول "لن أتأخر أو سأعود سريعاً".
في ذلك اليوم، كان القدر يرسم طريقاً آخر ليوسف لم يعبره قبل، لم تستيقظ أمه كعادتها في الخامسة، أطالت النوم عن غير قصد، لم تصح للصلاة وتكمل نومها فوق الأريكة في انتظار قدومه، ليتشاركا الإفطار كعادتهما، ويخرجا سوياً لقضاء اليوم في أمورٍ شتى، هي نامت، وهو خرج، ولم يلتقيا بعدها أبداً. استيقظت متأخرة، قرابة التاسعة صباحاً، انتظرت خروجه من غرفته، طال انتظارها، سألت الخادمة، قالت: خرج. تفحصت الباب فوجدته شبه مفتوح، عرفت أنه لن يطيل، لكن غيابه طال، وطال انتظارها.
عند الثانية عشر ظهراً، بكت، قالت إن يوسف أصابه مكروه، فقد دخل وقت الصلاة ولم يعد، ولم تكن تلك عادته، بحثوا عنه في كل مكان، لكن أثراً منه لم يبق، هرعت لمركز الشرطة، قدمت بلاغاً باختفائه، أرادت التأكد أنهم لم يعتقلوه، فقد فعلوها قبل الآن، في مارس تحديداً، بعد إعلان حالة الحظر، قالت: لم يكن ليوسف شأنٌ بالسياسة، لقد كانت حياته هادئة بعيدة عن كل ذلك، لهذا لم أخبره عن حظر التجول، ولم أتوقع خروجه ذلك اليوم، لكنه خرج، فأخذته بعض العناصر المدنية، قال لي يومها: لقد كنت مرعوباً، دعوت في قلبي أن ينجيني الله، فرآني أحدهم اتمتم فصرخ علي ماذا تقول؟ ماذا تدعو علينا؟ ثم طلب منهم آخر أن ينزلوني من السيارة، تضيف: رموه يومها بالقرب من المقبرة، في الظلام، عاد حينها للبيت مذعوراً، أصيب بتشنج وسقط مغشياً عليه، أخذته للطبيب النفسي لمدة شهرين، تشافى خلالها سريعاً مما ألم به".
بعد رشفة شاي دافئ قالت: أخبرني الضابط أن ابني معتقل لدى التحقيقات وبإمكاننا تسلمه، كنا ننتظر أن يأتي الغد لنذهب ونأخذه، لكن ذلك اليوم لم يأتِ أبداً، أخبروني أن ابني وجد ميتاً، وأن البحر قتله، بكيت حينها بكاءً هستيرياً، لم أعرف ماذا أفعل، كنت عاجزة تماماً، حتى قال لي أحدهم: أتبكين وابنك شهيد؟ انتبهت لمحدثي، ابني شهيد!! حقاً ابني شهيد؟ توقفت عندها عن البكاء، صرخت بكل الحاضرين، لا أريد بكاءً، أنا أم الشهيد، زغردوا، هنئوني، لقد أصبح ابني شهيدا، لم يصدق الحاضرون ما أقول، اعتقدوا أني أهذي، لكني كررت قولي، وقلت يومها: سأنتظر أن يأتي الربيع وسأقيم زفةً لابني الشهيد، أريد أن أفرح به.
ليس ابني...
مرّ أسبوع على رحيله، ما زال جسده ينام وحيدا، عارياً في هذا الشتاء، وما زالت تصر على براءة البحر من دمه، انتهى كل ذلك بسير القضية في أروقة المحاكم الطويلة، وقرر الأهل دفن فقيدهم، دون أن يتنازلوا عن حقهم في معرفة حقيقة ما جرى، وأن ينال معذبوه جزاءهم وفق القانون، أخيراً، هو في المقبرة، انتظرت الانتهاء من تغسيله بصبرٍ مر، قالت بلهجتها المحرقية العتيقة: "وحشني، بس آبي اجوفه"، طلبت من ابنتها أن تجهز الكاميرا، أرادت ان تأخذ له صورةً أخيرة، صورةً أخيرة لذاك الوجه الجميل، "لكنه لم يكن ابني" هكذا قالت.
لقد تحول ذاك الشاب الجميل إلى جثة مخيفة، تغير ابيضاض لونه إلى اسوداد غريب، وبدت على جسده آثار تعذيب، وساعات طويلة من الوجع الذي لا يحتمل، صدمت أم يوسف مما رأت، صرخت:"لا... ليس ابني، هذه الجثة لا أعرفها، ليس ابني" ثم سقطت مغشياً عليها، لقد كانت صامدة، قوية، مؤمنة بما كتبه الله، لكن منظر ابنها الأخير هزها من الأعماق، جزءٌ منها أراد أن يصدق أن هذه الجثة المبضعة ليست جثة ابنها، سألت أعمامه:"أواثقون أنتم أنها جثة يوسف؟" قالوا: نعم، أخذت بيد أخيها، قالت له:" أنا لا أصدق أحداً غيرك، هل من تراه ممداً أمامنا هو يوسف؟" رد بتألم: نعم. قالت: أصدقك.
لم تستطع أم يوسف أخذ صورةٍ معه، ولا صورة واحده للذكرى، كانت تريد أن تنسى ما رأته فقط، عند الوداع أرادت تقبيله، قبلةً أخيرة يتزود بها في طريق وحشته، لكنها عجزت، كانت أضعف من أن تقترب من غريب لا تعرفه، ما زالت روحها تصرخ بصمت: ليس ابني، أصروا عليها أن تقبله، رفضت، قالت: لا أستطيع، أنا لا أعرف هذا الشخص، لم أعرفه أبداً، بعد إصرار أغمضت عينيها، قبلت جبينه، صرخت بعدها: خذوني لمجلس ابن زياد، لطاغية عصري، أريد أن أقول لهم:"أن ابني الآن يستريح، من عذابٍ طويل، وأنه يهوّن علينا ما بنا أنه بعين الله، أريد أن أصرخ، أنا أم الشهيد، قد شرفني ابني، ورفع منزلتي وقدري، بأن صرت أم الشهيد".