» تقارير
ياسين الذي استجاب له الملك أخيراً: أتعالج لأني ما أطيب
2012-01-23 - 2:33 م
مرآة البحرين (خاص): يحدّق إليك من خلالهما بشقاوة وحب، عيناه الساحرتان، يأخذانك نحو التحديق في داخلهما طويلاً. بشعره الأشقر المنسدل على جبينه الصغير، بجماله البريء يأخذ عينيك، تبقى متصلباً أمام صورته، تودُّ أن لا تذهب الصورة، أو لا تذهب أنت. كيف يمكن لكل هذه البراءة أن تتنسم الموت وهي لم تعانق الحياة بعد؟ كيف يمكن لها أن تستلقي في الغياب، أن تذهب بهذه السهولة؟
لم تخلق رئتاه لهذه الأرض التي تنتشي بالتلوث أكثر مما تحتفي بالحياة، خُلقت لبيئة تتنفس النقاء، العنصر المفقود في هذه الأرض، وفي بحريننا الصغيرة الآن بشكل أخص. منذ شهره الثاني الذي خرج فيه إلى الحياة، وهو يتعالج من التلوث الذي تضيق به منطقة المعامير الصناعية، حيث تسكن عائلته. لا تزال هذه المنطقة تراكم الأمراض على أبنائها رغم كل نداءات الاستغاثة التي يطلقها الأهالي للدولة، كي تخلصهم من سموم الغازات الخانقة التي تتربص بصحتهم، لكن لا أحد يسمعهم، ربما لأنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الأولى في الولاء بالنسبة للنظام الحاكم.
"العلاج يعني الواحد يطيب، أنا أتعالج لأني ما أطيب"، هذا ما قاله الفتى ياسين العصفور ببلاغة فائقة، وهو لم يكمل بعد الحادية عشرة من عمره، في اتصاله ببرنامج صباح الخير يا بحرين الإذاعي في 2008. كان ياسين يشكو فيها غازات مصانع منطقته التي تجعله لا يطيب، تجعل رئتيه تعودان للتلوث، كلما غادرتا باب المستشفى نحو منطقة سكنه. إنه لا يطيب، يخرج ليعود للعلاج، ولا يطيب. هكذا قضى ياسين حياته. لقد أذهل ببلاغته مقدمة البرنامج التي اعترفت بعجزها عن الرد أمامه. كان يناشد (جلالة الملك) عبر ذلك البرنامج، أن ينظر في حالته الصحية المرزية، أن يحفه بعناية تحمي طفولته النقية من سموم لا ترحم. لم يستجب حينها لتلك المناشدة أحد.
حدث هذا في يوم 31 ديسمبر، نقل على إثرها للمستشفى مع أخيه الأكبر كرار (19 عاماً)، نجا الثاني، لكن ياسين بقى أكثر من شهر، لا يطيب. العلاج هو أن تطيب يا ياسين، لكنك لا تطيب. تلوثت رئته بسبب استنشاق كميات كبيرة من الغاز الخانق، وارتفعت درجة حرارته، صار يتنقل بين العناية المركزة، والعادية، وصل به الأمر من السوء أخيراً إلى حد أن مجرد نزع الأوكسجين عن مجرى تنفسه، يعني موته.
احتفل ياسين بعيد ميلاده الأخير في سرير التنفس، دخل عامه الرابع عشر ليغادره بعد أيام في 20 يناير 2012. لم يعد ياسين لمدرسته (الامام علي في المعامير)، ولا لصفه (الثالث الإعدادي)، لم يعد لمنطقته ليتنفس أدخنة المصانع وغازاتها الملوثة، لم يعد ليتنشق الغازات التي يلقيها كل يوم مرتزقة لا يعنيها من الإنسان والمواطن غير راتب بخس تتلقاه ثمناً للقتل، لم يعد ياسين لمنطقته الموبوءة بكل أشكال الموت. شكراً لاستجابتك أيها الملك.
في المستشفى، بقى ياسين لأيام قبل أن يستطيع الكلام، غادر العناية القصوى، عاد لشقوته وروحه المرحة التي عرف بها، لكن ابتسامته كانت هزيلة وباهتة، لم يكن وجهه قادر على أن يعبر نحو شقاوته المألوفة. يقول لقريبته ممازحاً وهي تهم بتصويره: صوريني صوريني أنا صرت مشهوراً الكل يبي يصورني. تجيبه: كيف أصورك هكذا وأنت عابس.. ابتسم أولاً. يغالب نفسه، تخرج ابتسامته بالكاد، تلتقط فاطمة الصورة، لم تكن تعلم أنها آخر أثر ستحمله معها منه. في اليوم التالي يُدخل من جديد للعناية. يكتب في جهازه (الـ بي بي): عناية تايم.
تروي قريبته لمرآة البحرين علاقتها بابن خالها، كنا أصدقاء، كانت له عبارة يقولها لي ممازحاً كلما رآني منزعجة: عندكم فلفل؟ كانت هذه العبارة تكفيني لأضحك. في المستشفى عندما كان خارج العناية، قال لي: أرسلي لي نكت، كي أقرأها عندما يحضروا لي هاتفي وأقول لك: هي ما تضحك، بس عندكم فلفل؟
يحب ياسين إرسال المسجات والرسائل الهاتفية لوالدته تحديداً، حتى عندما يكون جالساً معها في المكان نفسه، كان يمازحها بها، وهي تضحك بملء قلبها. الآن، تبكي والدته بملء قهرها وحزنها، وهي تقول: الحين من بيطرش لي المسجات الحلوة يا ياسين". يا أم يا سين، لا تبكي، لقد تعالج ياسين أخيراً، فالعلاج هو ما يجعلك تطيب كما قال ياسين، وقد طاب ياسين إلى الأبد!