لم تكن 3 أيام بل سفراً طويلاً في سقر.. علي جواد في "العتمة الباهرة"
2012-01-14 - 12:34 م
مرآة البحرين(خاص): كانت السّاعة أوشكت أن تقف في منتصف نهار الأربعاء 24 أبريل/ نيسان 2011، قبل أن يرن هاتفه المحمول ويخرج بعدها صوت متمترس بصرامة العسكر، قال: "أنتمطلوب للحضور إلى مركز شرطة النعيم".
ذهب علي جواد مباشرة إلى البيت، أخبر زوجته بالأمر، كان متوهما البراعة في تمثيل لحظة التماسك. حبست زوجته زفرة ألمها، متوسلة الله بألا يصيبها بالخذلان في عودته. وضع ثقته كلها في الله، ودعها و ابنه الصغير دانيال، ولملم أنفاسه للخروج متماسكاً، قالت زوجته: "سنكون بانتظارك".
ركب وصديقه السيارة وتوجها إلى مركز شرطة النعيم، وقبل أن يصلا أوقفه صديقه خلف المركز، تعثرت الكلمات في فمه، كتب له رقم هاتفه في ورقة صغيرة بعد أن ترك جواد هاتفه المحمول معه، وضعها في يده، متمنيا أن يسمع صوته بعد ساعة أو اثنتين. شعر بثقل خطواته في اتجاه بوابة المركز، كأن أنفاسه المبعثرة تخيط سراباً. سأله العسكر : "ما الذي أتى بك؟" قال: "اتصلوا بي، قالوا بأني مطلوب للحضور". لمح في نظراته جيشاً محتشدا للبطش. طلب بطاقة الهوية وما لبث أن ذهب، ثم عاد بسُرعه البرق.. أدخله وقال: "استدر.. ضع يديك للخلف". أحكم وثاقهما، وضع عصابة على عينه، دفعه للسّير، ثم سلمه إلى أحدهم، سأله: "أنت علي جواد"، أجابه: "نعم"، وسارع بتوجيه صفعة إلى وجهه، لتتسّع رقعة الضرب على خارطة جسده، كأنه أراد أن يمتحن بسالته الحُبلى جُبناً، أو شيء ما آخر غير إنسانيته، التي بدت في تلك الساعة ممحيّة.
انتهى به المطاف عند حائط وأدرك فيما بعد أنها نهاية آخر عتبة لسلم، أصوات أقدام كان يسمعها عن كثب، يبدأ إيقاعها عند أول عتبة لهذا السلم اللعين، وتنتهي بـ"لطمة أو صفعة " على أذنه. أخذ يجيب أسألتهم:
شنو أسمك ؟
- علي حسن جواد
شنو تشتغل ؟
- في صحيفة (البلاد).
كان الصّاعد والنازل يمتحن قوّة كفه وبراعته في السّب والشتم واللطم والصّفع. أوشك جواد على الانهيار، وكان المكان أشبه بجحيم لا يعرف الرأفة أبداً، صرخات الموجوعين تشرشر من حناجر ليس لها إلا الصلاة ألماً. وسط كل هذا الضجيج المعجون بآهات المُعتقلين، وجنون آلة التعذيب والتنكيل، تسرّبت إلى أذنه التي تفيض وجعاً ودماً تكبيرة أذان المغرب، آتية من مئذنة قريبة بمنطقة النعيم. وما إن انتصف الأذان حتى بادر أحد العسكر بجرجرته إلى مكان ما أدرك بعدها أنه مكتب للتحقيق، "أخطأت. إنه للتنكيل ودوزنة موسقى الألم الصاخبة"، يقول. عرف ذلك بعد أن سأله: "ما أسمك؟" أجابه: "علي حسن جواد"، يضيف "لم أعرف أن اسمي كان سيبعث كل ذلك الهياج ليبدأوا بضربي على وجهي بشكل هستيري، لتتهاوى جثتي على الأرض".
سحبه أحدهم من ياقة قميصه صارخاً: "قف يا ابن الكلب، قف يا ابن المتعة، قف أيها اللعين، أيها الجبان"، وطلب منه الاستدارة إلى الجة اليمنى حيث أدرك أنه قُبالة الحائط. توسّل جسده ألا أن يصمد، كي يبقى مرفوع الرأس. صرخ أحدهم في وجهه صرخة اخترقت طبلة أذنه: "افتح ما بين رجليك يا ابن ال(...)". لم يعرف سبب هذه الطلب، ليفاجأ بركلة احتشدت فيها كل أحقاد وضغينة العالم، استهدفت منطقته التناسلية، سرعان ما سقط في إثرها على الأرض. قال "كاد يغمى عليّ من شدة الألم".
في تلك الأثناء، دخل عدد آخر من العسكر، أوقفوا جواد، قال أحدهم: "نحن من قوة دفاع البحرين"، همس في سريرته: "ما الفرق؟"، طلب أحدهم منه رفع رأسه لتأتي اللطمة على أذنه "مجهزة على ما تبقى من سمعٍ لدي".
سقطت جثته على الأرض وبدأت حفلة اللكم والصّفع والرّكل والرفس والشتم. ثم طلب منه أحدهم أن ينبطح على الأرض فإذا بها "الفلقة" تأتي. شعر بذلك التمزق في قدميه اللتين نزفت منها الدماء وتورمتا. "كنت أصرخ متوسّلاً إنسانهم، أن يرأف ولو قليلا، لكن دون جدوى". خاطبهم: "سأعترف بما تريدون"، فما كان منهم إلا أن أمعنوا في الأذى. صرخ أحدهم، قل ما قلت في "الدوار"، هل قلت "يسقط النظام"؟ "قلها الآن، قل يسقط النظام، يا ابن ال(...)". قلت: "لم أطالب بذلك".
فجأة، طلب أحدهم أن تتوقف آلة التنكيل، أدرك أن الاستمرار في هذه الوتيرة يعني بأن تلك الجثة لن تصمد كثيراً. وبعدها بقليل، طلب منهم فك كل تلك القيود وإيقافه، قائلاً "قف يا ابن الكلب، يا بن (...)". يقول "لكن كيف لي أن أقف وقدماي بهما من التورم ما يكفي لأن أكون عاجزاً حتى عن الإحساس بوجودهما، وقفت ولم أقف". سأله: هل ذهبت إلى دوار الؤلؤة ولماذا؟ أجابه: "نعم، حضرت تجمع الصحافيين، ولم تتعد مطالباتنا غير وجود صحافة حرة". رد سريعاً: "لكن المعلومات المصورة تقول بأنك كنت تحمل صور القيادة". رد جواد: "لا أبدا، لم يحدث هذا". وإذا بهم يتابعون اللكم والصفع.
"الوزير لم يكمل الشهر ونصف الشهر، وأنتم تطلبون منه المستحيل"، هذا الحديث للمحقق، دفعه إلى الكرسي، فسمع دقات أصابع أحدهم على لوح "الكيبورد". وبعد هنيهة "أتى شخص ودلف بي باتجاه زاوية من زاوية غرفة التحقيق. رفع عصابة العين قليلا، ومرر من جنبي الأيمن، صورة رأيت فيها نفسي وآخرين لمسيرة الإعلاميين". سأله: "أهذا أنت؟"، أجابه جواد: "نعم، هذا أنا". بعدها سأله عن شخص كان حاضرا في الصورة الى جانبه، قلت: "لا أعرفه". عاود سؤاله: "هل هم صحافيون؟"، أجابه جواد مرة أخرى: "لا أعرفهم، أقسم لك بأني لا أعرفهم". أعاد الشخص العصابة على عينيه وقاده إلى الكرسي، وقبالته صاحب "الكيبورد" يسجل أنفاسه وكلامه. سأله: "في أي صحيفة تعمل؟". ببلادة العارف بأنهم يعرفون أين يعمل، قال جواد: "أعمل مُخرجًا فنيًا في صحيفة "البلاد".
اقتحم أحدهم سياق الحديث، وقال: "كم يبلغ راتبك؟". فما إن قال جواد إن راتبه يبلغ 750 دينارا، حتى انهالوا عليه بالضرب، وأحدهم يصرخ: "أحسن مني يا ابن (...) ماذا تريد أكثر؟".
ليسأله مُجددًا عن دراسته، فقال: "جامعة البحرين"، ليعاود الصراخ والضرب، "أحسن مني يا ابن (...)"، وكأنه السبب في عدم إكماله دراسته.
وقع جواد على كومة من الورق مُغمض العين، واقتادوه إلى غرفة التوقيف حيث رُمي على الأرض، وبقيت دقائق يلملم أوجاعيه، سحبه أحد الشّبّان "باشر في إسعافي، كان اسمه مهدي عرف فيما بعد أنه ممرض، أخذ يدلك قدمه، حتى فقد الوعي منهكاً من التعب.
في اليوم الثاني الخميس 21 أبريل/ نيسان 2011، جاء شرطي، قصير القامة، وضع قطعة قماش على عيني جواد واقتاده إلى جهة عرف أنها عيادة مركز الشرطة، وسحب منه عينات من الدم، واقتاده إلى غرفة البصمات ثم إلى غرفة التصوير، وبعدها أعاده إلى زنزانة التوقيف. هناك، أسر إليه أحدهم أنه من المُرجح أن يُطلق سراحه صبيحة يوم الجمعة "لهذا كان زُملاء الزّنزانة حريصون على أن لا أخطئ في إجاباتي مع لجنة الفحص". نصحه أحدهم أن يفعل فعلة الصدمة البصرية "التي ستجنبني تلك العين الفاحصة، كاسراً بذلك صرامة التدقيق".
وفي صبيحة يوم الجمعة، اقتادوه إلى غرفة مُجاورة وطلب منه الفاحص نزع ثيابه، فما كان منه بعد أن رفع نصف القميص، إلا أن أنزل البنطال مصحوباً بساتر عورته كي لا يشاهد ما تبقى من آثار التعذيب،
"وبالفعل نجحت معي الخطة، إذ صرخ في وجهي معنفاً، طالباً مني أن أستر عورتي". بعدها أعطاه الشرطي الهاتف، قال: "اطلب من أهلك أن يحضروا لك بعض الثياب، عصر هذا اليوم".
بعد الظهر اقتادوه إلى حيث لا يدري، ذهب مع أحدهم "فأخبرني بأنني سأخرُج، هرولت مثل مذهول كي أخرج، استجمعت كل قواي، تسلمت أشيائي، وخرجت، كان قريبي في انتظاري، رميت بنفسي عليه، حملني ووضعني في السّيارة، غفوت إلى أن وجدت نفسي داخل شقتي في قلب السّنابس، فكانت زوجتي وأولادي ينتظروني. لم أشعر بأحد، تعاملت زوجتي مع بعض آثار التورم على قدمي، وأثار الأنابيب البلاستيكية "الهوز" التي خطت حكاياتها، على جسدي. لم تكن ثلاثة أيام، بل كانت سفرًا ثقيلاً.