حكمة المحكوم بالإعدام: قلب جزيرتنا أكبر من خريطتها
2015-11-17 - 7:30 م
مرآة البحرين (خاص):
لِيَ حِكْمْةُ المحكوم بالإعدامِ: لا أشياءَ أملكُها لتملكني،
كتبتُ وصيَّتي بدمي: ((ثِقُوا بالماء يا سُكَّانَ أُغنيتي!))
وَنْمتُ مُضَرّجاً ومُتَوَّجاً بغدي...
حَلِمْتُ بأنَّ قلب الأرض أكبرُ من خريطتها،
وأَوضحُ من مراياها وَمشْنَقَتي.
وَهمْتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني إلى أَعلى
كأنني هُدْهُدٌ، والريحُ أَجنحتي.
محمود درويش
كمن يذهب لعزاء عائلة ملكومة بفقد ابنها الشاب في اليوم الأول؛ الصدمة التي تشلّ التركيز وتمسك اللسان، العيون الزائغة المتقلبة في حيرتها، الكلام المرتبك المبحوح، كل شيء متعثر إلا الدموع، وحدها تنهمر دون روية وبلا توقف. الصدمة وحدها سيدة الموقف، والدموع. كان هذا هو حالنا مع كل من عائلة محمد رمضان وعائلة حسين موسى اللذين صدر بحقهما تأييداً بحكم الإعدام من محكمة التمييز يوم أمس الاثنين 16 نوفمبر 2015. حسناً، لقد بُتّ في الحكم بشكل قاطع ونهائي. لم يعد الإعدام ينتظر أكثر من رقيّة تصدر من الملك.
كان آخر حكم بالإعدام نفّذته البحرين في حق الشهيد عيسى قمبر في 26مارس1996، أُعدم رمياً بالرصاص بعدما أدانته محكمة أمن الدولة بتهمة قتل أحد مخبري الجهاز الأمني. رفضت السلطات تسليم جثته وقامت بدفنه بمقبرة الحورة بعد أن سمح فقط لأخيه ووالده بإلقاء نظرة على جثته، وحوصرت المقبرة بقوات النظام ومنع دخول أي شخص إليها، ورفضت السلطة إقامة مجلس العزاء عليه.
لقد خلد عيسى قمبر في قلب هذه الأرض، ولا عزاء للخريطة التي باتت تفرّط في صفوة أبنائها، وتراكم فوقها الدخلاء. فـ"قلب الأرض أكبر من خريطتها".
عائلة محمد رمضان
اتصل محمد رمضان (33 عاماً) بزوجته يوم أمس مباشرة بعد صدور الحكم عليه، كان صوته ضعيفاً وبالكاد يسمع، لقد بدا واضحاً عليه صدمة تلقي الحكم، لكنه لم يظهر ذلك. كان اتصاله فقط من أجل أن يواسي عائلته. قلقٌ بشدّة على والديه، وعلى زوجته وطفله أحمد ذي الستة أعوام، أخذ محمد يوصي عائلته: أنتم تعرفون أني لم أرتكب التهمة المنسوبة إلي، وأن الحكم في حقي جائر، تمسكوا بقوتكم ولا تضعفوا، ثقوا بالله الذي يرى مظلوميتنا بعينه، نحن طلاب حقّ لا قتلة، الحق يُنهب لكنه لا يموت، لا تضعفوا أبداً.
وكأن محمد كان يهيء عائلته: ثقوا بقلب هذه الأرض لا بخريطتها، فمن يُقتل مظلوماً شهيداً، يغادر خريطة هذه الجزيرة الصغيرة، لكنه يقيم إلى الأبد، في قلبها النابض. نحن قلب الأرض.
بالدموع التي لم تتوقف راح والد محمد رمضان يروي صدمته: قبل صدور حكم محكمة التمييز كان لدينا أمل، كنا نذهب لمحمد نزوره في السجن بشكل اعتيادي. كنا وضعنا في اعتبارنا بأن أسوء الظروف سيحكم عليه بالمؤبد ولم نتوقع أن يثبّت حكم الإعدام.
يضيف: تلقيت الخبر عبر تويتر في الهاتف، كنت في العمل، لم أتمكن من الخروج، ولم أعرف ماذا أفعل، لقد شعرت بشلل كامل، الصدمة أكبر من أن تستوعب. كنت أعرف أن اليوم سيصدر الحكم على ابني، لم استأذن من عملي ظنا مني بأن المحاكمة ستجري كما في المرات السابقة يتم تأجيل الحكم، لم أتوقع أبدا أن يثبّت الحكم، لم أتوقع هذا الحكم الجائر.
يردف: لن أسكت، سأطالب برفع الظلم عن ابني عن طريق الحقوقيين والمنظمات، سأحاول كل جهدي كي أساعد ولدي، لن نسكت عن هذه القضية، الحكم جائر، ورسالتي التي أرفعها إلى القاضي: لا أقبل أن يكون ولدي كبش فداء، واعتبرهذا حكما جائرا.
والدة محمد التي خضعت لعملية جراحية في عينها، تلقت خبر تثبيت حكم ابنها عبر الهاتف من خلال "الواتساب"، جمدت في مكانها. دخلت عليها ابنتها الغرفة ورأتها تجلس بوجه يعلو عليه شحوب الموت. لم تكن أخته قد سمعت بالخبر بعد، تسمّرت في مكانها خوفاً، ودون أن تنبسا ببنت شفة، اقتربت البنت بخطوات مترددة نحو والدتها، ناولتها الأخيرة الهاتف دون أن ترمش عينها. لم يكن الخبر أقل من موت.
"محمد ابني قوي، صبور، هو يواسيني، دائما يردد: أنا أستمد قوتي بكم، إذا رأيتك يا أمي قوية ورأيت زوجتي قوية هذا يجعلني لا أشعر بالتعب ولا القلق، لا أريدكم أن تنهاروا مهما حدث، مهما صدر في حقي من حكم، ارفعوا رؤوسكم عالياً" تقول والدة محمد، تضيف متهدجة: "رأسي مرفوع بابني، هو مظلوم مظلوم، ابني لم يشترك في هذه القضية، هو لم يفجّر، ابني لم يعترف بهذه القضية، لكن الحكم جائر، الله ينتقم من الظالم"، تردف: لقد حُكم على ابني ظلما، والشكوى لله".
لم تتمالك زينب زوجة محمد نفسها، لم تتوقف دموعها المنهمرة طوال الجلسة، وكأنها تحدّق في أفق لا يكون فيه محمد، وحياة لا يكون هو أمنها وأمانها وعنفوان قلبها، وكأنها ترى أطفالها أحمد (6 سنوات) وتوأماها حسين وزينب (4 سنوات) في حضن اليتم، وظلام لا تدري من أين تأتيه.
"كنت أعلم أن الحكم سيصدر اليوم، لكن البعض أخبرني أن الحكم يمكن أن يتأخر، لكني وعلى غير العادة لم أستطع النوم، لم أستطع المكوث في شقتي، نحن نسكن في شقة في الطابق العلوي من بيت والد زوجي، منذ الصباح بقيت أتنقل بين شقتي وبيت والد زوجي، لم نذهب إلى المحكمة لأن محمد دائما يوصينا أن لا نذهب حتى لا نتعرض للإهانة. بعد توصيل ابني للمدرسة جلست في بيت العائلة ولم أصعد لشقتي إلا عند الساعة العاشرة تقريباً، صعدت لقراءة بعض الأدعية، لم يمض وقت حتى دخلت والدتي تسألني عن صحة خبر تثبيت حكم الإعدام، كانت الساعة بحدود العاشرة والنصف. هرعت إلى هاتفي فكانت الصدمة. لم أستوعب الخبر قبل أن أنهار كلياً، لم أستطع السيطرة على انفعالاتي بعدها، كنت أريد أن أهيم على وجهي، أردت الخروج من البيت، كنت أريد الذهاب إليهم، منعني من كانوا معي بالمنزل. بكيت بحرقة، فتحت النافذة أريد أن أصرخ ليسمعني الناس، أريد إخبارهم بما جرى، أطلب من الناس الخروج، أن ينتفضوا، أن يقوموا بأي شيء حتى لا يتم تنفيذ هذا الحكم"
تضيف زينب: "حمدت الله أن ابني كان في المدرسة وقت تلقينا الخبر، حتما سيتعب نفسيا وسينهار، هو دائم السؤال عن والده، ويكرر علي "ماما دائما تقولين أن البابا سيخرج قريبا، متى سيخرج، بعد كم يوم؟ هل بعد يوم واحد، بعد أسبوع، بعد 100 يوم، بعد 1000 يوم، وأنا أكرر عليه قريبا قريبا، فلو شاهدنا اليوم وسمعنا بكاءنا لانهار".
تكمل زينب: "اتصل محمد حوالي الساعة الواحدة والنصف ظهراً بعد صدور الحكم عليه، كان صوته ضعيفاً وبالكاد يسمع، لم يكن يهدف من اتصاله إلى شيء غير تهدئتنا، كان قلقاً جداً على والديه من صدمة الخبر، سألني كثيراً عنهما وعن تلقيهما للخبر، وأوصاني بالصبر والقوة، وقال لي يكفي أن تعرفوا أنه لا علاقة لي بهذه التهمة التي أُلصقت بي زوراً وبهتاناً، وأن هذا الحكم جائر، وأنا فداء لوطني. لكنه أخبرني أيضاً أنه تفاجأ بالحكم وكان يتوقع تخفيفه".
تصيح بدموعها التي لم تتوقف: "لن نسكت عن هذا الحكم، لن نسكت، لن نقبل بحكم الإعدام، لن نسكت، لن نسكت، من المستحيل السكوت عن هذا الحكم، لن نرضى عن هذا الحكم، ماذا فعل زوجي، هو ليس بمجرم، المجرمون طلقاء وهو لم يرتكب أي شيء، لا يوجد عنده اي اعتراف في التحقيقات أو النيابة، فكيف يحكمونه بهذا الحكم، نحن لا نقبل بهذا الحكم، لن نقبل فيه".
لم تعرف أخت محمد وهي تتلقّى الهاتف من يد والدتها المتجمّدة في مكانها ماذا تفعل، بعد أن صفعها الخبر جمدت هي الأخرى مكانها: لم أكن أعرف ماذا أفعل، هل أقوم بتهدئة والدتي، أم أواسيها، أم أواسي نفسي بالصدمة، صحيح بأنهم حكموا عليه بالإعدام، لكننا لم نتوقع التأييد، ولم نتوقع بهذه السرعة، نحن نعرف أن الموضوع سياسي، لكن هل من المعقول أن يصل إلى هذا المستوى. هذا القاضي الذي قام بتثبيت حكم الإعدام كيف ينام؟ كيف ينام وهو يحكم بالإعدام على شخص بريء؟ حسبنا الله ونعم الوكيل"
تضيف: توجهنا إلى منظمات كثيرة جدا، ولمؤسسات كثيرة حتى المؤسسات الحكومية، وثقنا فيها الانتهاكات التي تعرض لها محمد من تعذيب وإخفاء قسري، وأقوال محمد، وكل هذا لم يغير شيئا، ولم يكن لها أي دور في المحكمة، كنا نردد دائما بأن هذا الحكم حبر على ورق، وأن الأمر سياسي، وتوتر الشارع جعلهم يصدرون هذه الأحكام، لكننا لم نتوقع أن يصدر هذا التأييد أبداً.
عائلة حسين موسى
يختلف الوضع قليلاً عند عائلة حسين موسى (29 عاماً)، الصدمة ذاتها، القلوب المفطورة ذاتها، الدموع المغمورة ذاتها، لكن لديهم رؤية مختلفة، أو لنقل رجاء مختلف. ورغم أن المحامي محمد التاجر كان قد هيأ والد محمد لحكم التأييد، إلا أن ذلك لم يخفف بداية من هول الصدمة التي تلقاها مع صدور الحكم، لكنه راح يقنع نفسه سريعاً أن هذا الحكم لن ينفّذ، وأنه حكم سياسي وسيتغيّر مع تغيّر الوضع السياسي، وأنه لا بد من تغيير سياسي قادم، فالأمور لا يمكن أن تستقيم هكذا، ولن يستمر الوضع هكذا، بهذا التفكير حاول والد حسين تجاوز صدمة الخبر.
تلقت زهرة أخت حسين الخبر عبر صحيفة الوسط: "لحظتها لم أستطع السيطرة على نفسي، أحسست بدوار في رأسي، ولم استطع الوقوف على قدمي، كنت لوحدي لم أتمالك نفسي اتجهت إلى بيت جدي حيث خالاتي، لم أستطع السيطرة على مشاعري وصرت أبكي، حاولت خالتي تهدئتي قائلة أنه من المستحيل ان يقوموا بإعدامهم". ومثل والدها، تعتقد زهرة أن الحكم لن ينفّذ، أو ربما هو رجاؤها الذي لا تملك غيره أملاً تتشبث به.
تضيف زهرة: "اليوم وبعد صدور الحكم تلقينا أخباراً من زملاء لحسين في السجن أخبرونا بأنه ذو همة عالية ولم يتأثر بالحكم، وأن معنوياته عالية جداً، لقد أعطانا ذلك قوة نفسية رغم قوة الصدمة"، تردف: كنت قد تحدثت معه الأسبوع الفائت، لم يكن يتوقع حكم التأييد، حدثني حول الإجراءات التي علي القيام بها في حالة إعادة القضية من جديد، ونقل لي استغرابه بأن التمييز حدث بسرعة غير معهودة، ففي العادة التمييز لا يحدد بعد 3 أو 4 شهور، بل عام أو عامين، طلب التمييز كان قد جاء بطلب من المحامين والقاضي أيضا".
تضيف: "سنقوم بمراسلة المنظمات والأمم المتحدة، سابقا تواصلنا مع منظمات كثيرة وسنقوم بمراسلتهم مجددا، وبالرغم من أننا لم نجد تفاعلا لكننا سنعاود مراسلة الجميع"
فقد حسين والدته وهو بعمر 15 ربيعا، وهو الأكبر بين أخوته، خالاته كن الملجأ والملاذ إليه، يعتبرن حسين أمانة أختهم أودعتهن إياه، هو ابنهن جميعاً. تقول إحدى خالاته: "حسين هو ابني الذي لم أنجبه، قريب جدا مني، كل ما فيه جميل ولا زلت أتذكر كلمته التي كسرت قلبي عندما أنجبت توأمي بأنه يتمنى فقط خروجه من السجن قبل أن يكبروا ليستطيع العناية بهم فهو لم يرهم لحد الآن إلا عبر الصور، يعتبرهم أبناء أخته"، تكمل: "يملك حسين حنانا وعطفا لا مثيل له، يملك من الطيبة والأخلاق ما يجعلنا مأسورين له، عندما صدر حكم الإعدام لم نتأثر وحدنا، بل الناس جميعا تأثرت، صغيرهم وكبيرهم"
تردف: "كان حسين دائماً يعتبر الحكم الصادر في حقّه حبر على ورق، وأنه حكم سياسي. نحن نستمد قوتنا منه، فلديه صبر كبير وأنفة وشموخ، دائما يردد أن علينا أن لا نأبه بالأحكام الجائرة وأن الفرج قريب، هو من يزرع التفاؤل لدينا جميعاً، لكن رغم ذلك صدمتي بالخبر لم أتوقعها، الآن أصبح تنفيذ الحكم بيد الملك، أصبح ابن أختي كالمعلق بين الأرض والسماء، ولا أستطيع تخمين أي مصير ينتظره، وقد أسلمت أمره وأمرنا لله، فحسبنا الله".