محمد التاجر: كلفة الرّوب الأسود مطرّزاً بكلمة بيضاء، من محكمة كرزكان إلى... دوار اللؤلؤة
2012-01-13 - 1:58 م
التاجر ساعة خروجه من المعتقل
مرآة البحرين (خاص): في إحدى محاكم السلامة الوطنية[1] تفاجأ المحامون المتواجدون في تلك الجلسة بالقاضي وهو ينادي باسم المتهم محمد التاجر، جميعهم يعرفون أنه معتقل منذ شهرين، ولكن لا أحد كان يعلم أين ولماذا ومتى سيعرض للمحاكمة؟ أكثر من 20 محاميا شاهدوا زميلهم التاجر يدخل قاعة المحكمة فعلا، وقفوا، وبتلقائية تقدموا جميعا بطلب الدفاع عنه!
ارتفع هذا العدد إلى قرابة الخمسين محامياً حين نقلت الدعوى إلى المحاكم المدنية. كانت قضية المحامي البحريني محمد التاجر، أكبر قضية سياسية يترافع فيها عدد من المحامين، لم يكن القاضي بحاجة إلى أن يسأله السؤال الذي اعتاد أن يطرحه متأخرا على كل متهم: هل تريد أن توكل محامياً للدفاع عنك؟
هو محامٍ متهم، وخلفه كان كل المحامين، يدافعون عن مهنتهم التي كانت محل الاتهام، في مشهد أشبه بتظاهرة احتجاجية أحرجت القاضي العسكري منصور المنصور.
محمد التاجر، نموذج المحامي المستهدف من سلطة القمع. كان يكمل تشكيلة المعتقلين التي شملت الأستاذ والطبيب والنقابي والسياسي والمثقف والصحافي والشاعر والمهندس، مجموعة كان بإمكانها تشكيل حكومة كاملة من داخل السجن العسكري.
سيرة التاجر بين دوار اللؤلؤة والمعتقل، تقدمها مرآة البحرين، على لسانه.
الملف الأمني.. حالات إخصاء وإبادة
ابن التاجر مطالبا بأبيه |
في هذه التقارير كنت أوثق كل ذلك بالأرقام، حتى نشأت لدي نتائج نوعية عن هذه الدعاوى، مثل استهداف المعتقلين الأحداث، ومثل طرق التعذيب التي اتسمت بالخسة والانتقام، كحالات الإخصاء وغيرها من ما يمكن أن يصنف كنوع من أنواع الإبادة البشرية.
قمت بإيصال هذه التقارير إلى المنظمات الحقوقية الدولية التي كان بيني وبينها تعاون وثيق، مثل "هيومان رايتس ووتش" و "انترناشيونال فرونت لاين ديفينديرز" فكان أعضاء هذه المنظمات يقصدونني للاطلاع على الوضع الحقوقي بمجرد وصولهم للبحرين وإذا منعوا من الدخول راسلوني لمعرفة الوضع في البحرين خصوصا عند اشتداد الحملات الأمنية.
هذه التقارير كان ينشرها أغلب الصحفيين، والحقوقيين كمركز البحرين لحقوق الإنسان الذي يرأسه الناشط نبيل رجب، والجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، ولجنة الرصد في جمعية الوفاق. هذه السلطة لم تكن في يوم من الأيام معجبة بعملي.
حقوقيا...عبد الجليل السنكيس قدوتي
مع وفد من "فرونت لاين" بعد الافراج عن السنكسيس |
هذا الشخص أعتبره قدوتي في العمل الحقوقي، لم ألتق به مرة إلا وأثراني بأفكاره النيرة، أنا أدين له بالفضل، فقد علّم الناس الثقة في التاجر، لأنه كان يقدر عملي كثيرا، اشتركنا في الكثير من العمل، كما أننا أصبحنا صديقين قريبين جدا.
أرى أن السنكيس عبقرية فذة، إنسان متمكن من العمل الحقوقي والعمل السياسي، متحدث بارع، محاور ممتاز، وموسوعة متحركة، لم أسأله في شيء إلا وأعانني عليه، هو إما منكب على المراجع، أو معد للتقارير، أو مشارك في ندوات.
حضرت معه ندوة مجلس اللوردات البريطاني عن البحرين في عام 2009 لأول مرة، وصورت بجانبه، ذهبت معه لزيارة الأراضي المقدسة في إبريل 2010، ارتبط اسمي باسمه كثيرا، وربما كان ذلك مادة أخرى مغرية لملفي الأمني عند السلطات.
المحامي الحقوقي
تصميم نشره متضامنون |
من هنا نشأت لدي فكرة دراسة القانون. لكنني بعد أن صرت محاميا، مررت بفترات من اليأس وأنا أترافع في القضايا الأمنية، ليس لصعوبتها فأغلبها بمنتهى السهولة، إذ لا يوجد فيها أي دليل، لكن الهم الأكبر فيها كان الاعتراف الذي ينتزع من المتهمين تحت التعذيب، فهل سيتوصل القاضي إلى أن هذا الاعتراف تم تحت التعذيب، فيسقط التهم؟ هل أستطيع أن أقنعه؟ أو أنه ليس على استعداد أن يقتنع من الأساس؟! هذا كان همي.
أول قضية مثلت لي التحدي الأكبر، واعتقدت أنها هي قضية حياتي، بحيث إنني إذا نجحت فيها، سأنجح في أن يتغير محمد التاجر المحامي إلى حقوقي ومدافع عن حقوق الإنسان، هي قضية كرزكان.
قضية كرزكان نجاحا
قضية كرزكان[3] (أبريل 2008) كانت أكبر عمل حقوقي قمت به، بعد أن أثبتُ بأن هؤلاء الأشخاص لم يقتلوا الشرطي، وأنه تم تعذيبهم تعذيباً بشع جدا ليعترفوا بذنب لم يقترفوه. لم يكن ذلك معروفا عن البحرين طوال السنوات السبع السابقة.
مع باقي زملائي في هيئة الدفاع عن المتهمين وعلى رأسهم عبد الجليل العرادي، استطعنا إثبات براءة المتهمين، وأشارت المحكمة إلى وجود شبهة تعذيب نتج عنها اعترافهم بالقتل، وهي التهمة التي أثبتنا بطلانها، باستجواب الطبيب الشرعي [4] وبأدلة أخرى.
بنى على هذه القضية وقضايا أخرى تقرير منظمة (هيومان رايتس ووتش) الشهير "التعذيب يبعث من جديد في البحرين"، كانت تلك إشارة كبيرة جدا إلى نجاحنا في إثبات وجود التعذيب، في وقت كانت الدولة تخفيه ولا تعترف به. حين وصلنا إلى الحملة الأمنية الأخيرة، ثبت لدى الجميع وجود التعذيب بشكل ممنهج ومنذ أمد بعيد، لا تعود بدايته إلى قضية كرزكان وإنما إلى فترة التسعينات وما قبلها.
عملي الحقوقي بدأ فعليا من قضية كرزكان، وبدءا من هذه القضية ساعدني الدكتور عبدالجليل السنكيس في تأطير عملي الحقوقي، ووجهني بأن أحفظ لعملي كمحام خصوصيته، وأن أحافظ على التوازن بين العمل الحقوقي وبين عمل المحامي، بحيث أكرس وقتي لحماية موكلي، وإظهار التجاوزات التي جرت عليهم دون الولوج في السياسة.
ما بعد كرزكان، توالت القضايا والتكليفات، من أهالي المتهمين ومن المنظمات الحقوقية، حتى تكاد لا تكون هناك أي دعوى من هذا النوع، إلا واشتركت فيها مع زملائي الآخرين، مثل قضية المعامير، وقضية خلية 25 الأخيرة.[5]
هناك نماذج مشرفة في البحرين للمحامي الحقوقي، بل أنوار نستضيء بها، مثل الدكتور حسن رضي، الأستاذة جليلة السيد، الأستاذ محمد أحمد، الأستاذ عيسى إبراهيم، الأستاذ عبدالله الشملاوي، والأستاذ عبدالجليل العرادي، والأستاذ سامي سيادي، هؤلاء اعتمدوا على عملهم كمحامين لإبراز الانتهاكات الحقوقية في قضاياهم دائما.
محامي الخونة
أنا أعتقد فعلا أن الدولة يضيق ذرعها ليس بالمحامي الذي يؤدي واجبه بالدفاع عن المعتقلين، بل بكل ما يتصل بالسياسة. في الواقع سمعتها منهم بشكل مباشر، وبدون مواربة، اعتقلت لأنني كنت محاميا عن أغلب المعارضين السياسيين "الخونة" بحسب تعبيرهم.
لم يكن ذلك استهدافا لعملي الحقوقي فحسب، ولكن لوقف عملي كمحام عن هؤلاء في الأساس، الكل رأى كيف كانت الدولة تريد سجن الناس وسحق حقهم في توكيل محام للدفاع عنهم، وكيف صدرت الأحكام على كثيرين من الجلسة الأولى، ودون حضور محام.
أحسست منذ البداية بأن الاعتقال لم يكن مرتبا له، أو مؤسسا على اتهام واضح، هم لديهم شخصية مزعجة، شخصية تمنع سير القضايا بالشكل الذي هم يريدونه. في أغسطس 2010 عندما كلفت بالدفاع عن 16 شخصا من المتهمين فيما سمي بالخلية[6]، نشر اسمي في الصفحات الأولى من الجرائد على أنني جزء من "المخطط الإرهابي" فقط لأنني كنت محامي المعارضين السياسيين.
صنفتني الحكومة ضمن خصومها السياسيين، بينما كان عملي لا يتعدى أن أكون محاميا، يلتمس الجانب الحقوقي في عمله. ولأنني محام عن المعتقلين السياسيين، فلا بد أن أتكلم عن حقوقهم كمعتقلي رأي، مارسوا حقهم في الاعتصام، أو التعبير عن الرأي.
أنا كالآخرين من هذا الشعب، استهدفت لأنني جزء ممن قالوا هناك ظلم، وتجاوزات، وكما نقل لي المحامون الذين تكفلوا مشكورين بالدفاع عني، أنني سجنت ببساطة "لقرص أذني"
في منصة اللؤلؤة وخيمة المحامين
اعتصام تضامني أمام منزل التاجر |
شاركت في أغلب المسيرات التي كانت مرخصة بطلب من الجمعيات السياسية، كنت متواجدا بشكل شبه يومي في فعاليات خيمة المحامين، وفي فعاليات الخيام الأخرى، وكان هدفنا في الواقع تنويري، تثقيفي.
كنا نريد تثقيف الناس أولا بماهية الشعارات المرفوعة، بمفهوم الملكية الدستورية، باللجنة التأسيسية المطلوبة لتعديل الدستور، كنا نعمل ذلك من أجل توجيه صحيح للمطالب، أي لوضع هذه الشعارت وهذه الاعتصامات في المسار الصحيح.
وبالمناسبة، بسبب علاقتي بأغلب الموجودين على المنصة، خصوصا الذين ترافعت عنهم في قضية كرزكان وفي قضايا أخرى مثل قضية المعامير، طلب مني وبشكل رئيسي ولأكثر من مرة أن أتواجد على المنصة، لكنني لم أقبل بهذا الأمر إلا في مرة واحدة في 20 فبراير، وكان ذلك من أجل المعتقلين السياسيين.
طالبت بالإفراج عنهم، ووقف ملاحقتهم، ووقف تصرفات أجهزة سلب الأمن التي كنا نعاني منها منذ ذلك الوقت.
خطابي وخطاب المحمود في 20 فبراير
قلت في خطابي في الدوار إن دولتنا بوليسية كما تصفها المنظمات الدولية، وإن هذه الحلول الأمنية لا تؤدي إلى شيء. طالبت بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين خصوصا فيما يخص دعوى ما سمي بخلية 25 [4] في ذلك الوقت.
قلت إن ملاحقتهم كانت لأنهم طالبوا فقط بتعديل الدستور، وطالبوا بالسماح للناس بالتجمهر، وبوقف التجنيس السياسي، وبوقف سرقة الأراضي، وبوقف الفساد الإداري المستشري في أجهزة الدولة.
طالبت بعدم اتخام المحاكم بهذه الدعاوى الكيدية، بحيث لا تنتهي دعوى حتى تبدأ أخرى، ما جعل أغلب القضاة وأغلب المحاكم في هوس لإنهاء هذه الدعاوى بشكل سريع، لا يمكن معه إيجاد أرضية لمحاكمات عادلة.
لا أحد يسمع لشكواه بأنه عذب، لا أحد يعترف بأي دفاع، قلت هذا الكلام في الدوار، تم تسجيله ورفعت علي الدعوى بناء عليه، بينما الرئيس الحالي لتجمع الوحدة الوطنية قال ذات الكلام، وفي نفس اليوم، وطالب بإطلاق سراح المساجين، وصدر الأمر بإطلاق سراحهم فعلا بعد ساعات من خطبته!
سحق رجال الأمن
المفارقة أن تكون هذه الخطبة هي أساس الاتهام الذي تفتقت ذهنية أجهزة الأمن عنه لمحاكمتي، كوني ذهبت إلى الدوار، وألقيت هذا الخطاب. صار ذهابي إلى الدوار اعتصاما غير مرخص، وصار كلامي عن التجنيس وفبركة القضايا وعن عدم توافر الأمن بسبب أجهزة الأمن وبسبب رجال الشرطة، سببا لاستهدافي واتهامي بالتحريض على كراهية النظام وبث أخبار كاذبة!
الأقذر من كل هذا، تحوير الخطبة بشكل يوحي أنني دعوت إلى سحق رجال الأمن، لا أعلم هل الذي سمع الخطبة لا يفهم اللغة العربية أم أنه لا يريد أن يفهم، لقد قلت إن لدينا رجال لسلب الأمن، وحين أقول تبا لهم أو سحقا لهم، فهل يفهم من ذلك أنني أدعو إلى "سحق رجال الأمن"؟
أنا معروف بخطي المتزن، ودائما ما أدعو إلى الابتعاد عن العنف وأنادي بالسلمية، وأعتقد بأن هناك ندوات مسجلة لي في الدوار رفضت فيها أي مسيرة أو تجمهر أو اعتصام خارج الدوار، و قد نهيت مثلا عن الذهاب إلى المرفأ المالي، وإلى أي أماكن أخرى، كي لا نعطي أي فرصة، لفض التجمع السلمي في الدوار.
مع ذلك كانت لدي قناعة تامة بأن فض الاعتصام قادم لا محالة، سواء ذهب الناس إلى المرفأ المالي أم لم يذهبوا، وسواء ذهبوا إلى القصر الملكي أم لا.
ما بعد هدم دوار اللؤلؤة، سأكون على موعد مع السجن لأول مرة.
كيف استعد التاجر للاعتقال، كيف كان اعتقاله، كيف عذب، وماذا شهد في السجن؟ إرهاصات الاعتقال والسجن في هذه السيرة الفريدة يسردها التاجر في الحلقة القادمة.
هوامش
- محاكم عسكرية خاصة شكلت خارج إطار الدستور في 15 مارس 2011 لمعاقبة كل من كان له نشاط متصل بثورة 14 فبراير.
- قيادي وناشط حقوقي معروف، شغل منصب مسئول الملف الحقوقي في حركة "حق" التي يرأسها السياسي المعروف حسن مشيمع، وهي حركة منشقة عن الوفاق، كان معتقلا ضمن ما عرف بخلية (25) وأفرج عنه في فبراير 2011، اعتقل مجددا ضمن (مخطط قلب نظام الحكم- مجموعة 21) إثر الدور الكبير الذي اضطلع به في دوار اللؤلؤة بعد الإفراج عنه.
- القضية التي اتهم فيها عدد من شباب قرية كرزكان بحرق سيارة شرطة وقتل أحد رجال الأمن.
- انظر حوار مرآة البحرين مع فخري محمد صالح رئيس الأطباء الشرعيين وصاحب تقرير قضية كرزكان.
- + 6. خلية 25 ضمت سياسيين وناشطين كبار كحسن مشيمع وعبد الجليل السنكيس وعلي عبد الإمام ومحمد حبيب المقداد وآخرين، اتهموا في أغسطس 2010 بالإرهاب والتآمر لقلب نظام الحكم ضمن سلسلة تاريخية من هذه الدعاوى، وأفرج عنهم بضغط من الشارع في فبراير 2011، ثم اعتقل أغلبهم مجددا فيما عرف بقضية 21 وفرّ الباقون للخارج أو اختفوا عن الأنظار خوفا من الاعتقال والتعذيب. تعرض المعتقلون لأشد أنواع التعذيب في المرتين، ووصفت المفوضية السامية محاكمتهم الأخيرة بالاضطهاد السياسي والعدالة الزائفة.