هكذا رأيت قناديلهم.. في المسافة بين القطيف والدمام.. بين شهداء الصلاة وحماتها
إيمان شمس الدين - 2015-06-03 - 5:35 م
إيمان شمس الدين*
دفعني حب الخلود ونشيد الكمال لزيارة القديح التي احتضنت شهداء الصلاة في جمعتها الدامية. قرية وادعة في عمق صحراء القطيف، يحوطها شجر النخيل الشامخ رغم قسوة ظرفه البيئي، يرسم معالم هويتها ويكتب تاريخها. إنه شامخ مثل إنسانها.
ومنها عرجنا إلى الدمام الحبيبة، من أرض شهداء محراب الصلاة، إلى أرض شهداء حماة الصلاة. في الطريق بين الأرضين قصة تختصر كلاما كثيراً عُمّد بالدم.
"أردنا أن نعلم حيدر الصلاة فإذا به يعلمنا الحياة" جملة قالها والد الطفل الشهيد "حيدر المقيلي" أصغر شهداء جريمة القديح والبالغ من العمر 5 سنوات. يجاور منزله المسجد حد الالتصاق. واظب حيدر على المسجد بتشجيع من والديه، رصدا له جائزة تكريمية إن هو انتظم في صفوف المصلين، استجاب حباً وبراءة. في ذلك اليوم ذهب منفردا، دخل بين صفوف المصلين قبل أن تعرج روحه شهيدة. كتب بدمه المتطاير رسالة شكر لوالديه، وختمها ممهورا بشغف اللقاء. لقد رسم لوالديه معالم الطريق، وصار أنموذجا لأسرته وقنديلاً يضيء محيطه.
عندما دخلنا بيت حيدر، لفتتني طفلة صغيرة تجلس على الأريكة تحتضن جهازا خليوياً وتضع إصبعها الصغير تتحسس به صورة، اقتربت أكثر لأجدها صورة أخيها حيدر. ما تزال تسأل عنه كل وقت: متى يقبل؟ وكلما هم والديها بالخروج تستفسر: هل سنذهب إلى حيدر؟
المفارقة أنك حينما تزور بيت حيدر لمواساة أهله، تعلم أن اختيارات الله مخالفة لتصنيفات البشر، فبساطة البيت ترسم معالم جماله، وترابية القاطنين فيه تجسد مفهوم التواضع، بل ترسم لوحة بريشة الحب والتسليم لقدر الله. والمفارقة الأخرى أن والدة حيدر حامل. لم أكن أعرف والدة حيدر ولا أعلم أنها حاملاً، عندما ذهبت وأنا أحمل معي هدية: شقشقة لأم حيدر
قلت لها غدا تنجبين طفلا تنسين به حيدرة
قالت يا هذه حيدرة ليس رسما
بل هو دماً بات حبراً
يكتب في ذاكرتي كل يوم ألماً
ينسج من عطر شهادته أملاً
يمسك بيده شهادة فيها اسماً
يشير إلي أمي..
أليس هذا من قلت لي هو لك نهجاً؟
أمي ألست من أرضعني حب حسيناً
يا هذه .. سيبقى حيدرة في قلبي صوتاً
صداه يردده الزمان : إلهي إني قتلت ظلماً
خرجنا بأجسادنا، وأرواحنا ما تزال معلقة بقنديل حيدر. ولأن المكان قرية تتجاور بيوتها، ولأن شهداء الصلاة يجمعهم حي واحد ومحراب واحد، فلا تكاد تخرج من بيت شهيد إلا لتجد خطواتك تقع في بيت شهيد آخر، بل إن انتقالك من واحد إلى آخر كانتقالك من الركوع إلى السجود.
في بيت الشهيد "الدرويش" استقبلتنا زوجته التي اغرقتنا هي بصبرها وحنانها وتسليمها لقدر الله، ما سمعته منها كرس لدي قناعة أن (الشهادة) لها طعم آخر وميزان مختلف. وكانت حريصة على أن نتناول وجبة الغداء في بيتها لأن الشهيد لا يقبل أن يأتيه ضيف في أوقات الطعام ويخرج دون مشاركته طعامه، لكن لضيق الوقت عوضنا وجبة الغذاء بالصلاة التي استشهد في محرابها الشهيد لتكون له رضا يغنينا عن رضاه في تناول الطعام.
"لم نشبع من الوالد ولم نعرف قيمته إلا بعد استشهاده" جملة خرجت بحزن وأسى من ابنة الشهيد، لعله شعور يستشعره كل ابن وابنة تجاه الوالدين خاصة بعد رحيلهم، لكن الأسى الذي تحدثت به ابنة الشهيد كان يحمل خصوصية أخرى: الرحيل المفاجيء في هذا المكان (المسجد)، وفي ذلك الوقت (الصلاة)، وبهذه الطريقة (الإرهاب).
رافقتنا زوجة الشهيد مودعة إلى الباب، وهي تتمنى أن نعيد الزيارة فزوجها يحب الضيوف، فارقناها والابتسامة الخجلة لم تفارق محيانا، كما لم تفارق ذاكرتي التي أثقلها مزيج من الحزن والافتخار وأغرقها حب وحنان استشعرته من هؤلاء الناس الطيبين.
خطوات أخرى، وكنا في بيت والدة الشهيد "نبيل العلوي"، البساطة تكتنف كل زوايا المنزل، استقبلتنا والدته وقد بدا على وجهها إعياء السنين، رسمت خطوطها بعمق لتروي حكايا وآهات ووجع، وجع وطن ضاق على أبنائه لكنهم ما زالوا يجدون به متسعا لأنه يكنز ماضيهم ويحكي تاريخهم ويروي للأجيال حكايا وقضايا وآهات وتضحيات.
كان لعيون أخت الشهيد الذابلة جاذبية تحكي لي عن حزن دفين في قلبها، رغم محاولتها مراراً أن ترسم على وجهها معالم ابتسامة، لكن الدموع الحبيسة كانت تعكس كم الحزن والألم لفراق الأخ القريب من قلبها.
ثم عرجنا إلى منزل الشهيد "سعيد الغزوي"، استقبلتنا زوجته الحامل بجسد نحيل ووجه شاحب وابتسامة بكاء وحسرة، لم أستطع سماع صوتها حتى اثناء الحديث. هي خجولة بالطبع، وبعد استشهاد زوجها اختمر خجلها مع ألم الفقد، ومع سراب خططها وطموحاتها التي بنياها معاً لتجدها الآن سراباً. عائلة الغزوي كان لها النصيب الأكبر في تفجير القديح بين شهيد وجريح، استشهد لها ثلاثة وجرح اثنان.
لضيق الوقت اكتفينا بهذه الزيارات في منطقة القديح، كان علينا أن نجهز أنفسنا لعزاء من نوع آخر. فإذا كانت الشهادة قد وقعت على شهداء الدالوة والقديح، فإن شهداء العنود في الدمام قد ذهبوا إليها بأنفسهم واختاروها حماية لأرواح المصلين. بذل استثنائي بطولي في زمن انحطت فيه قيم الإنسانية. الشهداء الأربعة عبد الجليل ومحمد الأربش ومحمد البن عيسى والسيد الهاشم. لا تدري من أين تبدأ.
سأبدأ من السيد الهاشم المدرس الذي جاء ليصلي، ولم يكن من كادر التنظيم ولا يعرف في هذا المجال أصلاً. خرج من المسجد ليجلب الماء لطفله العطشان. وحينما شاهد بقية الشباب يتصارعون مع الانتحاري في رقصة الموت، أدخل طفله للمسجد بسرعة وركض ليساعدهم ويحمي المصلين فاحتضن الانتحاري مع الشهيد محمد وعبد الجليل وتم الاختيار، لكن اختياره ميزه أن لم يبق له جسد أبداً. مجرد بقايا صغيرة لا تذكر فذهب بكله ليبقى كلمة غائرة في عمق التاريخ يكتب دوما حكاية إنسان ذهب بروحه وجسده لأجل الإنسانية، لأجل الصلاة.
ينكسر قلمي أمام شهداء حماة الصلاة، فعبد الجليل الأربش كان شاباً مرحاً مارس حياته بكل تفاصيلها الجميلة، وهو في الوقت ذاته جاداً مثابراً مرحاً محباً. عاد ليكمل نصف دينه ولم يمض على ذلك أكثر من يومين، كان يطمح للعودة بزوجته ليكمل دراسة الماجستير. عبد الجليل هو من اكتشف الانتحاري، ورغم معرفته بخطورة ما سيقوم به، إلا أنه لم يخف ويهرب بل احتضنه ليمنعه، وتداعى لصراخه أخيه محمد الذي لا يفارقه ليحتضن معه الإرهابي، فكان احتضان أبدي كأبدية خلودهما في الدنيا والآخرة.
محمد الأربش كان قد فارق صديقه في مجزرة القديح قبل أسبوع، بكى كثيرا لفراقه، ولأنه لم يستشهد معه. كان يطمح للشهادة طموحا جامحاً، يذهب لزيارة الأربعين ويوصي زوجته إن استشهد هناك عليها تتصبر ولا تبكي. كان يتوقع أن يستشهد عبر تفجير أو عمل إرهابي. وصفته زوجته بأنه جندي مجهول، يخدم ويعطي من نفسه ويبذل ويؤثر دون أن يعلم أحد، وحتى في شهادته لم تتضح معالمها وكيفيتها إلا بعد يومين من التفجير. كأن الإنسان بسلوكه وأفكاره يرسم خاتمته وموته ويكتب حكايتها.
لا يختلف عنهما محمد البن عيسى ابن خالتهما، الذي رغم صغر سنه وقصر عمر تجربته ، لم يهرب من موقع الحادثة رغم قدرته على فعل ذلك، آثر أن يبقى لجوار ابني خالته فاطمة كي يحامي معهما وليعبر في السبيل معهما.
هكذا التحم الأربعة التحام الخلود، التحام السجود والركوع نحو جوار الحبيب، الذي طالما ناشدوه وطالبوه وبكوا لأجله. مزقوا ثوب حياتهم في الدنيا ليلتحموا به في الآخرة، فالسلام عليهم يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثوا أحياءً.
*كاتبة كويتية.