» رأي
إبريق الشاي: مثقفُ عاصمةِ (مي)
نادر المتروك - 2011-11-13 - 1:36 م
في لقاء مكثّف مع الصّديق السّعودي بدر الإبراهيم؛ ألقى عليّ كتلا مؤجّلة من الأسئلة. كان مُراده واضحاً. انقطع الإبراهيم عن المجيء إلى البحرين منذ اندلاع الاحتجاجات في فبراير الماضي. لم يسمح له حسّه الأخلاقي أن يأتي سائحاً فيما البلاد تختضّ بالدّماء وقصص الآلام. في اللقاء الأخير، أراد الإبراهيم أن يجمع مهارتين تلازمانه. جسّه المتأنّي لجسد الوطن المريض، والاستغراق في أسئلة التفكيك وإعادة التّشخيص. حضرَ الطبيبُ والكاتبُ معاً. كنتُ بمحْضره واقعاً في الارتباك. أرادَ أن يُعيد رسْم الصّورة من جديد، وبسرعةِ منْ تستعجله الهواجسُ والمرارات.
أعترفُ أنّني لم أقدِّم الحقيقة الكاملة. لستُ أملكها، وأعجزُ عن استعراض الصّور المتنافرة وترتيبها منطقياً. لكن سؤال الإبراهيم عن الثقافة كان مباغتاً. الثقافة في البحرين بعد احتجاجات فبراير، كيف هي؟ من حُسن الحظ أنّ قاسم حدّاد وعائلته، وقتها، كانوا يشيّدون لمسةً ثقافيّة ذات اعتبار (حفل تدشين مشروع طرفة بن الوردة). إنّما السؤال كان يبحث عن الأسماء والأعمال والمكان والصحافة والمجلات.. عن الرّوح والصّفات.. عن الخروج من التقليديّة والحسّ العمومي.. عن الثقافة النّاقدة، والواعدة، والحالمة.
اطّلع الإبراهيم بدقّةٍ على واقع الصحافة في البحرين. اشتركتُ معه في إعداد ملف حول صحيفة "الوسط" بعد المحنة التي تعرّضت لها. إلحاقاً بهذا الواقع، فإن الصحافة الثقافيّة أُصيبت في مقتل. أبرز صحافيي الثقافة اختفوا من السّطح. ملاحقون أو مفصولون أو غرباء خارج الوطن. ومن جانبٍ آخر، فإنّ وجوهاً بارزة في العمل الفني والثقافي انكسرت أقلامهم ومخيلاتهم، أو رضخوا لأقلّ الواجب: الصمت المتقطّع، واجتناب المديح، وحفْظ النّفس عن ارتكاب التغطية.
محرّكو المناشط الثقافيّة حوصروا بالخيارات الضّيقة. كلّ الطّرق المفتوحة تزلقُ الأقدام، وقد تختمُ على أصحابها بأسوأ الوشوم والألقاب. لا رغبة للثقافة حين يكون المرء مُحاطاً بالانتقام والعيون المؤجّجة بالكراهية. "لا رغبة"، ومنْ يرغب فيها ورغماً عن السّيوف المسلّطة، فإنه يختارُ أن يضع بنفسه شروط الكتابة، ويتنصّل من الشروط المفروضة. إنّه التحدّي، أو الانتحار.. فعْلُ التمرّد والخروج: أوثقُ مواصفات الثقافة الحيّة، ولكنه الأخطر أيضاً.
من سوء الحظ، أنّ صندوق المبرّرات لا يكفّ عن التنوّع والاتساع. والأسوأ، أن المثقف – والمتديّن كذلك – يبرعان في اختراع المبرّرات، وبحسب الحاجة والتقلّبات. بمعونة ذلك، يكتبُ المثقّفُ نصوص التخوين. يحتفي بالدكتاتور، ويُمجّد صُنّاعَ القمع وإزهاق الأرواح. يفعلُ كلّ ذلك بارتياح تام، وبشعورٍ مليء بالانجاز الثقافي. لا غضاضة لديه في الابتهاج الوقح وسط أنين المنكوبين. يستعيرُ لغته من بيانات الدّاخليّة وأروقة المخابرات وغرفها القذرة. يمدّ يديه – ودفاتره - إلى القوّات الخاصة. إنهم حليفه الصّدوق. يجد فيهم "قوّة" الإبداع، و"سطْوة" النقد، وجماليّات "القمع". يراهم أكثر قُرباً إلى ثقافته، وأوضحهم تعبيراً عن مكبوت الحرمان وضياع الأحلام النّجسة.
الشّارعُ المتهم بالجهل والعنجهيّة يبدو أكثر أناقة وإبداعاً من هذا المثقف. لغة الشّارع تتألّقُ وتكسب الاحترام بلا تزويق أو دعايات ترويجيّة مدفوعة الأجر، في حين يُشعرنا المثقفُ الحليف مع السّلطة بأنّ الثقافة هي آخر ابتكارات الرّجل الشّرير.
مثقفُ عاصمة (مي٩ يُشبه إبريق الشّاي في فوازير سمير غانم (فطوطة):"أصبّ كده، وارجع كده.. أنا أنا أبريق الشّاي". مهمته لا تخرج عن هذه العملية الميكانيكية، حيث العقل والإرادة والخصوصيّة تحت سيطرة اليد التي تُمسك قبضة الإبريق. لا يخلو مثقف (مي) من الجسارة وموهبة الاقتناص. أظهرَ خلال الأيام الخوالي استعداداً فيزيائياً يُشبه المعجزة لابتلاع كلّ الرّوايات الرّسمية. لا مشكلة لديه في الأحجام، ولا في المحتويات. كلّ شيء قابل للابتلاع، والمَعِدَة مهيأة لاستقبال شتّى الأصناف وبكلّ الأوضاع.
الاعتراض على مشروع "المنامة عاصمة للثقافة العربية" هو اعتراض على هذا المثقف المسعور. حينما تُعدُّ المسارحُ وتُنصب المنصّاتُ؛ سيتقدّم هذا المثقف متحدّثاً باسم ثقافة هذا الوطن. نقاطعُ هذا المشروع لكي لا يتحدّث هذا المثقف باسمنا.
*كاتب بحريني.