» رأي
نادر المتروك: انحلال النظام
نادر المتروك - 2011-09-13 - 2:54 م
|
نادر المتروك*
السؤال الأكثر إثارةً هذه الأيام هو: منْ يحكم البلاد؟ عند الاقتراب أكثر من المشهد، سيتغيّر السؤال إلى: منْ الأقوى في مجموعات الحُكم اليوم؟ في سياق هذا اللّون من الأسئلة، يتأكّد للجميع أنّ البلاد لازالت تحت درجة الصّفر، وأنّها تواصل الابتعاد عن مرحلة الدّولة، فضلاً عن التطوير الديمقراطي والانتقال التحديثي لأجهزة الدّولة العصرية. لهذا السّبب، لا يضطر المرء للبحث طويلاً عن مظاهر العجز البنيوي للسّلطة الحاكمة، وعطالتها عن إنتاج مواطنين صالحين، وليس رعايا هامشيين أو موالين دائمين أو معارضين مؤقتين من بوابة برلمان مدجن وجمعيات الفزعة. هل يخطئ أحدنا حين يضع "عجْز" عاهل البلاد عن إعادة المفصولين؛ شاهداً غير معهود على انحلال السلطة داخل سلطة أخرى. في مثل هذه الحالات، يكون كلّ شيء عصيّاً على الإصلاح. البنية هنا تقوم على الحلّ والحلّ المضاد. طرفٌ يمارس دوره، ويُصدّر أحكامه وقراراته، والطرف المنافس له يفعل الشيء نفسه، ولكن في الاتجاه المعاكس.
هل هي، إذن، أزمة داخل السّلطة نفسها؟ قد تكون الأمور ظاهرياً هكذا، أو أن المشكلة بدأت على هذا النّحو. عندما خرجت البلاد من الطّور الاستعماري؛ كان يمكن النّظر إلى مشكلة البحرين على أنها سوء إدارة لعائلة لم تعتد الحكم المدني، أو خطأ في الحسابات، أو ربّما تبادل أطراف الحكم للمصالح الخاصة على أنقاض الأزمات المفتعلة. استمرار مسلسل الانحلال في مفاصل الحُكم أدّى في نهاية المطاف إلى استمراء الجميع للأزمات، لتصبح الأخيرة جزءاً من حيوية الاستبداد واستمراره. بدأ أصحاب السّلطة ينظرون إلى الاستقرار باعتباره محفّزاً للنّاس على التفكير النقدي والمطالبة بإصلاحات حقيقيّة وسريعة. فكان المطلوب تدوير الأزمات، واختلاقها، وتوفير سلسلة متواصلة من الإشغالات الأمنيّة. في هذا المرمى، يندرج المُخطط الانقلابي الذي تقول السلطة أنها كشفت خيوطه الممتدة لأكثر من ثلاثين عاماً. غير خافٍ، أن البحرين تكاد تكون البلد الخليجي الوحيد الذي لم يشهد انقلابات حقيقيّة، وأن النظام الحاكم فيها هو أكثر أنظمة المنطقة اختطافاً من أنظمة دول أخرى، إقليمية ودولية. برغم ذلك، فإن السلطة لا تكفّ عن تسويق "أطروحتها" التأزيميّة، وبأحدّ مستوياتها، أي مؤامرة الخارج بأيد داخلية للانقلاب على النّظام.
من جهة أخرى، لم يأتِ صراخ السلطة هذه المرّة من فراغ. الاحتجاج السّلمي الجديد فَعّل فعلته القاضية. ليس، فقط، لجهة كسْر الجبروت المُعزَّز بالأشقاء والأصدقاء، أو إفشاء الخسران الأخلاقي للسلطة وأتباعها فحسب. لقد استطاعت الاحتجاجات المستمرة منذ 14 فبراير، أن تُفرِّغ صندوق التأزيم من كلّ محتوياته. الطابع السّلمي للحركة الاحتجاجية، وانطلاقها في سياق الربيع العربي، وحرْصها على إتّباع "الوصفة" الكاملة للمقاومة المدنيّة؛ أبطلَ حبكة المؤامرة الخارجيّة، وأبانَ للعالم أبشع نماذج الاستبداد العربي. من هذا المنظور، يمكن تفسير شراسة السلطة، وردّة فعلها المكارثية ضد الاحتجاجات. كانت تُعبّرُ عن سخطها النّاري، لا لقيامة النّاس ضدّها، ولكن لانكشافها المخزي أمام الجميع.
هذا التفسير لا يتنافى مع تأرجح السلطة بين اللّين والعَسف. بل هو تأكيد على ما سبق. كان "حوار التوافق"، مثلا، علاجاً موضعياً للانجراح الذي أصاب السّلطة، تماماً كما هي خطابات التّسامح الموتورة. الحوار المذكور، والنفاق الإعلامي الذي يتكرّر من وقتٍ لآخر، هو الوجه الآخر للعقاب الجماعي الذي تقذفه القوات كلّ ليلة على القرى والمناطق. في ظلّ احتراق أوراق السّلطة، ومحاولاتها الاحتفاظ بالانحلالات الداخلية؛ لا فروق كبيرة بين مشاهد الحوار، ومشاهد الدّمار.
الذي لا ريب فيه، هو أن ثمّة انكسارات غير مسبوقة للنظام. التحلّلُ بات مضاعفاً. المعارضة والشّارع، ولأوّل مرة، أصبحا يتداولان مطالبات ذات طابع جذري، وبوتيرة لا يظهر أنها قابلة للتراجع والتراخي والقبول بأنصاف الحلول غير المرضية. يحصُل ذلك في وقتٍ لا تملك السلطة المزيد من خيارات القمع، لأنها باشرت بكلّ الخيارات وأفرغتها جميعاً، وليس لديها من مزيد، وهو ما جعلها تُوكِل جانباً من أدوارها في الترهيب إلى معسكر الموالاة، بوصفهم جنود احتياط في معركة المؤامرة/ الخديعة.
أمام ذلك، يُفترض من المعارضة والشارع الاحتجاجي كليهما إجراء بعض المراجعات. بالنسبة لقوى المعارضة؛ هي معنية بالانتقال إلى مرحلة المبادرات غير التقليدية، وعدم الاكتفاء بالشعارات وحركة التظاهر "المقنن" التي بدأت تستوفي أهدافها الجزئية. من الخطأ التّعويل على سياسة طول النّفس، ومقولة الصّمود، و"أن انتفاضة التسعينات انتظرت سنيناً حتّى تُوّجت بالانفراج "المغشوش"، فلا بأس من إعطاء حركة فبراير الوقت الكافي لإنضاج أهدافها المرجوّة! طبيعة الحراك الاحتجاجي القائم يحتاج إلى توظيف سياسي سريع وعاجل، ووفق النّسق المطلبي الذي يؤائم رؤى هذه القوى على اختلافها.
أمّا الاحتجاجات الشّعبيّة؛ فإنّها أمام أكثر من تحدٍّ. الأوّل، الاستمرار في رفْد الاحتجاج بوسائل متنوّعة من الرفض السّلمي. الثاني، التأسيس على حدث 14 فبراير وليس الانغلاق عليه، وذلك بابتداع انتقالة مدنية وشعبية جديدة، لا تقتصر على فئة الشباب وعلى معادلة النّزول في الضّواحي والأزقة. الثالث، الانفتاح على الانتقادات والاستفادة منها إيجابياً لتقليل الأضرار وإفشال مساعي التأليب الداخلي. الرابع، المحافظة على الاستقلال عن التوظيفات السياسية، ولكن من غير الوقوف في وجهها، والاصطدام بها. ليس الاحتجاجات هذه ذراعا مقاوِمة لأي فصيل سياسي، وهي ليست مرتهنة لمكتب سياسي لهذه الجمعية أو ذلك التيار، ولكنها الصّوت العام للنّاس، والتعبير الخالص لضمائرهم، وهي تهدأ أو تسكنُ بذاتها، حين تجد ما يُرضيها ويسرّ خاطرها، وليس بقرار متعال أو إرهاب منظّم.
*كاتب بحريني