» رأي
نادر المتروك: خَرَفُ وزارة الداخلية
نادر المتروك - 2011-09-05 - 10:25 ص
نادر المتروك*
نظرياً، كان يُفترض أن يصدر تغيير جوهري في وزارة الدّاخلية، على الأقل منذ مجيء السيد شريف بسيوني، إلا أنّ العسكر أثبتوا مجددا أنهم القوّة الفعلية التي تُدير الأمور، وإنْ حاولوا مرةً هنا ومرةً هناك؛ استبدال البزّات العسكرية ب"البشوت" وإحرامات العمرة والانقطاع في العشر الأواخر من رمضان. عندما حلّ بسيوني في البلاد، تسارع العديدُ من المسؤولين لإظهار ميولهم الإنسانيّة، والتأكيد على نوازع الخيّر الكامنة في نفوسهم. حصلت استبدالات وتلبيسات غير معقولة، وسمعنا خطابات عن التسامح والعفو والتعايش الحتمي من لدن أولئك الذين حرضوا ميليشا "لن نعفو" وظهروا بنياشينهم العسكرية عشية مجزرة الخميس في الدّوار. الاستثناء المدهش كان من أنصار "المشير" الذين لم يُغيّروا من عاداتهم، وتمسّكوا بقبضته التي كشفت – كما دُسّ في عقولهم - مؤامرة الثلانين عاما، وأسقطت المشروع الصّفوي وعملاء ولاية الفقيه في البحرين.
بدرجات أقلّ من ذلك، كفّ المسؤولون عن ترديد تلك الأسطوانة، واضطروا لاستبدالها بقاموس الحوار والتوافق والتلبّس بالنقاء والطهورية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. من بين ذلك، كانت استدارة مسؤولي الداخلية الأكثر إثارةً بالنسبة لأولئك الذين تستهويهم المشاهدُ الممزوجة ببراميل الكذب العاري.
يستحقّ التعامل الذي أبدته وزارة الداخلية بشأن مقتل الفتى علي الشيخ فحصا وتحليلا طويلاً. لا يتعلق الأمر، فقط، بالاستظهار الكاريكاتوري للشفافية و"الانضباطية" الذي تخمّرت عنها بياناتُ الداخلية وزميلاتها، ولكنه أيضاً ذلك المستوى الفادح من نكران الحقيقة والوقائع، والذي يفيد نفسانياً أنّ معضلة النّظام بدأت تقترب من الخرافية أو "واقعية العودة إلى السلوكات غير العقلانية وضد الاجتماعية" كما يُحدّد عالم النفسانيات علي زيعور. والحقّ، أنّ الأخير كتبَ ما يفيد كلّ منْ يرغب في إعادة اكتشاف الأنظمة المتحلّلة، والتي تسعى بكلّ ما تملك من طاقة الهراء لتجميع هياكلها المنخورة وتلميع صورتها الشّوهاء. ففي هذه الأحوال، يتطلّب الإكثار من صناعة الخرافات، واستحداث قصص و"خبريات" غرائبية وبلا توقّف أو حياء أو انتظار طويل لما سبق. من الطبيعي أن تتولى وزارة الداخلية دورها الخاص في هذه الصناعة.
"خرافة هو رجلٌ اختطفته الجنّ، ثم رجع إلى قومه، فكان يُحدّثُ بأحاديث ممّا رأى، يعجبُ منها الناس، فكذّبوه.." (زيعور، مجلة "حوار العرب"،ع22،سبتمبر 2006،ص15). من الجولة اللغوية، يستنتج زيعور أن الخرافات تنتمي إلى عوالم يجتمع فيها الاستملاح، والاختلاق، والغرابة، والتسامر، وكل ما يثير التعجبّ وعدم التصديق. ويجدر بنا التحليق قليلاً أيضا في الجذور اللغوية للخرافة، فهي تأتي من (خ، ر، ف)، والفعل (خرف) يعني "فساد العقل من الكِبر" بحسب ابن منظور في لسانه، فالخرافي هو الخروج عن الاستقامة وما هو معهود. وكما يلتقط زيعور، فإنّ الرّجل خرافة كان مُصاباً بالخرف وأمراض نفسية أخرى ذات صلة بالهلوسة. يقول زيعور بأنّ هناك ما لا يقلّ عن أربعين صنفاً من الخرف، الأمر الذي يُتيح الخروج بتشخيص الخرافي الخرف بأنّه مُصاب "باعتلال الشخصية بُخواف الشياطين والجان والعفاريت وأنواع المارد الكثيرة" (ص16).
ينقّب زيعور، تبعاً لأطروحته في التحليل النفسي للخرافة، ليسلّط الضوء على "منطق الخرافة"، أي الطريقة التي تعمل بها الخرافة وتوابعها، والآليات التي تستخدمها في الانتشار وإقناع الآخرين. إنها تعمل بجهد جهيد لأجل إخفاء العقل، والتلاعب في المفهوم، والتشويش على الواقع المجرّد. الخرافة تنفرُ من الخارج الملموس، وتُكذّبه بلغة صريحة، وتصنع محلّه معنى جديداً مكوّنا من الخيال، والرموز، والكوامن النفسية اللاعقلانية. بمعنى آخر، فإن الخرافة تقوم بدور تعويضي لصاحبها، فلتجأ لإنكار الواقع، وإبداله، ونقله، وإزاحته، وشقلبته، والتماهي مع المنتوج الجديد والاندفاع معه وتحصينه بوابل من السرديات المتخيلة.
تعاني وزارة الداخلية من التباس وتلبّس وتلبيس دائم. إنها، في أكثر الأحيان، غير مُدركة لما يدور حولها. تظهرُ في كلّ مرّة وكأنها في وادٍ آخر. عندما تختار الحديث عبر بياناتها أو لسان مسؤوليها؛ فإنها تُمعِن أكثر في البلاسة واستنطاق الأبالسة. يُحار المرء في تحديد مرجعية البيانات والتصريحات. هل هو الاستظراف والتخفيف على ذوي الضحايا والشهداء، أم هي تمارس عادتها في اختلاق خرافات الهروب من حقيقتها الدمويّة؟!
تكشف الوزارةُ التباسها بالخَرف حين تقول لنا إنها تشتغلُ بشفافية لكشْف "حقيقة" مقتل الفتى علي، في الوقت الذي لازلنا ننتظر كشف ملفات أخرى من القتل والانتهاكات الجسيمة وقعت قبل أشهر، وبعضها قال الضّباط أنهم شكّلوا لجانا للتحقيق فيها. نسأل عن "حقيقة" مقتل علي صقر مثلا. نسألُ عن الأبالسة الذين توالوا على جسد كريم فخراوي وسلّموه جثةً تئنّ من الجراح.نسأل عن هلوسات السكلر التي أراد خرف الداخلية أن يفسر به خارطة التعذيب على جسد زكريا العشيري. وإذا كان حديثُ القتل يؤذي مشاعر الضّباط – الذين باتوا إنسانيين وقلوبهم أكثر رحمةً – فإننا نسأل عن العقاب الجماعي الذي تمارسه القوات في المناطق والقرى. نسألُ، مثلاً، عن إلقاء مسيلات الدّموع يدوياً داخل البيوت.
ماذا يُوصف منْ يُحقّق في أمر ما، ويكون فيه هو الخصم والحَكم؟ ما أبلغُ توصيف لأولئك الذين يعتبرون انتهاكات القوات – كما ينقلها لنا الأخُ "يوتيوب" - بأنها أعمال فردية، ومحدودة؟ بأي وجه يمكن تفسير استمرار ذات هذه القوات بارتكاب الانتهاكات نفسها قبيل وبعيد صدور أمثال تلك التصريحات "الإنسانية" لوزارة الداخلية؟ لاحظوا أن "خبراء" الوزارة في انتزاع الاعترافات هم أنفسهم منْ سيرأس لجان التحقيق. هم، وليس أحدا غيرهم، منْ أشرف على تنفيذ ورش عمل لمنسوبي الوزارة حول التعامل الإنساني مع الموقوفين والتدريب على التعامل المنضبط مع الخارجين على القانون. ماذا يُطلق على منْ ينتقل من النقيض إلى النقيض؟ إذا لم يكن الخَرف هو هذا؛ فأيّ شيء يكون؟