» تقارير
أطفال الأطباء.. لن نأكل البسكويت
2011-09-05 - 4:33 م
مرآة البحرين (خاص): هؤلاء الذين يطلقون أوامرهم المطلقة: "أبعدوا الأطفال عن السياسة"، أو "امنعوا إضراب الأطفال وابعدوا الاطفال عن صراعاتكم السياسية"، يذكرونني بالكونتيسة اليزابيث باثوري وهي تطل من إحدى نوافذ قصرها العلوية، وحين ترى شعبها يتظاهر في الأسفل جائعاً يسأل عن الخبز، تقول: ولماذا لا يأكلون البسكويت؟ كذلك من يطل من نافذته العلوية على هؤلاء الأطفال، الذين يشهدون كل يوم وكل ساعة، آباءهم وإخوانهم وأمهاتهم وأقربائهم يقتلون ويعتقلون ويهانون ويتعرضون للذل والمهانة والتطهير الطائفي، كأنه يقول لهم: لماذا لا تأكلون البسكويت بدلاً من الغضب على النظام؟
أطفال الأطباء الذين بدأوا، من أنفسهم، رغم رفض عوائلهم، حملة إضراب عن الطعام منذ ثلاثة أيام (تتراوح أعمارهم بين 5-16 سنة)، تضامناً مع آبائهم المعتقلين في السجون، لم يفعلوا ذلك لأنهم يريدون الدخول في دهاليز السياسة، فهم أطفال عاشوا مترفين مدللين في أحضان آبائهم، وكانوا يأكلون البسكويت والشوكولاتة، بل لم يكن آباؤهم قد امتهنوا السياسة، بل امتهنوا واجبهم الأخلاقي والمهني.
الأطفال الذين فجعوا بفراق آبائهم المهددين بأحكام غير عادلة، والمعتقلين منذ شهر مارس الماضي، والمتعرضين لكل أصناف الانتهاك والتعذيب، والذين يعيشون الآن أسوأ الأوضاع الجسدية والنفسية، لم ينتظروا من يقول لهم تعالوا وادخلوا في السياسة، أو انضموا إلى صراعاتها، هؤلاء الأطفال افتقدوا خبز حياتهم، افتقدوا آباءهم الذين لا يعرفون أي مصير يواجههم في ظل محاكمات غير عادلة، افتقدوا أحضانهم الدافئة، افتقدوا ظلالهم التي كانت تملأ حياتهم، انتظروهم طويلاً، وصبروا فوق ما تستطيع طاقاتهم الصغيرة، ثم انهارت قلوبهم الطرية التي لم تعد تحتمل المزيد، واتخذوا قراراتهم وسط منع أهاليهم، الذين لا ينقصهم فقد أطفالهم، فضلاً عن فقد آبائهم.
بدأها محمد غسان ضيف (14 سنة) الذي أعلن في صفحته على تويتر تضامنه مع والده والكادر الطبي المضرب عن الطعام، محمد ذو الجسد النحيل يقرر ويعلن هذا القرار على صفحته، تمنعه والدته، وهي التي تعلم ضعف جسده، ويمنعه والده حين يذهب لزيارته، يجبره على التوقف، يستجيب مجبراً بعد يوم واحد من بدء الإضراب، يفعل ذلك من أجل والديه، لكنه لا يستطيع تحمل ما يسمعه من انهيار صحة والده والكادر الطبي، يفاجأ الجميع بعد يومين أنه يقرر العودة إلى الإضراب، لكن هذه المرة تكون عودة جماعية، يلتحق به أخوه يوسف (10 سنوات)، وابنة عمه إسراء باسم ضيف (13 سنة). هكذا يتمرد الصغار حين تضيق عليهم طرق الحل، وحين لا يجدون شيئاً يستطيعون أن يفرغوا فيه غضبهم غير أجسادهم النحيلة، يقدمونها قرابين لآبائهم ولحزنهم. هل قلتم لي أبعدوا الاطفال عن السياسة؟
في صفحته على التويتر يقول محمد: "اتخذت قراري بالإضراب عن الطعام لأسباب عديدة، لكني عازم على ذكر سبب يغنيني عن باقي الأسباب، وهو إحساسي بالتقصير ناحية أبي، ومن باب التضامن معه ونشر قضيته وقضية الأطباء عموماً . فستة أشهر من القبع في السجون أمر مرير وشديد أشعر به كإبن، فقلت لعل هذه الطريقة ستساعد ولو قليلاً في نصرة هذه القضية النبيلة ".
محمد يعيش كل يوم القلق على حالة والده الصحية التي يعلم تدهورها نفسياً وجسدياً. كما يعيش لحظات الفقد التي طالت عليه، وصارت تهزه بعنفها، كتب على صفحته " أتذكر الوقت الذي أبي كان موجود كان دائما يتابع كرة القدم معي، الآم عندما أتابع الكرة، ينكسر قلبي".
أما يوسف أخيه، فقد كتب : "أنا ضارب عن الطعام عشان يفرجون عن الكادر الطبي، وأن أبي وعمي صار لهم ٦ شهور وهم في السجون ومحاكمة عسكرية " ثم يقول مخاطباً والده" كون قوي إحنا زينين العالم كل وياكم".
إسراء باسم ضيف، النحيلة الجسد، والتي لا تجف دموعها منذ اعتقل والدها، ولا تراها إلا في ذبول الانتظار، وكلما سألها أحد عن والدها طفرت دمعتها قبل إجابتها، فقد انضمت إلى أبناء عمها، وبدأت الإضراب، وفي يومها الرابع، أنهكها الاعياء الشديد، وخارت قواها، ولم تعد قادرة على الوقوف أو الكلام، وبالرغم من محاولة والدتها ثنيها عن الاستمرار في الاضراب لم تستجب، حتى اتصل بها والدها من سجن الحوض الجاف، ورجاها بدموعه ان تتوقف من أجله. فاستجابت من أجله.
تكتب إسراء في صفحتها: "لدي أفضل أب في العالم، أنا فخورة أن أكون إبنته"
اتسعت حملة الأطفال سريعاً. انضمت اليها بنات الدكتور حسن التوبلاني. تقول فاطمة التوبلاني (14 سنة): "بما أني أكبر أخوتي فإني قريبة جداً من والدي فهو يحادثني ويتناقش معي كثيراً في مسائل عدة، أبي يحرص على توفير الوقت للجلوس معنا في المنزل أو الخروج معاً" . تقول عن والدها "أبي متفاني في عمله ويهتم كثيراً لمرضاه، يرد على هاتفه في أي وقت على حساب راحته . أبي شخص محبوب ومن يتعامل معه يعرف أنه يتصف بالتواضع والبشاشة والايثار "
علا التوبلاني (١٠ سنوات) التي بدأت إضرابها في ثاني أيام العيد، كتبت إلى والدها على صفحتها كيف قضت يوم عيدها: "يوم العيد قضيناه في المنزل بونك يا أبي، وانتظرنا ساعات حتى حل المساء لنراك ونلتم أنا وإخوتي في حضنك خلف قضبان السجن".
تبعهم أيضاً مصطفى (٩ سنوات) ابن الدكتور محمد أصغر، ثم عبد العزيز أحمد العمران (١٦ سنة) وأخيه علي (١١ سنة)، ومريم (٧ سنوات) التي رفضت أن تلبس ملابس العيد وانتابتها نوبة بكاء حادة ليلة العيد وهي تنتظر دخول والدها الذي سمعت أنه سيتم الإفراج عنه في العيد. يقول عبد العزيز لوالده "أبي بعد اسبوع ستفتح المدارس أتمنى أن تكون بجانبي في يومي الأول كما جرت العادة كل عام"، ويقول علي "لقد بدأت الإضراب عن الطعام تضامناً مع والدي والأطباء الشرفاء ، فهم لا يستحقون ما يحصل لهم ، ولن أتوقف عن الإضراب حتى يتم الافراج عنهم".
ورغم كل معاناة هؤلاء الأطفال التي تنتهك أبسط حقوق خبز طفولتهم، سيأتي من يقول لا تدخلوا الأطفال في بسكويت السياسة، وسيأتي آخرون فاقدون لكل معنى إنساني، ليقتحموا صفحات هؤلاء الأطفال، وليسمعوهم وابل الشتائم لهم ولآبائهم، دون مراعاة لقلوب هؤلاء الأطفال المفطورين حزناً.
تترك إحداهن (من الكبار) على صفحة محمد غسان (الطفل): "إضرب يعلك الضربة. انتم مثل اليهود اللي ما تحمد ربها. ناس ستتمنى تاكل. وناس عندها خير وتضرب". ليرد عليها الطفل برجاحة الرجل: "ردي البسيط لش الله يهديش".
فليأكل هؤلاء الكبار البسكويت، ويا أطفال الأطباء لا تأكلوا البسكويت..