» رأي
ما بعد الخطاب: أراكِ عصّيةَ الحل
عادل مرزوق - 2011-08-29 - 4:45 م
مقعد الشهيد أحمد شمس(15عاما) في صفه الدراسي
عادل مرزوق*
إذن، هذه هي الحال، كلما تم الإعلان عن كلمة جديدة للملك بادر البعض للتبشير بكلمة تاريخية تنقل البلاد والعباد لمرحلة جديدة، نقف منتظرين مترقبين لسماع ومعايشة تلك اللحظة التاريخية المأمولة لنحسها باعتزاز ولنكتبها للتاريخ، لكنها وبكل بساطة - مع الكلمات الأخيرة من الخطاب - لا تحدث.
تعيش مؤسسة الحكم ومن يديرون تفاصيل المشهد حالة تردد ومراوحة، بين خطوة للأمام واثنتين للخلف، بين إعادة مفصول لعمله وفصل العشرات في إعلانات الدناءة من جانب بعض الوزراء، بين الإفراج عن معتقلين اثنين واعتقال ثلاثة جدد، بين الاعتراف بجرائم التعذيب الممنهج والتنصل منها ونفيها، بين إبداء الاستعداد للحوار وإتمام المصالحة الوطنية والتسوية، وبين إطلاق المزيد من الرصاص، وارتكاب الحماقات، وإسالة المزيد من الدماء. إزداوجية في الفهم والخطاب والقرار تبدأ من بيت الحكم واللاعبين الأساسيين فيه، وتنتهي في كل وزارة ومؤسسة وهيئة حكومية تتجاذبها حسابات هذه الحالة المرضية المستعصية.
هل تعتقد الدولة أنها قاب قوسين أو أدنى عن إغلاق ملف ثورة الرابع عشر من فبراير؟، هل يبدو المشهد فعلياً يسير نحو خفض سقف مطالبات المعارضة وتقديم التنازلات الموجعة يوماً بعد يوم؟!، هل يعتقد مهندس الفوضى المدمرة أنه بالقليل القليل من التنازلات وإجراء تعديل دستوري محدود، يستطيع أن يقف أمام الملك ليقول بكل فخر واعتزاز: "أنجزنا المهمة، وعادت البلاد كما نريد دون الحاجة لتنفيذ أي إصلاحات أو التنازل عن أي من الإمتيازات القائمة"؟!
الأهم من ذلك، هل يدور المشهد السياسي في البحرين نحو معادلة قوامها أن إعادة المفصولين لأعمالهم وإرجاع الطلبة لجامعاتهم ومدارسهم والإفراج عن المعتقلين من سجونهم هي التسوية النهائية للأزمة القائمة في البحرين؟! نعم، تريد الدولة الوصول بالمشهد السياسي لهذه التخوم تحديداً، تريد أن تكون هذه الإجراءات الترقيعية لآثار حفلة الزار المجنونة وإجراء تعديلات دستورية محدودة هي التنازل المقنع للشارع، لتعود بعدها الحياة لطبيعتها، ولندور في الحلقة المفرغة من جديد، كما دار أجدادنا وآباؤنا، وكما سيدور أبناؤنا وأحفادنا أيضاً.
على المعارضة أن تدرك أهمية أن لا تكون مهمة إصلاح أثار الانتهاكات والخروقات التي خلفتها حالة الطوارئ وتجاوزات الأجهزة الأمنية والمافيا الطائفية في مؤسسات ووزارات الدولة، الحبل الذي تلفه الدولة على رقاب الشعب للقبول بتسوية فارغة المحتوى تقتصر على تعديل دستوري أجوف. لا يعني ذلك إهمال إعادة هذه الحقوق المسلوبة وإنصاف المتضررين مما اقترفته الأجهزة الأمنية من جرائم، على أن لا تكون إعادة هذه الحقوق في حد ذاتها جوهر القضية ومرتكز الصراع الدائر في البلاد.
كان – ولا يزال – الهدف من مجمل التضحيات التي قدمها أبناء هذا الوطن في الرابع عشر من فبراير وما تلاه حتى اليوم كانت هو الخروج بتغيير تاريخي في الدولة وماهيتها، تغيير حقيقي قوامه إطلاق الحريات والتوزيع العادل للثروة والعدالة والنزاهة والإيمان المقترن بالتطبيق لمبادئ الحكم الصالح والقبول بالتعددية، ولا يغير حقيقة هذه الحركة وكرامتها وسموها اختلاف قوى المعارضة في توصيف هذا "التغيير" أو إعلان تسميته.
على الأرض، لم يعد للدولة المزيد من الأوراق لتلعب بها، فخلاف إعلانات وخطابات العفو العام والتنازل عن المحاكمات وإعادة المفصولين وإرجاع الحقوق المسلوبة لم يعد في يد الدولة أكثر من إعلان التعديل الدستوري الذي سيقدمه الديوان الملكي للمجلس النيابي بعد انتهاء الانتخابات التكميليه لتعويض مقاعد نواب جمعية الوفاق. ووفق ما تذهب أغلبية المصادر القريبة من مؤسسة الحكم لا يبدو ان التعديلات المتوقعة ستحقق لحركة الرابع عشر من فبراير شيئاً من مطالبها ما خلا بعض التحسينات التي طالبت بها الجمعيات السياسية في المولاة قبل المعارضة بعد معايشتها لواقع المجلس النيابي الحالي. وعليه، على المعارضة أن تفكر بجدية في خياراتها المقبلة تجاه صراع سيمتد طويلاً، خصوصاً وان صقور العائلة الحاكمة لا تزال الممسكة بالقرار في مؤسسة الحكم.
من جانب آخر، هناك خط فاصل عريض بين الشارع المتوتر والتنظيمات السياسية في المعارضة. ذكرت في مقالات سابقة وأعيدها للتذكير، لم يعد شارع المعارضة في البحرين ملكاً لأحد، لقد تجرع الناس من الذل والهوان ما يكفيهم، وليس لخطاب – أي خطاب – أن يلجم الشارع عن الاستمرار في مطالبه المشروعة. وبقدر ما كان الشارع في دائرة الوفاق بامتياز في مواقف، كان خارج هذه الدائرة في مواقف أخرى. ولعل من أكبر الأخطاء التي قد ترتكبها الدولة ومؤسسات المعارضة على حد سواء، هو أن يقرأ احد ما هذا الشارع قراءة لا تليق به، باعتباره شارعاً محكوماً بقرار مؤسسي ينهي صفحة الرابع عشر من فبراير تحت تفاهم سياسي غير مقنع.
نعم، للتنظيمات السياسية المعارضة داخل البحرين وخارجها قوتها وحاكميتها، لكننا خبرنا وبالتجربة في هذه الأزمة كيف حمل الشارع هذه التنظيمات على تعديل مواقفها والإنصياع لما أقره الشارع بإراداته الحرة. هذه الإرادة الحرة التي وصلت بالتظاهرات لأماكن وحدود ما كان لأي من التنظيمات السياسية أن يدعو لها، فضلاً عن أن يتصدر قيادتها.
الذي يُخشى منه على التنظيمات والجمعيات السياسية في المعارضة هو أن تخطفها الخلافات الداخلية وصراعات الخوض في مجازات الخطابات والبيانات وما وراءها، وأن تعمل هذه الاختلافات على إعادة فرز شارع المعارضة لحدود ما قبل 14 فبراير، بما يعمل على تمزيق وحدة الشارع أولاً، وبما قد يجر هذه التنظيمات لاعتماد تكتيك العناد السياسي استراتيجية موجهة لتفتيت جسد المعارضة لا النظام نفسه ثانياً. فعلى الرغم مما ذكرته عن قوة هذا الشارع ومنعته وفرادة هذه الحركة وجسارتها إلا أن التنظيمات السياسية في المعارضة تستطيع أن تكسر هذه الشوكة والمنعة في حال صيرت اختلافاتها حدوداً ومفارزاً حادة لا مكان فيها لـ "آخر" المعارضة، فضلاً عن "آخر" الدولة.
على أي حال، هو مفصل دقيق في تاريخ هذه الجزيرة، وفي جعبة كل منا أمانة لهذا الشعب ولأجيالنا المقبلة. ولكل كلمة تقال اليوم دون حساب، حساب آخر سيكتبه التاريخ غداً.
* كاتب بحريني.