على هامش حواره مع "مرآة البحرين": اللحظة التي أبكت نبيل رجب
2014-05-31 - 12:47 ص
مرآة البحرين (خاص): ربما قليلة هي اللقطات التي لا يظهر فيها الحقوقي نبيل رجب مبتسماً، إن لم تكن نادرة. يجد في الابتسامة شكلاً من أشكال المقاومة السلمية، وتعبيراً مشحوناً بدلالة الصمود، لهذا يرفق معها دائماً علامة الصمود التي صارت لازمة تشير إليه. بالابتسامة والدعابة يرسل نبيل رسائله الحاسمة للسلطة التي تريد كسر الشعب وإذلاله: لن تكسرونا ولن تهزموا روحنا الواثقة من النصر. لا يحب نبيل أن يرى أحد دموعه كي لا يجري تفسيرها على أنها ضعف، لكن ثمة لحظة في لقائه مع «مرآة البحرين»، كانت أقوى من أن يسيطر عليها!
طوال عامين، لم يهزّ نبيل كل ما تعرّض له من محاولة كسر وإذلال رغم صعوبة التجرية. يقول رجب: "عندما يؤتى بشخص معروف ومقدر في الخارج، ويوضع في السجن، وينقل من مكان لآخر وهو مقيد بـ(الهافكري) فهذا إذلال، في الخارج يتم استقبالك من قبل أكبر المناضلين ويتم تكريمك من قبل منظمات عالمية، ثم في بلدك يتم جرجرتك في السجن من قبل شرطة غير متعلمين حتى، فهذه إساءة ومحاولة كسر، وهو أمر مؤلم، ورغم أني اعتدت سماع شكاوى الاعتقالات على مر 15 سنة من خلال عملي الحقوقي والتوثيقي، وكنت مهيأ نفسياً للاعتقال، لكن عيش التجربة يبقى أمراً مؤلماً ومتعباً مهما تهيأت له، لم أشعر بالضعف، لكني كنت أشعر بالقهَر والغضب".
أيضاً، لم يهزّ نبيل ما تعرّض له من طرق الكسر الأخرى. لم يكن ممكناً تعذيب الحقوقي المعروف عالمياً، خاصة أنه تم اعتقاله بعد قرابة عام من الثورة وبعد صدور تقرير لجنة تقصي الحقائق، لهذا لجأت السلطة معه إلى نوع آخر من محاولة الكسر، لقد عزلت نبيل عن الداخل والخارج، ولأنها لا تستطيع عزله بوضعه في سجن انفرادي، فإنها استخدمت طريقة أخرى، وضعته مع سجناء أجانب، أبسط ما يقال عنهم إنه لا يمكن أن يحدث بينهم وبين نبيل أي نوع من التواصل الفكري، ولا يمكن أن يشترك معهم في أي حوار مشترك ذي قيمة معتبرة عند نبيل. لا يرغب نبيل في الحديث عن (رفقاء) زنزانته، ولا الإشارة إلى نوعية قضاياهم، يرى في ذلك خدشاً لإنسانيتهم، مهما كانوا مختلفين عنه فكرياً واجتماعياً وسلوكياً، خصوصاً أنه كوّن مع الجميع علاقات إنسانية طيبة، لكنه كان طوال فترة سجنه ظلّ يشعر بالقهر وبتعمّد إيذائه عقلياً.
ماذا يعني أن تكون معزولاً بحيث لا يمكنك الكلام مع أحد في موضوع مشترك؟
يقول رجب "السجناء السياسيين الآخرين الذين تم وضعهم في زنزانات مشتركة يشعرون بالانسجام مع بعضهم البعض، لديهم نفس الموضوعات والاهتمامات والهموم والمشاكل والقضايا. يتبادلون الأخبار. من يفد جديداً إلى الزنزانة يطلعهم بالمستجدات والأخبار التي في الخارج، الأهالي يتصلون بأبنائهم ويزورونهم ويخبرونهم بما يحدث ويتناقل الجميع آخر المستجدات، يلعب الجميع الكرة مع بعضهم ويمارسون الرياضة ويجلسون في حلقات نقاشية وما شابه. أنا لم يكن هذا متاحاً لي. كنت لوحدي في البداية مع سجناء (صينيين) ثم (بنغاليين)، دائماً يتم إحضار سجناء أجانب معي وبالمناسبة لا يتحدثون حتى الانجليزية، ويضعون بحريني أو اثنين فقط معي من أجل التمويه. التهم والخلفية يختارونها للسجناء الذين يحضرونهم معي تتم بحيث لا يمكن أن تكون أية صلة بيني وبينهم والخارج. الأحاديث بيننا متدنية كثيراً. لقد صار كلامي طوال هذه المدة محصوراً في الموضوعات المتدنية فقط!!"
يضيف نبيل: "عرفت أن المنطقة المراد ضربها هي عقلي، يريدون إمراض عقلي، وأنهم يستهدفون إفقادي قدرتي على التفكير والحوار والنقاش بل والكلام أيضاً، فالعزلة الفكرية قتل بطيء. وبالفعل خلال اليومين السابقين، أي بعد خروجي من السجن مباشرة شعرت بنفسي غير قادر على بلورة الكلام، لا أستطيع اختيار الكلمات المناسبة، لا باللغة العربية ولا باللغة الانجليزية أثناء المقابلات واللقاءات، الآن أنا أسترجع لياقتي في الكلام بشكل تدريجي".
يكمل نبيل: "في البداية خشيت على نفسي أن أموت غيظاً وقهراً، لكني بعد أن وعيت هدف ضرب عقلي، قررت أن أستجمع كل طاقتي لإفشال هذا الهدف، أن أبقي على حواسي وفكري وعقلي متيقظاً، أن أوظف عقلي لتقوية نفسي على مواجهة هذا العزل، وبالفعل تمكنت من السيطرة على نفسي، وعدم الاستسلام للعزل، وقلبت المعادلة حتى أني تمكنت من الاستغناء عن أدوية الضغط في السجن، ويبدو أني سأعود لتناولها الآن بعد أن خرجت" يقول ضاحكاً.
لم يكن الإذلال السجن والعزل هما ما هزّ نبيل داخل السجن. كان أصعب ما تعرض له نبيل هي وفاة ولداته. ورغم أنه لا يؤمن بالإضراب عن الطعام، لكن منعه من حضور مجلس عزاء والدته أشعره بالغضب الشديد، امتنع عن الأكل والشرب وتناول الأدوية لمدة 3 أيام هي فترة مجلس العزاء. خلال حديثه عن والدته تغيرت ملامح نبيل، وصارت نظراته موجهة نحو الأرض بدلاً من النظر في عيوننا: "كانت والدتي دائماً تقول لي: سأموت وأنت في السجن ولن أراك. وتؤكد لي: سيأخذونك إلى السجن وسأموت أنا. كنت أحول الحديث معها إلى مزاح. كانت والدتي هي نقطة الضعف والضغط نفسي الكبير الذي شعرت به. عندما حكموني 3 سنوات كنت أسأل نفسي: هل ستعيش والدتي 3 سنوات لتراني بعدها. لم أكن أريدها أن تراني في السجن. ويبدو أنها شاءت أن تجنبني الاستمرار في هذا القلق فتوفت بعدها بقرابة شهرين. عندما داهموا منزلي وجاؤوا لاعتقالي، قلت لهم دعوني فقط أسلّم على والدتي قبل أن أغادر. لم يسمحوا لي".
يكمل نبيل: "كنت خلال السجن استرجع مشهدين، الأول عندما كان أبي يتصل بي قبل أن يموت بساعات، كان يريد رؤيتي، وحينها كنت أود الذهاب للشهيد فاضل المتروك في 15 فبراير 2011، لم أكن أتوقع أن يموت والدي بعدها بساعات، قلت له عند اتصالي به: هناك شهيد سقط يا والدي. قال لي: اذهب لهم ياولدي الله يوفقك هذه الناس تحتاجك. لم يكن يعاني من شيء يجعلني أعتقد أنه من الممكن أن يموت، أخذوه إلى المستشفى للفحص فقط. كان موته مؤلم جداً وصادم بالنسبة لي. أثّر في نفسي كثيراً أني لم أكن معه ساعة موته". يردف" والدتي توفت بعد عام تقريباً، وبشكل مشابه أيضاً، لم أسمع عنها أنها مريضة، كانت قبلها بأيام تكرر دائماً أريد رؤية نبيل، آلمني جداً خبر موتها وأنا في داخل السجن، وآلمني أكثر أنها كانت تطلب رؤيتي قبل موتها ولم تتمكن من ذلك".
لم نكن نتوقع ونحن نسأل نبيل عن صورة التقطت له يوم تشييع والدته، أننا سنأخذه إلى منطقة حاول تفاديها طوال الحوار. فبعد إخلاء سبيل نبيل المؤقت يوم وفاة والدته في 4 أكتوبر 2010، وصل إليها وهي ترقد بسلام فوق المغتسل بعد أن تم تغسيلها وتكفينها. تمدّد نبيل بطوله عند جسد والدته، وراح يحتضنها بحزن بالغ وبانكسار لم نشهده عليه من قبل في أي موقف آخر. الصورة غزت مواقع التواصل الاجتماعي واهتز لها وجدان الجميع داخل البحرين وخارجها. كان سؤالنا الذي وجهناه له: ما الذي كنت تشعر به حينها؟ رفع نبيل رأسه وقد بدا مشدوهاً من السؤال، قال: أي صورة؟! أنا لم أر هذه الصورة؟! لكن ملامحه كانت قد تغيرت تماماً، ثم كأنه تذكر فجأة، احمرّ وجهه واختنق عن الكلام، وضع نبيل رأسه بين يديه وشهق في نوبة بكاء. قرابة دقيقة كاملة بقى الجميع غارق في وجوم مطبق وجليل، لا يسمع سوى صوت بكاء نبيل الذي خرج عن سيطرته، ورغم أنه كان يحاول كتم صوته وإخفائه، لكنه ظل يجهش حرقة بما يكفي لأن يهزّ المكان والقلوب.
التقط نبيل أنفاسه بعد برهة، اعتذرنا عن السؤال الذي شقّ وجعاً صعباً في قلبه، واعتذر عن بكائه أمامنا: "أنا لا أبكي أمام أحد في العادة". لم يكن سهلاً علينا أن نشهد نبيل في هذه اللحظة المنكسرة، فهو رجل الابتسامة والشموخ المسترسل بلا منازع. لكنها الأم، والبكاء عند قدم الأم شموخ آخر، فكيف بالبكاء عند تذكرها وتذكر وجعها الأخير وأمنيتها الأخيرة: "أريد رؤية نبيل"..
تدارك نبيل معقباً على سؤالنا: "لم أر هذه الصورة، ولم أكن لأقبل أن تخرج للناس مثل هذه الصورة خوفاً من أن تضعفهم. عندما أخلي سبيلي مؤقتاً وذهبت لرؤية والدتي قبل تشييعها كنت أريد أن أحتضنها لكني تفاجأت أنه قد تم تكفينها. داخلني قهر وغبن. شعرت بالكفن يعزلني عنها. أزعجني أن أجدها مغطاة بالكامل. كنت متلهفاً لاحتضنها طويلاً. كانت دائماً تريدني أن آتي لاحتضانها قبل أن أخرج، وكثيراً ما أخرج مستعجلاً دون أن أفعل. تذكرت ذلك عندما وصلني خبر موتها، وآلمني أن فوّتُ على نفسي وعليها هذه اللحظات أحياناً، وأني لم يتح لي أحتضنها قبل أن تموت. شعرت بغبن شديد. ولم أتمالك نفسي، تمددت بطولها واحتضنتها، كنت أتمنى أن يستشعر كلها حضني لها".
يكمل نبيل: "في داخل السجن كلما تذكرت والدتي سيطرت علي الدموع، لكني أتمالك نفسي كي لا يرى أحد دموعي فيفسرها أنها ضعف مني، وحين أخلد للنوم أترك دموعي تسترسل في ستر الظلام، فالظلام وحده يسترها ويظهر ما في القلب دون خوف من سوء التفسير. لم أبك يوماً في السجن إلا حين كانت تحضرني صورة والدتي وسيرتها وذكرياتها وكلماتها المتوجسة لي: سأموت يا نبيل وأنت في السجن"!!