هجم الفاشيون
نادر المتروك - 2011-08-09 - 10:24 ص
نادر المتروك*
صدفةً عدتُ إلى مقال قديم كتبه أومبرتو إيكو. كان صوت خالد الهبر يرتفعُ أمامي بأغنيةٍ تبدأ بعبارة "هجم الفاشيون". سريعا ينتقلُ الذهن إلى كتابةٍ عميقةٍ بعنوان "فاشيتنا" قدّمها إيكو في يونيو 1995م. مجلة "أبواب" نشرت ترجمتها في ذلك العام (العدد 6). عندما عدتُ لنسختي من المجلة، أخذتني دوائر بارزةٌ بقلم الرصاص وهي تطوفُ حول عدد من العبارات. تذكرتُ فورا أنني مازجتُ عددا من الكلمات والصّيغ الواردة في المقال ضمن بيانات سياسية حملت توقيع طلبة الجامعة في ذلك الوقت (وهذا ليس سرا، فهو ملف قُدّمت بسببه مع سبعة من الزملاء إلى المحاكمة في أحداث التسعينات).
المثير من الناحية العاطفية والثقافية عندي، هو أنني أعدتُ اكتشاف مقولة هامة، أراها الآن أكثر قدرةً على إيجاز الحدث المركّب الذي يميّز الوضع البحريني منذ فبراير الماضي. استطاع إيكو أن يبلور صورةً أكثر انسابية لمفهوم الفاشية، ووضع عددا من الصفات أو التشبيكات المفاهيمية التي تؤشّر على كل ما هو فاشي أو مرشّح لأن يكون كذلك.
لا يتعلق الأمر – جوهريا - في البحرين بديكتاتورية طارئة أو طغيان مفاجيء للعسكرتاريا، ولكنه ذلك اللّون من الاستبداد الذي تتكثف فيه صورٌ متنقلة من التعصّب واختزان اللا عقلانية، ويُحاط ذلك بعمليات خطابية ورمزية مثيرة لضمان الاستمرارية وتحشيد الأنصار والمكافحين.
يتحدّث إيكو عن "عبادة التقليد" في الفاشية الممتدة. التقليد هنا هو إشارة إلى كلّ ما هو قائم بحكم قوّة الزمن القديم أو الموروث. وهي عملية تقوم أساسا على الثقافة التوفيقية، أي الجمع بين التناقضات. بسبب ذلك، لا نستغرب عندما يتوالد حول الفاشية – في نسخها المتواصلة حتى اليوم وفي كل مكان - مثقفون أو مفكرون كبار، طالما أن أولئك يتغذون من نبع توفيقي باطني. يتحدثون عن الديمقراطية، والتعددية السياسية، وقوانين الحق الإنساني المعاصر، ولكنهم يرفضون في الوقت نفسه الحديث عن تداول السلطة! هنا، يُرجّح القديم والموروث التقليدي باعتباره وسيلة سميكة للتشبّث بالإجراءات غير الديمقراطية. ولحلّ التناقضات هذه، تُنتِج الفاشيّة منظومة من القيم التوفيقية لإظهار التناقضات وكأنها حلولا إبداعية (توافقية!). ينتج الفاشيون، مثلا، قيم التوازن الطائفي، أو الحفاظ على النسيج الاجتماعي، أو الوقوف في وجه الخطر الخارجي، وذلك لإبراز رفضهم للحكم الديمقراطي، ويعاد تظهير الرفض وكأنه بطولة وطنية لا تنتقص حرية اختيار الإنسان للعبودية في ظلّ الوضع التقليدي القائم.
من ذلك، يستنتج إيكو عبادة أخرى للفاشيات، وهي عبادة "الفعل من أجل الفعل". ليس ثمة هنا عقلانية تُحدّد مسار الفعل أو متطلباته، كما أنّ أية مقاربة نقدية للفعل يُنظر إليها بوصفها عملا مشبوها ومحلّ ارتياب. تطلب الفاشية من الأنصار إعادة تكرار الفعل، والديمومة على استنساخه، والحجة التي تُغذّيهم بها هو أن الفعل، بذاته، جميل ويستحق الاستنساخ، و"يجب أن يمارس قبل أي تفكير مسبق، أو دون أي تفكير مسبق"، يشرح إيكو.
لنضع مكان "الفعل" كلّ سلوك عدواني وقمعي وستتضح الصّورة الفاشية تماما. الفاشيون عندنا يعبدون "القمع من أجل القمع". يستهويهم الانكباب على تسويقه وتجميله. طبعا، القمع هنا يأخذ عنوانا آخر: حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع. ينزع الفاشيون إلى استبدال المفاهيم دوما. لكن الجوهر يبقى واحدا.
على هذا النّحو، لا مجال للنقد التحليلي. الفاشية، أو صنّاع الفاشية، يقدّمون توفيقاتهم وتناقضاتهم فوق النقد، ويرون أي تحليل ومساجلة ناقدة هو تصرّف ممقوت. والسّبب واضح: النقدُ "يبيّن الفوارق"، ويسمح للاختلاف. والفاشيات ترفضُ إظهار التمايزات، لأنها تقف بعدائية في وجه حقّ الاختلاف.
فاشياتنا لا تقول ذلك صراحةً، ولكنها تتجمّل في عباراتٍ تُغطّي على الموئل الفاشي. فاشياتنا تتحدّث عن "التوافق الوطني"، وإجماع الأمة، وتشيع بين محيطها الهواجس والتخويفات والتخوّفات من ممارسة الاختلاف داخل الوطن الواحد، وتنتشر إحطات عنصرية حول الذات المتوهمة. يزرع الفاشيون عندنا هوية متخيلة للجماعة من خلال التخويف من الأعداء. يقول إيكو: ".. وهكذا يكون الهوس بوجود مؤامرة، ولربما مؤامرة دولية، في جذر سيكولوجيا فاشيتنا".
ليس هذا فحسب، فاشيتنا تنزع إلى إحداث سلوك آخر، وهو أنها تُشْعر "الاتباع بالمذلة إزاء ثروة أعدائهم وقوتهم الغاشمة"، بحسب نصّ إيكو.
ماذا يحدث عندنا في البحرين؟ الأنسب وصفاً هو أنّ الفاشية تخيّم على المتسلّطين، وتحوّلهم إلى مولّدات متواصلة لكل أنواع الكراهية والإكراه، أو التعصّب والإبادة.
الفاشيون في بلادنا هم: أفراد وجماعات يأخذها الأمرُ الواقع وتتوجّه إليه وكأنه "إله"، لأنّ تغييره وتحديثه يسلب منها المنافع المتحصّلة منه. إنهم بارعون في إحاطة أنفسهم بسياج النخبة. الأمر – يقولون في خطابهم الخادع – ليس تمصلحاً من الموروث الواقع، ولكن رفضا للمؤامرات التي تريد تغييره لأجل نهش الأمة وإشاعة الدمار فيها واستجلاب الصفوية من جديد.
إنهم أكثر الناس تعلقا بالاتباعية، وأشدهم اشمئزازا من السؤال النقدي. ولكنهم، في الوقت نفسه، يتقدّمون إليك بالتهم نفسها حينما تغرسُ إبرةً في عين فاشيتهم. يرونك اتباعيا، طائفيا، مجوسيا، عبدا لولاية الفقيه، وجاسوسا عند الأمريكان والحرس الثوري. ليس مهما هذا التناقض، فهو من صميم النزوع الفاشي، وهم ليسوا مستعدين للبرهنة على ذلك، أو هم غير معنيين بذلك، فالمسألة عند الفاشيين هو تعشّقُ الفعل أو القمع والطواف حوله في هيئةٍ غير مفهومة من التعبّد والطاعة المقدّسة. الفاشيون عندنا معادون للفاشية، ولا يملّون من التنديد بكلّ أشكالها ورموزها وحكّامها ومناصريها. لكن، ليس مثيرا للدهشة أنّ أشنع أساطير الفاشية تتخثّر بينهم.
* كاتب بحريني