14 فبراير: فيه ما فينا
عادل مرزوق - 2011-07-31 - 9:00 ص
عادل مرزوق*
فليصنف البعض هذه المقالة أنها مجرد تعبير انفعالي يسبق استكمال التقرير السابق حول تفاصيل التسوية في البحرين، أو ربما تفريغاً لمشاعر وأحاسيس مكبوتة لا تقيم وزناً أو اعتباراً لتفاصيل السياسة ولعبة الكراسي المتحركة التي من واجب أي صحافي أو سياسي أن يدور معها وأن يتكيف في نصوص مقالته مع فضاءاتها واحتمالاتها.
بالنسبة لي، أفضل تصنيف هذه المقالة باعتبارها مجرد تعبير بسيط خارج أطر حسابات السياسة والإعلام، أو هي تعبيري الخاص كمواطن لم يملك شجاعة مشيمع والمؤمن وباقي الشهداء فغادر وطنه مرغماً ليعيش كلاجئ سياسي في الخارج، هي أمنيتي الداخلية كمواطن قبل أن أكون صحافياً معنياً بمتابعة وتحليل وقراءة ما وراء الأحداث والتقلبات والتحديات الجارية في مشهد هذا الوطن الجريح المثقل بالأوجاع.
إن ما حدث في البحرين مع اطلالة فجر الرابع عشر من فبراير كان ثورة لم يتوقعها أحد، ثورة بما تحمله الكلمة من بساطة وتعقيد، ولا أبالغ إن قلت – ولتسمه السلطة ادعاء- أن أحداً في الجمعيات السياسية في المعارضة أو المراقبين المستقليين ما كان يتوقع أن تتسارع الأحداث بتلك الصورة التي حدثت. وحتى نكون واقعيين، نعلم جميعاً أن للثورات في محطات وسير التاريخ منطقها الخاص، وتقريرها الخاص، ونتائجها الخاصة. وعلى الكراسي التي تدور هنا وهناك أن تعي ذلك، فالثورات - دائماً وأبداً - هي من كانت تحرف مسارات الكراسي عن دورانها المألوف، وليس العكس. ولذلك فقط، نالت الثورات شرف هذه التسمية. على الأرض، هناك من استوعب هذه الحركة، وهناك من لم يستوعب، والأحرى ان الذي لم يستوعب ما حدث لم يكن راغباً في تفهم هذه الحركة، ومسبباتها. وهو ما قرأناه بدقة في الكلمات الملكية والبيانات الرسمية للدولة منذ بداية الأحداث وحتى اليوم.
لماذا خرج الناس في 14 فبراير وما تلاه من أيام بجموع غفيرة كسرت حاجز الصمت المطبق منذ عشر سنوات؟، لماذا تحول ميدان اللؤلؤة لقلب الأحداث في أيام قليلة؟ ببساطة، لقد كلّ صبر الناس ونفدت قدرتهم على التحمل، لقد حملوا مشروع الملك الإصلاحي بأخطائه ونكباته وهفواته على سبعين محملا حتى غرقت السفينة بمن عليها.
وعلى امتداد عشر سنوات طوال، عملت الجمعيات السياسية والصحافيون والقوى المعتدلة من جمعيات ومستقليين في المعارضة والناس أنفسهم على إصلاح الأخطاء من الداخل عبر المشاركة في الانتخابات وتناسي ما خلفته سياسات التجنيس والتمييز وتقرير البندر من أوجاع إلا أن الحلقة المتشددة في مؤسسة الحكم كانت تقف كل مرة بالمرصاد. وأقولها للتاريخ يا جلالة الملك، لقد حاولنا وحاولت الجمعيات السياسية في المعارضة وحاول الناس أن يساعدوك في هذا المشروع الإصلاحي لكنك بكل بساطة كنت تتخلى عنهم في كل مرة.
كانت حركة حق الخارجة من أحضان الوفاق لفضاء التشدد والمواجهة المباشرة مع الدولة، وحركة الوفاء الإسلامية بتنظيراتها المعقدة لكسر مرجعية الوفاق المتمثلة في الشيخ عيسى قاسم، وكل محاولات الخروج من شرعية الدولة والقانون لشرعية الحقوق والعدالة، كانت أجراس إنذارٍ كافية لتفهم مؤسسة الحكم ما يجري، لكنها كانت تصر عبر خطابها وآليات عملها وإداراتها لشتى الملفات وإعلامها الرسمي على القفز فوق هذه الإشارات، وتجاهلها، والاستمرار في الأخطاء التي كانت تزيد الأوضاع تعقيداً وخطورة.
تتجاهل مؤسسة الحكم حتى اليوم حقيقة مفصلية في هذه المشهد، حقيقة أوصلها الناس لمؤسسة الحكم عبر الرسائل والعرائض والمواقف مئات المرات، وهي أن الحشود التي زحفت إلى دوار اللؤلؤة باتت مؤمنة أن هذا الشعب لم يخلق ليكتب على جبين أبنائه وبناته قدرَ الحياة، بالسخرة والمهانة والذل من تجربة إلى أخرى، ومن عقد إلى عقد، ومن مشروع إصلاحي إلى أخر.
خرج الناس وقدموا شهداءهم وجرحاهم ومعتقليهم في مشهد وقف له العالم احتراماً وتقديراً ذلك أنهم أدركوا أن مبادئ الديمقراطية والحرية والعدالة التي توافقت عليها الإنسانية هي حقهم الذي طال انتظاره دون فائدة. خرجوا بأطبائهم ومدرسيهم وعمالهم وطلبتهم ونسائهم وأطفالهم لإيمانهم أن هذا الشعب لم يخلق بتاريخه النضالي وبما قدمه من تضحيات لتتلاقف مصيره ومستقبله أكف السراق والفاسدين التي لا ترحم، أو لتتلاعب به مصالحهم المفتوحة على بلد صغير نزفت موارده وخيراته حد العدم.
خرج الناس بدموعهم لأن اللقمة كانت تُسرقُ من أفواههم وأفواه أولادهم لتسكن فم المرتزق الغريب، خرجوا بكل حزن وأسى لأن البيوت التي تبنى في ما تبقى من أراضيهم كانت تسجل بأسماء الغرباء الذين يرمون الرصاص والقنابل المسيلة للدموع والقنابل الانشطارية لتستقر في منازلهم الآيلة للسقوط ورؤوسهم ووجوهم في أقسى مشاهد من مشاهد سطوة الغريب على أبناء البلاد. خرجوا لأنهم لم يجدوا في مسلسل الوعود الطويل - التي كانوا يصدقونها كل مرة - إلا المزيد من الخسارات والأوجاع التي تراكمت في كل بيت وقلب.
اليوم، وبعد أن جمع البحرينيين محنةُ ما اقترفته آلالة العسكرية منذ الخامس وعشر من مارس وحتى اليوم من جرائم وانتهاكات إلى ما كان يعتصر قلوبهم من أوجاع وأحزان وخيبات، أقول: على من يراهنون على أن صوت هذا الشعب محكوم بما تقرره فضاءات الممكن الضيقة في التسوية المرتقبة أن يدركوا وبوضوح، أن حركة الرابع عشر من فبراير لم تكن مزحة أو مجرد نسخة تقليدية لربيع الثورات العربية، فلقد قدم أبناء البحرين شهداء آمنوا واختاروا أن يلتحقوا بركب الشرفاء في التسعينات وما قبلها ممن عبق تراب هذا الوطن بأحلامهم وطموحاتهم وتضحياتهم. ولقد ذاق هذا الشعب من التنكيل والظلم والقهر والألم والحزن والفقد والوجع ما يكفيه، وليس لمن مشى كل هذا الدرب ولمن تحمل كل هذه الخسارات أن يعود خالي الوفاض. إن لدماء الشهداء كلفتها، ولدموع الأيتام والارامل والنساء المروعات في البيوت والشوارع حسابها، ولآهات المعذبين في السجون ممن تجرعوا الويلات كلفتها، وليس لأحد أن يتجاوز كل هذا، لا فوق طاولة الحوار، ولا تحتها.
لقد تراكمت في بيوتاتنا مشاعر الوجع الممزوجة بمرارة الصبر والتحمل والأمل المذبوح منذ عشرات السنين، وورثنا من أبائنا وأجدادنا تركة الخسارات وغصة القهر وإحساس الظلم ولعنة التمييز ومذلة الاحتقار، حتى وقفت أرجل الشهداء في محيط دوار اللؤلؤة وقرى البحرين راسخة كالنخل لتقول وبوضوح: هي الكرامة والعزة والمساواة والعدل أو هو الموت بلغة الرصاص البربرية لتكون الدماء أصدق الرسائل للعالم والشاهد على عدالة هذه القضية ونبل أهدافها. ولا أصدق من الدماء لتكون رسالة المظلومين المتطلعين لفجر يوم يعلنونه يوم الكرامة والحرية والديمقراطية.
لم يخرج هذا الشعب ليتجاوز أو ليحتكر صوت أحد، لم يخرج ليفرض رؤيته وتطلعه للدولة المدنية القائمة على العدالة والمساواة قبالة أي أحد، لكنه ايضاً، لم يقدم هذه التضحيات عبثاً أو لتوزن دماء شهدائه وأوجاعه في موازين السياسة كما توزن الأضحية. فليكن صندوق الاقتراع الحَكم على البحرين اليوم وغداً، وليكن لهذا الشعب بكل طوائفه وعرقياته الحق في تقرير مصيره بنفسه، فلا أقل من ملكية دستورية حقيقية غير منقوصة، وخلاف ذلك، ليس لأحد – أي أحد - أن يعيد لهذا النظام شرعيته.
*كاتب بحريني