عبد المنعم منصور بعد 3 أعوام من الصمت: سأحكي لكم عن رأس أحمد فرحان الذي صار في رأسي..
2014-03-21 - 7:31 ص
أَلشهيدُ يُحاصرُني كُلَّما عِشْتُ يوماً جديداً
ويسألني: أَين كُنْت ؟
محمود درويش
"ظللت أهرب من الكلام عن هذه اللحظات، مثلما ظللت أهرب من لقاء عائلة أحمد فرحان، مثلما لا زلت أهرب من سؤاله الذي يحاصرني: أين كنت عني؟".
عبد المنعم منصور
الأكثر صخباً
الصورة التي عرف الناس بها الشهيد أحمد فرحان للمرة الأولى، هي ذاتها التي عرفوا بها العسكري عبد المنعم منصور للمرة الأولى. قبلها كانا مغمورين. وقبلها أيضاً لم يكن أحدهما يعرف الآخر إلا عبوراً. منذ تلك الصورة حضر كلاهما معاً بصخب، وصارا حضوراً واحداً. ليس اختياراً، أن حضور أحدهما يستلزم حضور الآخر ببداهة. صارا قرينين.
ربما من الصعب الجزم، أيها الصورة الأشهر في ثورة 14 فبراير، لكن تبقى هذه الصورة هي الأكثر صخباً ووجعاً وصعقاً. نقول الأكثر، بالقدر الذي جعل أجهزة إعلام الدولة الرسمية تنفي وقوعها في البحرين، وتنسبها إلى فلسطين، قبل أن يفضح كذبها وتزويرها اسم «مركز سترة الصحي» الظاهر في زوايا صور أخرى. الصورة نفسها استخدمت على يد جهات نزاع أخرى خارج حدود البحرين، قُدمت تارة على أنها ضحية النظام السوري، ومؤخراً.. المصري.
الصورة تظهر جثة شاب مفضوخ الرأس ببشاعة وحشية، محمول بين يدي شاب آخر في حال انهيار تام، يتقدم نحو مركز سترة الصحي وسط مجاميع من الناس المذهولة، يضرب بعضهم بيده على رأسه منصعقاً، ويلوّح بعضهم مفجوعاً، فيما تجمّد البعض مكانه فاتحاً عينه في الهواء أو الأرض، غير مستوعب لما يرى.
هذه الصورة التي صعقت العالم بوحشية ما وقع على جزيرة سترة على يد قوات درع الجزيرة في 15 مارس 2011، دفع منعم ثمنها باهظاً، ظل مطارداً بعد انتشارها قرابة شهرين ونصف حتى اعتقل في مايو 2011، ثم تمت محاكمته عسكرياً، وحكم بالسجن 3 سنوات قبل أن يتم الاكتفاء من تنفيذ الحكم بعام واحد، أفرج عنه في 12 مارس 2012 مع الطرد من الخدمة العسكرية، وما زال مطروداً من فرصة أية وظيفة أخرى.
عبدالمنعم عند قبر الشهيد احمد |
الهروب منه إليه
منذ خروجه من السجن ومنعم (31 عاماً) يهرب من الكلام الأصعب رغم تكرار ملاحقة «مرآة البحرين» له: "ليس لأني لا أريد الكلام، بل لأن لساني يُلجم كلما نويت الكلام". تخرج آهة مخنوقة ويشير لصدره: "لا أحد يعرف ماذا في قلبي".
عندما جلسنا إليه أخيراً، أدركنا «الأصعب» الذي بقى يلجم لسانه طوال هذه المدة. كان لقاءً متعباً ومرهقاً لمنعم، بذل جهداً استثنائياً كي يبقى قوياً ومتماسكاً وهو يستحضر اللحظات الأكثر ألماً. ولن نخفي، كان مجرد الاستماع لها، منهك لنا نحن أيضاً.
لقد اقتحم أحمد فرحان حياة منعم بلا تخطيط، وخلال لحظات صار جزءاً منها: "هو لا يغادرني، يلازمني في كل أوقاتي مثل قرين روحي، أشعر بروحه تتعهدني، تشاركني حالاتي وهمومي، يسمعني حين أشكوه، يخفف علي أصعب لحظاتي، لم أعد وحدي أبداً" يقول منعم.
يكمل: "عندما أُخلي سبيلي، كنت أريد التوجه لقبره مباشرة، لكن عندما رأيت أعداد السيارات التي احتشدت وراء السيارة التي كانت تقلني غيرت رأيي، كنت أريد أن أختلي بأحمد وحدي. أخذني أخي إلى البيت، وهناك كانت حشود الناس تنتظرني، قيل لي أن عائلة الشهيد جاءت وغادرت بعد أن تأخرت إجراءات الإفراج عني، كان احتفاء الناس يخجلني ويشعرني بالذنب، هذا الاحتفاء لست أنا من يستحقّه، أنا الذي لم أنصر أحمد ولم أحميه. شعرت بنفسي كمن يصعد على كتف غيره. كان ذلك هو كتف أحمد. كان هذا ما يؤلمني في الداخل رغم ابتسامتي المجاملة للناس. سرق أحمد حاستي بالناس حولي، لهذا حاولت الهروب من الاحتفاء سريعاً واعتذرت لهم بأن علي الذهاب للنيابة العامة، كان هذا صحيحاً، لكني كنت أريد الذهاب لقبر أحمد أولاً.
قال لي صديقي: لنذهب إلى بيت الشهيد للسلام على عائلته أولاً. آآه لقد حان وقت اللحظة التي بقيت أهرب منها. قبل اعتقالي عندما كنت مختفياً وصلني أن عائلة الشهيد تريد رؤيتي، لم يكن وضعي مناسباً حينها، لكن داخلي أيضاً كان يريد الهروب من هذا اللقاء، وفي السجن عرفت أنهم حاولوا زيارتي ولم يسمح لهم. كنت أخشى أن يسألني والد أحمد سؤالاً واحداً لا أستطيع الإجابة عليه: لماذا تركت ابني يموت وحيداً؟
كرر صديقي كلامه: ليس مناسباً أن لا تزور عائلة الشهيد. هززت رأسي مستجيباً. انطلقنا. وصلنا عند بيت أحمد، نزلتُ من السيارة، طرقت الجرس، فُتح الباب، كانت وراءه فاطمة أخت أحمد. هي أول من رأيت من العائلة. بهَتّ. خلت أنني أمام وجه أحمد مباشرة، لم أتمالك نفسي وركضت أدراجي إلى داخل السيارة، قلت لصديقي: لنذهب الآن لا أستطيع. كانت فاطمة التي يبدو أنها رأت في وجهي وجه أخيها أيضاً، تناديني بعبرتها: "تعال يا خلف جبدي"، أدرت وجهي كي لا أراها وهربت.
طلبت من صديقي أن يأخذني فوراً إلى قبر أحمد. لم أعد قادراً على الانتظار أكثر. وعدني أن يتركني معه لوحدي. دخلت المقبرة، كانت قدماي غير قادرتين على حمل جسدي، أنا الذي حملت جسد أحمد، أمشي الآن متعثراً إلى قبره. أريد أن أهرب منه إليه. شعرت بنار تحرق داخلي، امتزجت في داخلي ذاكرة يوم 15 مارس بالصور بالأصوات بالغليان بالغضب بالقهر بالشعور بالذنب. كان آخرها أقواها، ألقيت نفسي على قبره، حاولت البحث عن جسده بين تلك الرمال، تلمست زوايا القبر، كنت أود أن أحظى بفرصة لشد رأسه، لكن هيهات، اختفى جسده تحت الأرض وتركني، خاطبته بحرقتي: سامحني يا أحمد.. سامحني.. سامحني..
عدنا إلى البيت، وهناك كان والد أحمد في انتظاري، ما أطول هذا اليوم وأقساه، ما إن رأيته واقفاً أمامي حتى حضر كلّ أحمد دفعة واحدة، لم تعد هناك بقايا طاقة تمسك بقاياي، انهرت بالكامل عند قدم الحاج فرحان، وألقيت نفسي في حضنه، ولا أذكر ما حدث بعد ذلك، لم يعد وعيي حاضراً، وذاكرتي لا تستحضر.
حتى مارس 2011، كانت ذاكرة منعم حاضرة دائماً ونشطة، لا تخذله حتى عند التفاصيل الصغيرة، لم يكن بحاجة إلى حفظ أرقام هواتف أهله وأصدقائه، يحفظها عن ظهر قلب خلال وهلة. لكنها لم تعد اليوم كذلك: "صرت مبتلى بالنسيان، أمر مؤذ نفسياً لشخص كان يتباهى بذاكرته مثلي"، يكمل: "حتى مواعيدي اليومية صرت أحتاج من يذكرني بها. هناك مناطق مشوشة في ذاكرتي. حاولت مراراً أن أعصر ذهني لأتذكر كيف مرّت بعض اللحظات وكيف حدثت، لا أتمكن. تضررت ذاكرتي وأصيبت بخلل كبير. لا أعرف السبب، أهو قوة الحدث الذي مررت به، أم هي الحبوب المجهولة التي كانوا يجبرونني على ابتلاعها في سجن القلعة قبل نقلي إلى سجن الحوض الجاف".
وحملتُ فرحان
من أين تم انتشال جثمان أحمد؟ ومن قام بنقله؟ وكيف تمكن منعم من حمله؟ وكيف عاش هذه اللحظات؟
يلتقط منعم أنفاسه، ثم يقول:"عند محطة بترول سترة، كان الشباب يصرخون: قتلوووووووه قتلووووووه. كان ملقى وسط سحابات مسيلات الدموع والمواجهات. كنت أهم بإحضار سيارتي حينما ناداني أحدهم بأنه تم انتشال أحمد من قبل بعض الشباب ووضعوه في سيارته، وناداني لأركب معه في الخلف. لم أكن رأيت من أحمد حينها غير سقوطه لكني لم أر حجم إصابته. كان الشباب قد وضعوه في السيارة بوضع الجالس. دخلت ورأيته سليم الجسد مفتوح العينين، ظننته حياً ومصاباً بالشوزن فقط. وضعت يدي حول رقبته لاحتوائه ولم ألحظ أي شيء غير عادي". نتعجب!!. يعلّق منعم بحيرة: "الكثير من الأشياء التي سأقولها لا تفسير لها عندي. لكن هذا ما حدث".
يكمل: "سارت السيارة وسط الشوارع التي كانت مفروشة بالحجارة، كان رفيقاي يصرخان: قتلووووووه قتلوووووه.. وكنت أوبخهم: "ما بالكم أنتم الرجل لم يمت". كانوا في حالة هستيرية وسائق السيارة يقود بانفعال وأنا حانق عليهم: "خفف سرعتك يا..... ستؤذي الرجل". الطريق كانت متعثرة جداً بسبب المصدات والحجارة. كانت اللحظة التي لا يمكنني وصفها، هي عندما أدار صاحبي السيارة عند أحد المفترقات بقوة، فوقع رأس أحمد على رجلي!!". يصمت منعم. تستعر بداخله نار الذكرى. الدموع تصبغ جدار عينيه المحمّرتين. يلوذ بالصمت ونلوذ معه، بدا الموقف جليلاً، وانحنت الرؤوس للحظات حتى يهدأ.
بصوت مخنوق يتابع منعم: "كل وصف لهذه اللحظة هو عجز. دخلت في نوبة هستيريا كدت أفقد معها عقلي، لا أذكر أي تفاصيل لهذه اللحظة، استجمعت بعدها ما تبقى مني وصرخت: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولجأت إلى العباس الذي حضرت عندي صورة فضخ رأسه في واقعة كربلاء، طلبت منه أن يقويني".
"لا أعرف كم استغرقنا في الطريق، لكنها بدت لي مسافة ووقت طويلين جداً، وقفت السيارة عند المركز الصحي، وبقيت مكاني لا أقوى على الحركة، كنت أنتظر أن يأتي من يرفعه عني ويأخذه إلى المركز، لكن أحداً لم يفعل!!".
على غير عادة البحرينيين في تلقفهم الفوري للمصابين خلال أحداث 2011، والجري بهم سريعاً إلى داخل المستشفى، فإن أحداً من المتجمهرين، لم يحرّك ساكناً عند وصول جثمان أحمد فرحان: "تراكض الشباب نحو السيارة وفتحوا الباب، لكن، كلما تقدم أحدهم لانتشال أحمد ورأى رأسه، تراجع للوراء مذهولاً وهو يصرخ "الله أكبر" وراح يضرب على رأسه ويصفع على وجهه. تكرر المشهد قرابة 5 مرات ولا أحد يجرؤ على رفع أحمد. كانت الكاميرات تأتي وتصور والناس تأتي وتشاهد وتصرخ وتصيح وتبتعد، أزعجني ذلك كثيراً. شعرت بالغيرة أن يصبح رأس أحمد فرجة للكاميرات والناس. شعرت أنني المسؤول عن حفظ كرامته من أن تصير فرجة. لا أعرف كيف حدث هذا وليس لدي أي قدرة على التفسير!! لا أعرف كيف خرجت من السيارة بكلتا قدمي وأنا أحمل أحمد!! لو طُلب مني أن أعيد هذا المشهد لن أنجح، باختصار لأنني لا أعرف كيف فعلته"!!
نزل منعم حاملاً الشهيد وحده، وسار به في مشهد جنائزي مفجع وسط جموع مشلولة إلا من صراخها، يكمل منعم: "نزلت من السيارة في حال من الانهيار الكامل، في العادة لا أحب أن يرى دموعي أحد، لكن لحظتها لم أكن أشعر بأحد أو بشيء مما يدور حولي،بخطوات متهتكة وثقيلة، وكمن يجر خلفه أثقال من الحديد، مشيت نحو المركز الصحي، كانت مسافة قصيرة لكني خلتها طويلة جداً، بقيت أرجو في داخلي أن يأتي من يأخذه من بين يدي، لكن أحداً لم يجرؤ، قرابة 3 دقائق كاملة (حسبما قدّره لي البعض لاحقاً) بقيت في هذا المشهد الذي تجمّد وبدا عمراً كاملاً،أخيراً تقدّم نحوي الممرض بمركز سترة «مدن عباس حسن» وحمله من يدي ودخل به إلى المركز. كأنها ساعة القيامة".
جسد فرحان
كان ملفتاً في الصورة «الأصخب»، جسد منعم القوي البنية، ربما ذلك مكنه من حمل جسد أحمد لفترة دون أن ترتخي يده أو تنهار. فقد كان منعم لاعب كرة قدم في نادي سترة الرياضي، ويمارس رياضة الجري والسباحة في البحر لمسافات طويلة، الرياضة جزء من برنامج منعم اليومي. كان هذا صحيحاً من جهة، لكن ليس من جهة ما يراه منعم.
لا يرى منعم أن قوته البدنية هي التي مكنته من حمل جسد أحمد لمدة دقائق هي الأطول والأصعب في حياته، يقول: "لم يكن للأمر حينها علاقة بقوة جسدي، بل له علاقة بأحمد، لم يكن لجسد أحمد حينها وزن في يدي، هذه ليست مبالغة أو مجاز، هي من جملة ما لا يمكنني تفسيره"!!
يلتقط منعم أنفاسه، يحمل بيده كوب القهوة الموضوع على الطاولة حيث نجلس معه، يقول: "هل رأيتم هذا الكوب، ربما يحمل وزناً أكثر من وزن أحمد حينها"، يكمل: "لم أكن أشعر أني أحمل وزناً حينها، ولا أعرف تفسيراً منطقياً لهذا، ولا أقدر على هذا الفعل مرة ثانية، صدقوني"، يستشهد: "عندما دعيتُ في العام الماضي خلال تأبين الشهيد أحمد لأداء مشهد تمثيلي رمزي، لم أكن قادراً على حمل الفتى الذي جسد دور الشهيد بسهولة، كان أمراً مرهقاً جداً لي أن أبقيه في يدي مدة دقيقة واحدة فقط حتى أسلمه للممرض مدن، لقد أتعبني جداً. لم أشعر بذلك إطلاقاً مع جسد أحمد فرحان!!".
عندما تسلّم الممرض مدن جسد الشهيد من يد منعم. لم يدخل منعم إلى المركز الصحي، ولم يقف في مكانه أكثر، غادر فوراً، "الشعور الذي سيطر علي حينها هو الرغبة في الثأر لأحمد، بدأ أحمد يحاصرني بسؤاله: أين كنت عني؟ اتجهت فوراً ناحية الشباب الذين كانوا لا يزالون يواجهون الجيوش والعساكر بشراسة الموت، صمدنا في المواجهة وقتاً، لكن لم تطل بنا كثيراً، فقد تمكنت القوات التي اكتسحت كل سترة من السيطرةعلى كامل المكان أرضاً وجواً، ولم يعد ممكناً لأحد الحركة".
المواجهة الاسطورية
يكرر منعم كثيراً، أن يوم سترة الطويل هو من الأيام التي لا توصف، بل تعاش، وأن من لم يعش هذا اليوم في سترة، لن يدرك منه غير خيال ناقص.
كانت المليشيات المدنية المسلحة التابعة للنظام (البلطجية) قد بدأت خطتها في الهجوم على مناطق البحرين منذ 13 مارس، هدفها حسر البحرينيين عن التواجد في الدوار وشغلهم بالدفاع عن مناطقهم. جزيرة سترة تمثل حالة خاصة بأعداد سكانها التي تقدر بــ75 ألف نسمة. كان شلّ سترة ومحاصرتها كافياً وحده لخلخلة أعداد المعتصمين في دوار اللولؤة بما يكفي لضربه.
يقول منعم "كانت وصلتنا أخبار أن سترة ستتعرض لهجمة، ظننا في البداية أنها ستكون من قبل البلطجية، قام شباب كل منطقة باغلاق مداخلهم لحمايتها".
لكن الأمر كان أكبر من هذا. عند الساعة الواحدة ظهراً بدأت أعداد مهولة من قوات الأمن تغزو سترة بأجيابها، وصلت إلى محطة بنزين سترة، وهناك خرج الشباب لمواجهتها والتصدي لها. يقول منعم: "قرابة ساعة ونصف، كانت المواجهات اسطورية من قبل الشباب. كان الشباب يشعرون أن تلك القوات ستجتاح بيوتهم لذلك استماتوا بشكل لا تراجع فيه، هذا الاستبسال غير المتوقع، جعل القوات تطلب مدداً إضافياً وعوناً".
تمكن الشباب من صد القوات من الزحف إلى الداخل، كانت قوات الأمن مزودة بآلياتها وأجيابها ومسيلات الدموع والرصاص الإنشطاري، مقابل شباب لا يملكون غير الحجارة. "خلت أن سترة خرجت عن بكرة شبابها"، يضيف منعم: "كانت الأمهات تدفع أبناءها للخروج لحماية سترة، وعندما يحضر مصاباً إلى أحد البيوت، يتم معالجته، وسرعان ما تقول له ربّة البيت: "يالله بس قوم ما فيك شي، ارجع للميدان". كان الحماس ملحمياً، لم يكن الأمر مقصوراً على الشباب، بل النساء والرجال، الصغار والكبار والشيوخ والامهات، لم يكن أحد يفكر في نفسه أو عائلته، بل حماية سترة من الاستباحة فقط".
"تمكن الشباب لفرط استنفارهم من إرجاع القوات من ناحية محطة البترول حتى جهة البنك الأهلي، هل يمكن لأحد أن يتخيل هذا؟ قوات مسلحة تفشل أمام شباب سلاحه أحجار الشارع؟! وهل يمكن تخيل أن المسافة بين قوات المرتزقة والشباب لم تكن تتجاوز 4 أمتار مع طلق متواصل بالشوزن ومسيلات الدموع والشباب في ثبات رهيب؟ وهل يمكن تخيل الشباب وبعضهم يصاب بالشوزن في وجهه وأنحاء متفرقة من جسده دون أن يتراجع؟ هل يمكن تخيل أن قوات المرتزقة هي التي تتراجع أمام صد الشباب وهجومهم الأعزل؟ نعم، كانوا يفرون من الشباب خوفاً. لا أحد يمكن له أن يتخيل هذه اللحظات ما لم يكن جزءاً من هذا المشهد. كان الشباب يتساقطون بضربات الشوزن التي كانت توجه من مسافات قريبة، يتم نقلهم على الفور، قرابة 300 إصابة وقعت في تلك الساعة ونصف، ومع هذا لم تتمكن القوات من التقدم".
دخول درع الجزيرة
يكمل منعم "كانت المرحلة الأصعب والأخطر، هي عندما وصلت قوات الدعم"، يردف: "وصلت قوات دعم خاصة، شاهدت منهم في الجهة التي كنت فيها قرابة 20 مسلحاً برفقة مروحية، لم يكن المسلحون يرتدون ثياب الأمن العام، بل ثياباً مدنية، ويضعون سترة صفراء مكتوب عليها "طوارئ"، وكانوا جميعهم مسلّحين بالشوزن. ولكوني عسكري أمكنني أن أميز طبيعة القوات الخاصة، وأميز أن ما يرتدونه هي أحذية جيش، لكنها ليست أحذية الجيش البحريني. من خلال بعض الكلمات التي سمعتها من بعضهم كانت لهجتهم سعودية. انقسموا إلى عدد من الفرق، ورافقت كل فرقة أعداد كبيرة من الأجياب وقوات الأمن، مع توجيه من الطائرة المروحية. كانت قوة الدعم هذه هي العلامة الفارقة في استباحة سترة والسيطرة عليها".
يضيف: "هذه القوة مختلفة تماماً، فعندما كان الشباب يلقون الحجارة على قوات الأمن، كانوا يتراجعون ويفرون، أما هؤلاء فلا يتحركون، كمن يلقي حجراً على جبل. يجرون بسرعة كبيرة جداً، يوجهون أسلحتهم نحو الشباب مباشرة وكل طلقة إصابة (قناصون). من جهة أخرى كانت المروحية تكشف تحركات الشباب وتوجه الفرق نحوها. في البداية تمكن الشباب من مواجهة القوات الخاصة عن طريق مباغتتهم من الأمام والخلف من عدّة منافذ ، استمر الأمر قرابة 45 دقيقة، وقد أرهق ذلك القوات الخاصة، لكن ما حدث هو أن المروحية تدخّلت بعد أن وجدت القوات بدأت تفقد سيطرتها، وقامت بإطلاق الرصاص على الساحة الواقعة خلف مسجد (بضويز) والمعروفة باسمه. هنا بدأ الشباب في التفرّق، ولجأ بعض الشباب إلى سياراتهم يحتمون بها من الرصاص، ويستخدمونها كمصدات لمنع تقدم القوات".
من قتل أحمد؟
كان هذا هو السؤال الأصعب على منعم، لم يجب به حتى على فاطمة أخت منعم وهي تكرر سؤالها له: هل رأيت قاتل أخي؟ هو السؤال الذي طالما هرب منه، ربما لأنه يستحضر سؤال أحمد له: أين كنت عني؟
أبقيناه للنهاية، لأننا نعلم أن منعم لن يكون قادراً بعده على أن يقول شيئا آخر. استأذن منعم لشرب سيجارة تساعده على الكلام، خرج لدقائق، وعاد طالباً فنجان قهوة آخر. تنفس عميقاً. قال سأتكلم دفعة واحدة فلا تقاطعوني، لن أستطيع العودة.
أطرق منعم رأسه للأرض، وعينه التي كانت تتجلّى في الوصف قبل قليل، انخفضت إلى الأرض أيضاً،وامتلأت بالماء، ولم ترتفع حتى أنهى الكلام..
"مات أحمد جبلاً بطلاً، مات أحمد وهم يحاولون حني ظهره للأرض دون أن يستطيعوا، قتلوه لأنهم لم يصمدوا أمام صلابة جبله الذي أرعب جيوشهم وقواتهم الخاصة، قتلوه لأنهم لم يتمكنوا من إسكات صوته الذي بقي حتى آخر لحظة يهتف فيهم "الله أكبر" ويصرخ مناديا "يا علي"، قتلوه لأن عنفوانه الأعزل عرّى سلاحهم البائس، قتلوه لأنه أخافهم من الداخل".
"كان أحمد من الذين لجأوا إلى سياراتهم في نهاية المطاف للاحتماء من الرصاص والعمل كمصدات للحماية، وجهت قوات الجيش طلقاتهم المباشرة على سيارته وحطموها، نزل أحمد من سيارته محاولاً الاستدارة فأطلقوا عليه رصاص الشوزن من مسافة أمتار أغرقت الجزء الأيمن من جسده، كان هذا هو ما أوقع أحمد على الأرض، قبلها كان جلموداً، هنا تحاوطته القوات المسلحة التي تلبس لباساً مدنياً وأحذية جيش غير بحريني. سحبوه إلى جانب محطة البنزين، وبدأوا يوجهون إليه الإهانات الطائفية المقيتة، لم يقبل أحمد الإهانة، كنا نسمع صوته ولا نراه لأنهم قد تحاوطوه وهو ملقى على الأرض، كلما ألقوا عليه من الكلام الهابط رد عليهم: "الله أكبر"، وكلما شتموا عقيدته ومذهبه ردّ عليهم: "يااا علييي"
"كنا نسمع ترددهم بين من يقول: اقتلوه، ومن يقول: اتركوه، كانت رصاصات الشوزن متأهبة للإنطلاق، استمر النقاش قرابة 5 دقائق كاملة، وصوت أحمد لا ينحنى ولا ينهزم، ثم رأيت أحدهم يحسم التردد الدائر بين المجموعة، دوّى صوت الرصاص، وغاب صوت أحمد".
- في الحلقة القادمة، منعم يحكي لنا عن تفاصيل الاعتقال والسجن: عندما شهد أن قاتل أحمد فرحان هو الجيش السعودي، وكيف حاولوا تقديم إغراءات له لتغيير شهادته.