البحرين وتاريخية الاندماج بين التعايش والتسامح
2014-03-02 - 2:36 ص
إيمان شمس الدين*
التعايش هي سمة بشرية؛ كون الإنسان بطبعه يحتاج للآخر، ليتبادل معه المنفعة والحياة، فهي قيمة أزلية فطرية لازمة للوجود الإنساني، وذاتية من ذاتياته.
ولكنها كي تخرج من القوة إلى الفعل، تحتاج مجموعة مقومات تبسط لها طريقها نحو الازدهار، لتتحقق ثمارها في الحياة، خاصة في المجال المعرفي والفكري، الذي ينعكس تنمية في الوجود الاجتماعي في كافة المجالات.
وإرادة التعايش، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، تتجلى في قمتها حينما تسلك طريق التعايش، رغم وعورة طريقه، وعدم توفر كافة مقوماته، وتعكس ثقافة وحضارة المريد لها، سواء كانت إرادة فرد أو مجتمع.
وكي نقيم المجتمعات أو الأفراد وفق قيمة التعايش كمعيار، علينا أن نفعل ذلك بعد استقراء الظروف المحيطة بهم، خاصة السياسية والاجتماعية، وما يحكم في محيطهم الجغرافي من أعراف وعادات وتقاليد، كي نستطيع تشخيص قيمة التعايش في تلك المجتمعات.
وكون البحرين دولة قديمة تاريخيًا، فقيمة التعايش في ذلك المجتمع هي قيمة متراكمة معرفيًا وسلوكيًا، تعكس خبرة وتجربة هذا المجتمع في إنفاذ هذه القيمة أو عدم إنفاذها، ويمكن من استقراء السلوك الاجتماعي تاريخيًا في التعايش بقياس إرادة التعايش لدى هذا المجتمع مع تطور الحياة السياسية واختلاف الأنظمة الحاكمة.
فتاريخ البحرين يعود إلى أكثر من 5000 عام، حينما كانت مركزًا لحضارة دلمون، وقد مرت بأحداث سياسية كثيرة، وتوالت عليها حكومات عديدة، ومن مشارب مختلفة، سواء من خلال الاستعمار، كالبرتغال وبريطانيا، أو من خلال النزاعات الداخلية بين القبائل المختلفة، كتميم وبني بكر والدواسر، أو بين الأمويين والعباسيين والأقوام الآخرين، كالفرس الساسانيين، لينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى العتوب بقيادة آل خليفة للسيطرة على البحرين.
ومن المعروف أن توالي وتنوع أنظمة الحكم وسياساتها ونظمها الاجتماعية في أي دولة، يراكم تجربة شعب تلك الدولة وخبرته، وينمي لديه حس التعايش والانفتاح على الأنماط الاجتماعية لتلك النظم السياسية، خاصة إذا ما عمد النظام الحاكم لتطويع المجتمع لأنماط اجتماعية معينة.
وباعتبار البحرين تاريخيًا مركزًا لتجارة اللؤلؤ، تعرف باسم تايلوس، فإن ذلك يهيئ أرضيتها للتعايش، كون الانفتاح التجاري بوابة للانفتاح الثقافي والاجتماعي على ثقافات مجتمعات أخرى، وهو ما يعمق قيمة التعايش في لا وعي الشعب البحريني، ليراكمه تاريخيًا كقيمة ذاتية في ثقافته التاريخية، وينقلها من القوة إلى الفعل كقناعة وأبجدية من أبجديات الشعب البحريني.
قيمة التعايش تلازمها قيمة التسامح، وهما قيمتان عرف بهما الشعب البحريني حتى في حاضرنا، وهما قيمتان جعلتا منه شعبًا مسالمًا لا عنفيًا، وهو ما تثبته تاريخية الحراكات المطلبية، التي كانت تضم كافة أطياف المجتمع البحريني مذهبيًا وأيديولوجيًا، وسياسيًا، وهو ما يعكس قيمتي التعايش والتسامح من جهة، ومن جهة أخرى غالبية ما رصد من الحراكات ثبتت سلميتها، إلا ما شذ وندر.
والحراك المطلبي الأخير، الذي انطلق في فبراير منذ ثلاث سنوات، يراكم ويثبت سلمية هذا الشعب وقيمه في التعايش والتسامح .
فرغم كل ما تقوم به السلطة في البحرين اليوم، من اعتقال وتعذيب وقتل وهدم للمقدسات، إلا أن الحراك المطلبي ما زال يثبت سلميته يومًا بعد يوم.
وقد لجأ النظام البحريني لمذهبة الحراك واتهامه بالتبعية للخارج، وهو ما نفاه تقرير بسيوني من جهة، وما ينفيه التاريخ من جهة أخرى، حيث رفض البحرانيون في، الاستفتاء الذي وزع عليهم، ضم البحرين إلى إيران، ليثبت عمق الانتماء والاستقلالية الذي يتصف به هذا الشعب الأصيل.
وطالما تعايش فيه أبناؤه بكافة مذاهبهم، وكان لهم فعاليات اجتماعية وثقافية مشتركة، غير ناظرة للانتماء المذهبي، بل ناظرة للانتماء إلى وطن اسمه البحرين يضم جميع البحرينيين تحت مظلته.
إلا أن النظام البحريني، وكعادة الأنظمة على مر التاريخ، خاصة الأنظمة القبلية، يلجأ للعصبة كسلوك اجتماعي قبلي، وللعصبية كطريقة تفكير، وكلاهما يعمدان لتقسيم الشعب لإثنيات مذهبية تعمق الهوة بين أبناء الوطن، حيث يحاول كسر إطار المواطنة الجامعة، التي من مقوماتها التعايش والتسامح، وإبدالها بإطار مذهبي قبلي، يقسم المجتمع لإثنيات متخاصمة، كون المحرك هو الدين والعقيدة، التي تلعب دورًا محوريًا في ثقافة الفرد والمجتمع ورسم منهجياته السلوكية.
ورغم كل تلك المحاولات من قبل النظام البحريني، وتجاوب شريحة لا بأس بها من البحرينيين معه، لتلاقي المصالح، إلا أن الشعب البحريني الأصيل ما زال يستحضر ثقافته التاريخية وما راكمه عقله عبر التاريخ، خاصة قيمتي التعايش والتسامح، من خلال سلوك الثوار في حراكهم المطلبي، وسلوك السياسيين والنخب والعلماء اجتماعيًا وسياسيًا في ترسيخ السلمية، والدفع باتجاه سياسة مد اليد لكل أطياف المجتمع من أبناء الوطن، وتكريس ثقافة المواطنة على ثقافة المذهب، وأي ثقافة تعمد لتقسيم هذا المجتمع الطيب.
وكمثال صارخ على سياسة النظام التقسيمية هي عملية التجنيس التي تقوم على أساس مذهبي، دون الالتفات للفروقات الثقافية والهوياتية بين من تجنسهم والشعب البحريني الأصيل، ومن المجنسين بأعداد كبيرة الدواسر، الذين كانوا يقطنون البحرين بشكل مستقل، وكانوا يومًا ما أعداء لآل خليفة، الذين اضطروهم للرحيل إلى الدمام والسكن فيها، واليوم يتم تناسي هذا العداء التاريخي، واستقدام الدواسر من الدمام لتجنيسهم، لتستحضر الروابط العصبية القبلية على أي روابط أخرى، فقط لإحداث تغيير ديموغرافي مذهبي يعمق من الانقسام الإثني الاجتماعي، ويميل بكفة مذهب على حساب آخر، ليمكن النظام من وجوده بشكل غير شرعي ديكتاتوري، ويحول الوطن إلى قبيلة ومذهب، والمواطنين لرعايا تابعين، يتم تقسيمهم وفق ولاءاتهم له، كالنظام القبلي تمامًا، وليس كمواطنين لهم حق الشراكة في الحكم وكمصدر لكل السلطات.
لكن التاريخ يثبت فشل كل محاولات التقسيم والتهجير التي قامت فيهاالحكومات المتوالية بحق البحرانيين، والتي أفشلها وعي البحرانيين، ونزعتهم الأصيلة والثقافية نحو التعايش والتسامح والاندماج في دولة حقيقية تحت مظلة المواطنة، وهو ما ينادي به يوميًا قيادات الحراك وشبابه وجمهوره، رغم كل الظلم الذي مورس ضدهم من النظام ومن أزلامه ومواليه.
وسيبقى الحراك المطلبي سلميًا، وبغطاء مطلبي، مظلته المواطنة، التي أساسها التعايش والتسامح والمساواة، وقوامها العدالة، وحدوده الوطن الجامع، والدولة المدنية القوية العادلة، لأنه الخلاص الوحيد لشعب صاحب حضارة وتاريخ نضالي طويل. وهو ما يعني الجمع بين السلمية والحزم في تحقيق كافة المطالب، وحفظ دماء الشهداء، وآهات المعتقلين، ونضالات الثوار.
* كاتبة كويتية.