» رأي
ما حدا عارف شي من شي
عادل مرزوق - 2011-07-12 - 9:52 ص
عادل مرزوق*
يستعرض الفنان اللبناني زياد الرحباني عبر مسرحيته "فيلم أمريكي طويل" حياة أكثر من سبعة مجانين في مستشفى للأمراض العقلية في قالب فكاهي ساخر. ولعل من أهم الشخصيات في هذه المسرحية التي تأتي كتعبير عن واقع الحرب الأهلية في لبنان شخصية أحد أساتذة العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الذي هو أيضاً ضيف على المصحة.
الحالة المرضية التي ركبت أستاذ العلوم السياسية أتت نتيجة لسؤال جارته له مساء كل يوم حال عودته من دروس الجامعة، كانت تسأله بصفته الخبير عن مآل الأوضاع في لبنان لتطلب رداً بسيطاً قوامه أن الحال تسير نحو تسوية أو المزيد من التعقيد، تسبب السؤال اليومي "بدها تروق وإلا تعلق" في إصابة الأستاذ بحاله مرضية، ذلك أنه كلما توقع أن تتحسن الأوضاع كانت تتعقد، وكلما توقع أن تتعقد كانت فرص التسوية تزداد، فاختار الأستاذ أخيراً أن يقول: "والله يا حجه، ما حدا عارف شي من شي!"، هنا يعلق الطبيب النفسي بالقول: "طبعاً، ما حدا عارف شي من شي"، وحينها يدخل الأستاذ في نوبه هستيرية ليصرخ: أنا مش عم اتهرب من الإجابة واتركنا من الحجه وسؤالها كل يوم، أنا فعلاً مو عارف شي من شي، وهذا ما بيصير يا دكتور أنا أستاذ علوم سياسية وما عارف شي من شي"!.
وكما تعقدت تفاصيل المشهد على أستاذ العلوم السياسية في مسرحية زياد، تتعقد اليوم تفصيل المشهد في البحرين منذ بدء إعلان حالة الطوارئ حتى اليوم، ومع سلسلة الإفراجات الأخيرة عن بعض المعتقلين وما سبقها من تشكيل لجنة تقصي الحقائق التابعة للديوان الملكي وقرار إعادة المفصولين الذي لا يزال معطلاً، لا تزال بوصلة التسوية تتحرك بالسرعة التي لا يمكن الوثوق بنتائجها واتجاهاتها، ولعدة اعتبارات. تراهن الأطراف على معادلات الداخل والخارج معاً، تعقد اطراف الداخل تسوية ما فترفضها القوى الإقليمية تارة، وتحاول القوى الإقليمية تمرير تسوية أخرى فتصطدم بخيارات الداخل تارة أخرى.
في البدء، لا يمكن لأحد أن يتجاوز ما للشارع البحريني اليوم من قوة وتأثير وقدرة على تحريك الأحداث وبما يتجاوز سقف السيطرة التي كانت الجمعيات السياسية تملكها على خيارات الشارع، وعلينا الإقرار إن ما اقترفته الدولة من تجاوزات وجرائم قد قلب معادلات ومراكز القوى في الشارع. قد يكون شارع المعارضة كله وفاقياً، وقد يتحول ليكون وعدياً ممثلاً في شخصية المناضل الوطني إبراهيم شريف ورمزيته الكبرى. لكن الشارع ذاته، وخصوصاً في حال فرض تسوية مجحفة لا تعيد له كرامته ولا تحقق له ما يأمله من إصلاحات، قد يضرب بجميع هذه الخيارات عرض الحائط ليكون في لحظة ما متشبثاً بالخيارات الأخرى، تبدو سيناريوهات تحول الشارع البحريني في هذه الأزمة مفتوحة خلاف ما كانت عليه في الحركة المطلبية في التسعينات.
اليوم وعلى الأرض وعلى سبيل المثال، لم يعد حسن مشيمع أميناً عاماً لحركة حق وحسب، بل عاد ليكون رمزاً لشارع المعارضة كله. تعرف الدولة - التي تصر على النظر للمعارضة كجسم واحد - هذه المفارقات بتكتيك تبادل المراكز، لكنه في حقيقته أكثر تعقيداً من ذلك، لقد وصل مستوى الوعي والنضوج السياسي في الشارع إلى ذلك الحد الذي أصبح فيه من يملك القرار، وليس لأحد – أي أحد – أن يمرر على الشارع اليوم ما يريد تحت أي غطاء، دينياً كان أو سياسياًَ.
هل تستطيع الوفاق تمرير تسوية ما تنتج من الحوار أو تحته، نعم ولا. نعم إن كانت التسوية حقيقية وتاريخية وتنقل البلاد لملكية دستورية تنهي معركة الوجود القائمة. ولا بالتأكيد، إن كان سقف التنازلات التي ستقدمها الوفاق على طاولة الحوار كبيراً، وهو ما يعني الدخول في عشرية جديدة من الوجع والألم والتسويف والتلاعب بمستقبل هذا البلد.
في السياق نفسه، لا تبدو الدولة ذاتها مرتاحة أو حرة في تقرير خياراتها وتسويتها الداخلية، فتدويل الملف أضر بسيادة الدولة أكثر مما أضر بالمعارضة وخياراتها، تحتاج الدولة اليوم لتمرر أي تسوية داخلية موافقة العواصم الخليجية التي وجدت نفسها في قلب الصراع الدائر في البحرين، بل ومسؤولة عنه. لم يعد الملك ملكاً، بل ممثلاً لسلسلة إمارات ومشيخات خليجية شريكة في القرار السياسي البحريني كاملاً، بل أصبحت هذه الإمارات والممالك والمشيخات معنية بكل التفاصيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
يضاف لذلك، إن شارع الموالاة الذي نجحت الدولة في تعبئته وتشويهه وتحويله لشارع متطرف يرفع علم القاعدة ويدعو للجنود الأمريكيين في قاعدة الجفير الذهاب للججيم، بات يهدد ويتوعد بشق عصا الطاعة على مؤسسة الحكم نفسها. وليست الخلافات داخل الأسرة الحاكمة وتهديدات وتلويحات شارع الموالاة التي تتوعد بتعديل ترتيب بيت الحكم في حال الذهاب لتسوية تاريخية مع المعارضة إلا دلالة أخرى على المأزق الذي وضعت الدولة نفسها فيه، لقد عبث فرع الخوالد من الأسرة الحاكمة في البحرين بسيادة الدولة واستقرارها وتطورها، وهم اليوم يمثلون خطراً على مؤسسة الحكم نفسها.
لا زلنا لم نستعرض تفاصيل المشهد الإقليمي وتداعيات ارتباط البحرين بالسعودية وإيران والعراق ولبنان وسوريا والولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة ولبنان. ولا زلنا لم نتطرق لتفاصيل أطياف المعارضة نفسها وسقوفها السياسية. والأولى بمؤسسة الحكم إن كانت تسمع للنصيحة، هو أن تذهب للقبول بانتخابات مجلس تأسيسي لإقرار دستور مملكة دستورية يكون الحكم فيها لآل خليفة بصلاحيات فاعلة ومقبولة، وأن تكون السلطات بيد الشعب كاملة. وخلاف ذلك، يبدو أن البحرين ستبقى في أزمة التسوية طويلاً، يوم "تروق" ويوم "تعلق"، و"ماحدا عارف شي من شي".
* كاتب بحريني