مواكب عاشوراء في البحرين: لا عزاء للدكتاتور
2013-11-11 - 3:56 م
مرآة البحرين (خاص): صرخة "هيهات منا الذلة" التي أطلقها الحسين بن علي، كانت الدرس الأول الذي توارثه المستضفون والثائرون من أجل الحرية والعدالة. لم تنفصل يوماً ثورة الحسين عما قامت من أجله: "طلب الإصلاح"، كذلك لم تنفصل ذكرى عاشوراء التي تتجدد كل عام، عن هذا الهدف يوماً.
البحرين، المشتعلة بالثورات والانتفاضات ضد النظام الاستبداي الحاكم، بقت تستمد من هذه الثورة ما يجدد عزيمتها ويقوي مواجهتها وصمودها. لهذا لا يخلو الاحتفاء بهذه المناسبة من استدعاء الوضع السياسي عبر المحاضرات والخطب والشعائر ومراثي العزاء، وهو ما يجعل النظام يضع يده على قلبه، لأنه يعلم أن كل كلمة تقال عن الفساد والظلم والطغيان والاستبداد، تشير إليه هو بعينه، بل إنها تتقصده شخصياً بلا مواربة. عاشوراء البحرين لم تتوقف عند كونها طقسا عقائديا تراجيديا، بل ارتبطت دوماً، بكونها ساحة مواجهة حقيقية مع النظام البحريني المستبد.
في هذا التقرير نحاول الوقوف عند عدد من المحطات لأحداث عاشورائية، نظهر فيها كيف يطغى الوضع السياسي على الموكب العزائي، وكيف يشكل ذلك مصدر إزعاج مستمر للسلطة، وكيف أخذ هذا المنبر دوره الحيوي في عتمة قانون أمن الدولة في الثمانينات والتسعينات، وكيف حاولت السلطة قمع هذا الحراك ومحاصرته وتحجيم دوره السياسي، ولا زالت تفعل.
حقبة السبعينات والمجلس الوطني
كان إسقاط عضوية الدكتور (عبد الهادي خلف) من المجلس الوطني في 74 موضوعاً للعزاء في منطقة (رأس رمان) وبعض مآتم المنامة في محرّم ذلك العام. يكتب (خلف) في سوق الجنّة المنشورة في صحيفة الوقت: "لم تكن السلطة موفقة في توقيت إعلان قراراها بإسقاط عضويتي من المجلس الوطني في فبراير/ شباط.1974 فلقد وفرت للناس مع بداية شهر محرم مساحة للاحتجاج على ذلك القرار. ومعلومٌ أن أغلب مواكب العزاء التي جابت شوارع المنامة وبعض القرى كانت تردد شيلات احتجاجية منها:
مال ميزان العدالة وفاز بالكرسي عميل..
من بعد سحب الثقة أصبح الكرسي هزيل
كذلك:
أول رسول لحسين بني أمية اغتالته..
وأول رسول للشعب العمالة شالته
يكمل خلف: "أتذكر بامتنان تلك الشيلات التي أعتبرها تثميناً لخيارٍ شاركتُ آخرين كثيرين في اتخاذه والالتزام به. إلا أن أهم ما أتذكره هو أنني تلقيتُ وقتها لقاحاً ضد الغرور أحسبه مازال فعالاً. ففي ليلة العاشر من محرم في تلك السنة خرجتُ مثل مئات الناس المتزاحمة في شارع الشيخ عبدالله بالقرب من منزلنا في المنامة لمتابعة مواكب العزاء. لم يكن ثمة موقع مرتفع أقف عليه لأشاهد ما يجري لولا أن تكرّم أحد الجيران بأن سمح لي بموقع قدم على عتبة دكان. فطالت قامتي بما يكفي لمتابعة مسيرة المعزين. تمر المواكب الواحد بعد الآخر منددة بطردي من المجلس ولا يهتم أحدٌ من آلاف المشاركين فيها حتى بالالتفات نحوي.
الأكثر، أن حضور هذه المواكب العزائية لم يكن الشيعة وحدهم، فقد كان في مقدمة عزاء (رأس رمان) المرحوم خالد الذوادي وعلي ربيعة وآخرون من نواب كتلة الشعب، وكان (خالد الذوادي) سنياً فاز في دائرة شيعية، و(محسن مرهون) شيعي فاز في دائرة القضيبية السنية، وكان (خلف) هو الناطق الرسمي باسم كتلة الشعب اليسارية.
حقبة الثمانينات
ارتبط الموكب العزائي في بداية الثمانينيات بطرح سياسي ثوري، نظرا لما كانت تمر به المنطقة من تحولات أهمها انتصار الثورة الإسلامية في إيران وما رافقها من مد ثوري وديني وانتفاضة شعبية عارمة، قوبلت بقمع مفرط من قبل النظام البحريني الذي وجد فيها تهديداً كبيراً لبقائه. في هذه الحقبة احتلت الثورة الايرانية وانتصار الامام الخميني صدارة قصائد العزاء، وتصدرت كلمات مثل (المستضعفين) و(المستكبرين) الخطابات والمراثي العزائية والأناشيد الثورية. كانت المواكب والمجالس الحسينية تمثل منابر إعلانية عن الموقف السياسي، في ظل عدم وجود منصات إعلام شعبية أخرى، وكان العزاء بمثابة مسيرات سياسية ضخمة ضد النظام المستكبر الذي يستولي على خيرات الشعب ويقمع كل تحركاته الاحتجاجية المطالبة بحقوقه المسلوبة والمهمّشة، وكان انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو الأمثولة التي أكدت قدرة الشعوب المستضعفة على الانتصار على أقوى الكيانات الاستبدادية.
على مستوى الرواديد، برزت أسماء ارتبط اسمها بالعزاء الثوري، وأخذت تستقطب حشوداً كبيرة من المعزين الذين يتعنون لها من كل مناطق البحرين. بعض أهم هذه الأسماء، هم الأخوة من عائلة سهوان: حسين ومهدي وجعفر سهوان من منطقة السنابس. تميز (حسين) بعدد كبير من القصائد الثورية حينها، لكن بقت قصيدة: "أمة الله أجيبي صرخة المستضعفين"، والتي أداها الإخوة الثلاثة في موكب عزاء السنابس في العام 1988، واحدة من أشهر القصائد التي بقت تتردد لسنوات طويلة كأقوى القصائد الثورية. جاء فيها:
أمة الله أجيبي صرخة المستضعفين
وارهبي المستكبرين وارهبي المستكبرين
انما المسلمُ لا يضعفهُ الــــــمستكبرون
والحنايا لهبٌ يثأرُ ينصـــــــبُ المنون
في العام 1988، أقدمت قوات الأمن على إزالة مظاهر السواد في منطقة البلاد القديم، مما استفز الأهالي للخروج والوقوف بوجه القوات المعتدية بهدف منعها. سرعان ماتحول الموقف الى اعتداء بالغازات الخانقة بقيادة الضابط السيئ الصيت (خالد الوزان). وعقاباً للمحتجين على تصديهم لقوات النظام، قام جهاز (أمن الدولة) باعتقال عدد من القائمين على هذه المواكب، وزجهم في قضايا سياسية مفبركة وحكم على بعضهم وأوقف آخرين سنوات عديدة.
وبشكل عام، فقد أسفر الوضع الثوري العام الذي ساد أجواء البلاد، عن حملة اعتقالات كبيرة وعدد من الشهداء والتضييق على مواكب العزاء والخطب والمحاضرات التي اصطبغت معظمها باللون الثوري.
مأتم الشهيد
هو أحد أهم نتاجات مرحلة الثمانينات الثورية بعد التضييق الشديد على مواكب العزاء الرسمية بعدم التعرض لأية قصائد سياسية. تأسس على أيدي شباب ينتمون لفكر ثوري، كانوا يخرجون من أزقة فريق المخارقة الضيقة بالمنامة ليمارسوا شعيرة دينية مصطبغة بنهم ثوري وحماسي. يعود تأسيس مأتم الشهيد إلي بداية الثمانينيات. أحد مؤسسيه هو الشهيد (جميل العلي) الذي قضى تحت سياط التعذيب بداية الثمانينيات، بعد استشاهده حمل هذا الموكب اسمه: مأتم الشهيد.
كان الموكب يحتشد بشكل سري وينطلق نحو مواكب العزاء الرسمية، وكانت قصائده الثورية والتي أُخذ قسم كبير منها من أناشيد الثورة الإيرانية تحظى بترديد كبير بين الجماهير. قدوم موكب عزاء مأتم الشهيد كان محطاً لانتظار الناس بقدر ما كان محطاً لترقبهم، فهو الموكب الشبابي الثوري، الذي يمثّل الحالة المتمردة للشخصية البحرانية التي لا تقبل الانكسار.
"يا ميدان الشهادة.. كلنا عندنا إرادة"، هي واحدة من (شيلات) مأتم الشهيد التي تمت استعادتها بعد ثورة 2011، خصوصاً مع ارتباط دوار اللؤلؤة باسم ميدان الشهداء.
أيضاً، قصيدة "فاز الشهيد"، كانت واحدة من أقوى القصائد التي حُفرت في ذاكرة الجيل الثمانيني، والتي تميّز بها مأتم الشهيد، وهي من ضمن القصائد التي أُعيد إحياؤها بقوة بعد ثورة 2011.
فازَ الشهــيدُ ونالَ العزَ والشرفا
ذكرى لهُ باقياً طولَ المدى وكفى
ذكرى يسجلُها التاريخُ ملحــــــمـــةً
فيها البطولاتُ يومَ الزحف ما رجفا
النفس قدمها لله طيعة
قد باعها واشترى بالجنة الغرفا
يكفي الشهيد بأن الله مادحه
في محكم الذكر مدحاً يملأ الصحفا
تمت ملاحقة الكثير من كوادر مأتم الشهيد ومنتسبيه رغم السرية الذي يحرص على الخروج بها، ورغم اختيار رواديد غير معروفين ليتمكنوا من حمايتهم وإخفائهم وسط مجموعة موثوقة من الشباب التي تعمل على تغطية الرادود بالكامل وإحاطته بعدد كبير من الأعلام. أحد كوادر هذا الموكب هو (جاسم المطوع) الذي قضى في حادث غامض ومشبوه، تم طمسه وتدوينه (ضد مجهول)، فيما يروي الناس أن دورية أمنية محسوبه على جهاز أمن الدولة كانت وراء مطاردة واغتيال الرادود الشهيد، وبقت الحادثة بكل تفاصيلها غامضة إلا من خيوط وبصمات أمن الدولة.
حقبة التسعينات
لم يتوقف موكب العزاء البحريني عند القضايا السياسية المحلية فقط، في التسعينيات طرح موكب العزاء البحريني قضية غزو الكويت واحتلالها في 1990، وكذلك حرب تحرير الكويت وصولاً الى الانتفاضة الشعبانية في العراق والمجازر الذي ارتكبتها قوات صدام حسين بقصف المراقد وقتل الإنسان العراقي إلى عملية السلام الذي رعتها الولايات المتحدة بعد حرب الكويت. كانت هذه القضايا حاضرة يعبر عنها في قصائد المواكب.
وبعد تفجّر انتفاضة 1994 واعتقال الشيخ علي سلمان إثر العريضة المطالبة بعودة الحياة البرلمانية، أخذ موكب العزاء دوره السياسي في الإعلام وطرح الشأن السياسي، مما أدى إلى تعرّض الكثير من الرواديد الى الاعتقال والتغييب سنوات، بعضهم بلا محكامات، بل حتى الشعراء أصحاب القصائد. حملة الاعتقالات في التسعينات شملت العديد من الرواديد بينهم مهدي سهوان، حسين سهوان، حسين الأكرف، عبد الجبار الدرازي، عبد الشهيد الثور، صالح الشيخ، عبد الأمير البلادي، صادق التوبلاني، جعفر إسلامي، صالح الدرازي، جعفر القشعمي، جعفر الدرازي، نزار الدرازي، وأبا ذر الحلواجي، وغيرهم.
وبسبب البطش الحديدي الذي استخدم لقمع الانتفاضة التسعينية وإخمادها، وعدد الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب أو القتل المباشر أو عبر طرق غامضة، كان "الشهداء" هم أبطال قصائد العزاء في تلك الفترة، وكانت القصائد تحاول تسكين النفوس الموجوعة التي ليس لها إلا الصبر والصمود. الشيخ الرادود حسين الأكرف، في واحدة من مرثياته الأشهر في التسعينات في مناسبة وفاة فاطمة الزهراء يقول:
سكني روع النفوس، وامسحي فوق الرؤوس، يا زهراء يا زهراء..
أينه دم الشهيد أينه سيف الأجل
ليس للسيف محلٌ بل الى الدم محل
فاكتبوها بالأضاحي فوق ساحات العمل
ان اسم الحب حرف في وجودي لم يزل
نقشنا بالجراح آية الموت العنيدة .. و فوق القبر قمنا انها روح جديدة
أما الرادود صالح الدرازي فكانت له قصيدة ثورية شهيرة "ثورة نحن من الأضلاع"، عدّد خلالها أسماء بعض شهداء التسعينات في البحرين في ذكرى وفاة السيدة فاطمة الزهراء.
فيما خصّ الدرازي "الشهيد" بمرثية أخرى:
شهيد .. عانق الحور و دم النصر في اتقاده
شهيد .. رسم الدرب من المنحر و الارادة
شهيد .. لم تزل حيا فطوبى لك بالشهادة
شهيد .. أنت في كل الشعور لم تزل قيادة
لم يقف الأمر عند اعتقال الرواديد والشعراء، بل وصل إلى الاعتداء مباشرة على مواكب العزاء، كما حدث في العام 1997 في قرية السنابس. تم مهاجمة موكب العزاء وقفل مأتم بن خميس، وعلى إثر هذا الاعتداء قُتل الشهيد عبد الزهراء إبراهيم بعد ضربه ضربا مبرحا من قبل قوات المرتزقة وسحله في الشارع، وقد فارق الحياة بعد يوم واحد من اعتقاله.
أحد معتقلي انتفاضة التسعينات يروي أن الجلاد (خالد الوزان) كان يردّد بعض الأبيات التي تُلقى في المواكب بينما هو يعذبهم، ويتباهى أمامهم أن باستطاعته أن يمحي موكب مأتم بن سلوم في غضون دقائق لو يأتي له الأمر من السلطات العليا.
انتفاضة اللؤلؤة 2011
شارك الرواديد في ثورة اللؤلؤة، وكانت منصة دوار اللؤلؤة مكاناً للقصائد المنددة ببطش النظام الذي واجه مطالب الشعب السلمية بيده الباطشه، ومندداً بالخميس الغادر الذي تمت فيه مهاجمة الدوار للمرة الأولى.. الرادود حسين الأكرف ألقى من فوق منصة الدوار قصيدة في 24 فبراير 2011 أشاد فيها بالشعب البحريني وأكد على وحدته وصموده وندّد ببطش السلطة وبدستور 2002، قال في مطلعها: شعب الله الشعب الصادق.. الميدان الشعب الصادق.. البحرين الشعب الصادق.
لهذا كان الموكب أول مستهدف بجانب هدم المساجد، وكان قانون الطوارئ الذي دخلت فيه البحرين بعد قمع المتواجدين في دوار اللؤلؤة في مارس 2011 يمنع خروج أو حتى فتح بعض المآتم في المناسبات الدينية، كما تعرضت عدة مآتم للاعتداءات وعدة مواكب للقمع بالغازات رغم انقضاء فترة السلامة الوطنية ذات الصيت المكارثي في البحرين، حدث ذلك مع عدد كبير من مواكب العزاء بينها قمع موكب عزاء منطقة سترة في يونيو 2011، وقمع عزاء منطقة الكورة، وقمع عزاء في أبوصيبع، وغيرها من المناطق.
ورغم اختلاف الحقبة بعد 2011 من حيث انفتاح الثورة على مختلف وسائل الاتصال والإعلام الداخلي والخارجي التي لم تكن متوفرة في حقبتي الثمانينات والتسعينات، إلا أن قصائد العزاء بقت على وفائها لقضاياها السياسية والمصيرية ودورها الإعلامي والثوري. بل أخذ الرواديد يتفننون في تنويع إصداراتهم الثورية رغم التهديد الذي يمثله ذلك على حياتهم. ففي 2011 شارك مجموعة من رواديد البحرين في إنشاد أوبريت باسم الثورة:
الثورة.. الثورة وهج وهج أطلقه نحر العطشان
الثورة.. الثورة نحر كالبركان
الثورة.. الثورة فكرة نصر كتبت عزاً ما أجلاه
الثورة.. الثورة وقفة حر لا يركع إلا لله
وتميز إصدار الرادود عبد الأمير البلادي لعام 2011 بقصيدة: شهادة
وتميز إصدار الرادود جعفر القشعمي بقصيدة: منصورين والناصر الله والتي أكد فيها أن "المواكب تظل ثورة على الطغيان".
أما الرادود مهدي سهوان، المعتقل والمحاكم بتهمة إهانة الملك، فقد ضمن إصداره للعام 2012 لعدد من القصائد الثورية بينها: من حقي التظاهر
وكانت للرادود عبد الأمير البلادي في 2012 قصيدة يخاطب فيها الطاغي المستبد: تريد من الشعب يركع.. وإحنا حسين يرفعنا
وروحه تجري مجرى الدم.. وجيشك ما يركعنا
تلك نماذج قليلة، تظهر جانب من الألوان الثورية والاحتجاجية التي تسيطر على حركة المواكب العزائية في البحرين، تتغيّر بعض شخوصها وأبطالها ومسمياتها بين حقبة وأخرى، لكن يبقى أن مواجهة النظام المستبد هو المشترك الوحيد في جميع هذه الحقب، وتبقى صرخة "هيهات منا الذلة" تصل بين جميع هذه المراحل، ويبقى محاربة الفساد والوصول إلى إصلاح وعدالة يقبلها الشعب، هو الحد الأدني الذي لن يتنازل عنه هذا الشعب.