وزير الداخلية السابق لنجادي: إما أن تسقط نصف قرضي أو أرسلك إلى الجحيم (2)
2013-11-03 - 6:13 م
مرآة البحرين (خاص): المصرفي البحريني حسين نجادي الذي اغتيل في ماليزيا قبل أشهر، كتب قصة حياته ونشرها عام 2012 في كتاب أسماه «البحر والتلال» The Sea and the Hills، وأسمى الباب الخاص بسرد هروبه الأخير فاراً بحياته وعذاباته بعد تجربته المريرة: «وداعاً جزيرة الشيطان».
«مرآة البحرين» قامت بترجمة الجزء الذي تناول فيه (نجادي) تفاصيل (القضية) التي أدت إلى سجنه ومحاصرته قبل هروبه (من الفصل 17 حتى20)، وذلك لما أثير حولها من أقاويل كثيرة ومتباينة. آثرنا أن ننقلها كما وثّقها صاحبها للتاريخ. بطل هذه (القضية) هو الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة وزير الداخلية حينها، وبطلها الآخر هو إيان هندرسون. لم يشأ (نجادي) أن يضع اسم الأول واستعاض عنه باسم مستعار (الشيخ طحنون)، ربما لأسباب أمنية، لكننا رأينا أن نثبت الاسم الحقيقي، فما بعد 14 فبراير، ليس كما قبله، وقضية (نجادي) مع وزير الداخلية السابق، لم تكن سراً.
في هذه الحلقة تطورات الأحداث التي حدثت بين الشيخ محمد آل خليفة وحسين نجادي، وكيف تم الانتقام منه بايداعه السجن حسب ما ورد في كتابه "لم أكن أعلم حينها أنني أحفر قبري بيدي، فوافقت على تحمل المسؤولية وإيصال الرسالة. وكتب مستشارنا القانوني، وهو محام يعمل في فرع مكتب نورتون روز في البحرين، رسالة يطلب فيها من الشيخ طحنون (محمد آل خليفة) تسديد القرض ويبلغه أن المصرف سيضطر لبيع ملكيته بالمزاد العلني في حال لم يفعل. طُبِعت الرسالة ووُقعت وسُلمت إليّ لأسلّمَها شخصياً للشيخ. وفي اليوم التالي، اتصلت بمكتبه ورتبنا موعداً لألقاه في القلعة. عندما دخلت كان مبتسماً ولطيفاً وقال "صديقي حسين، لم أرك منذ مدة فأنت كثير الأسفار بالطبع".
أجبته "نعم، كانت الأشهر القليلة المنصرمة عصيبة، فكما تعلم، نحن نحاول تأسيس فرع لنا في هونغ كونغ وكنت أحضر مؤتمرات في أوروبا". أكمل الشيخ: "يا لها من حياة! أفضل مصرفي في البحرين، أخبرني كيف أستطيع أن أساعدك فأنت رجل مشغول جداً، ولا شك أن زيارتك ليست فقط اجتماعية".
فقلت: "بالواقع يا شيخ طحنون، لقد جئتك برسالة من مجلس البنك العربي الآسيوي" وسلمته الرسالة. كانت في مغلف.
ردّ "آه!" بالكاد مبدياً دهشته "ما هذه الرسالة؟" مزّق المغلف، قرأ الرسالة واستشاط غضباً "ما هذا يا حسين ؟" كان غاضباً جداً ويكاد لا يصدق الأمر.
فرددت بهدوء واحترام "هذا القرض عالق منذ تسع سنوات والمجلس لا يطلب سوى التسديد"
"أجل ولكن ما هذه الصيغة، إن لم أدفع في غضون عشرة أيام سيتم عرض المبنى في المزاد العلني؟ إنها مزحة حتماً".
"لا، ليست مزحة فالمجلس جاد جداً، لقد انتظر المجلس تسع سنوات سيدي وسيولة مصرفنا في خطر بسبب هذا القرض. لا يمكن أن يستمر الحال على هذا المنوال"
سألني بغضب: "ماذا تقصد ؟ فأنت تملك المصرف وأنت مديره. و سيتم شطب القرض إن أمرتهم بذلك"
"كلا سيدي فالمصرف ليس ملكي وحدي، هناك عدة شركاء مساهمين، وإن لم تدفع القرض أو تتم جدولة الدفعات بشكل مقبول، فأخشى أن الأمر سيخرج من يدي وسينتهي بي المطاف في المحكمة أبيع مبناك بالمزاد العلني".
وقف وهزّ رأسه وقال " كيف تجرؤ أن تأتي إليّ برسالة كهذه وأن تتكلم معي بهذه الطريقة؟ لم يجرؤ أي بحريني أن يكلمني بهذه الطريقة قبل هذه اللحظة". اقترب مني وصاح: "من أنت لتَعرِضَ برجي الذي يحمل إسمي وفي بلدي في المزاد العلني؟ كيف تجرؤ أن توصلَ إليّ رسالة كهذه ؟ هل تظن أنك رئيس مجلس إدارة بارع ؟ لقد فقدت صوابك . إياك أن تنسى من أكون ومن تكون"
قلت محاولاً تهدئته: "سيدي، من فضلك استمع إليّ. يجب أن تدرك أنني فقط أقوم بواجبي كمدير تنفيذي للمصرف. فالمجلس برمّته ومراجع الحسابات طلبوا مني أن أقوم بهذه المهمة المزعجة وهي إيصال هذه الرسالة لسموكم. ولا تنسَ أنني من باب صداقتنا واحترامكم، نصحت المجلس بإعطائكم هذا القرض. لذلك من واجبي تبليغك قرار المجلس".
بعد أن شفى غليله قليلاً، هدأ الشيخ طحنون وقال إنه سيزورني في المصرف خلال سبعة أيام وبجعبته حلّ لمشكلة القرض.
نقلتُ كلمات الوزير حرفياً لمجلس الإدارة. وكان عليّ السفر مع صديقي طاهر عصام في اليوم التالي إلى الكويت للقاء بعض المسؤولين هناك. أشعرني وجوده معي بقدر من الأمان.
عصام واحد من أقدم وأقرب أصدقائي ليّ، وقد عرفته منذ 25 عاماً. عند وصولي إلى مكتب الهجرة والجوازات في المطار، حيث يعرفني الجميع لكثرة سفري، نظر إليّ الموظف الذي أخذ جواز سفري وقال " سيد نجادي، أخشى أنه لديّ أوامر بمصادرة جواز سفرك وعدم السماح لك بمغادرة البلد. لا يمكنك العبور سيدي".
سألت مندهشاً:"ماذا تعني؟ لمَ لا يمكنني السفر؟ من أعطى هذه الأوامر؟"
أجاب الموظف: "الشيخ طحنون، سيدي، من فضلك، عد إلى منزلك وإن كنت تريد إسترجاع جواز سفرك، تكلم مع الوزير".
أدركت عندها مدى الخطر الذي يُحدق بي، فأنا ممنوع من السفر، وقد تمت مصادرة جواز سفري. لذلك، فور وصولي للمنزل، هاتفت شركائي، الذين كانوا متواجدين خارج البحرين، في الكويت والسعودية وماليزيا وأطلعتهم على تفاصيل ما حصل، وطلبت عقد اجتماع استثنائي طارئ مع مجلس الإدارة وجميع المساهمين لمناقشة الوضع وللاحتجاج. وقلت لهم إنه يجب علينا الذهاب إلى محافظ مؤسسة نقد البحرين (الذي كان رئيس الوزراء أيضاً) ومحافظ المصرف المركزي البحريني عبدالله سيف للاحتجاج على السلوك الاستبدادي لذلك الوزير ذي المركز الرفيع.
وسرعان ما وصل شركائي بناء على رغبتي، وطلبنا مقابلة مع رئيس الوزراء (رئيس مجلس إدارة مؤسسة نقد البحرين) الذي رفض اللقاء بنا، وطلب منّا في رسالة بعثها أن نقابل محافظ المصرف المركزي البحريني عبد الله سيف، فقمنا بزيارته وشرحنا له بالتفصيل عن قرض الشيخ طحنون والذي لم يتم دفعه خلال تسع سنوات، وكذلك أخبرناه عن مقابلتي مع الوزير وعن مصادرة جواز سفري. وسألناه:" ما الذي يجب عليّ فعله شخصياً ؟ وما الذي يتوجب على المصرف فعله؟"
قال عبدالله سيف مبرراً: "الأمر ليس بيدي، أنا مجرد أداة. هذه معركة عمالقة، وأنا لا أملك القوة للمشاركة فيها، أنا نكرة. أنا صغير جداً لأفكر في الإنخراط فيها ولو كنت مكانك سأنتظر أن يقابلني الوزير كما وعد. لذا انتظر، لا تفعل شيئاً ولا تذهب لأي مكان. فقط. انتظر مكالمة الوزير".
خرجنا من المكتب خالي الوفاض وكنت بدأت أجد أن لا أحد مستعد لفعل أيّ شيء ضد الشيخ طحنون، قريب الحاكم الشيخ عيسى ورئيس الوزراء الشيخ خليفة.
سرعان ما تسرّب خبر مصادرة جواز سفري إلى المدينة وعلم جميع أصدقائي عن الخلاف بين الشيخ وصديقه القديم حسين نجادي، فلا مكان للأسرار في دولة صغيرة كالبحرين.
بعد ستة أيام، تلقينا اتصالاً من مكتب الوزير يبلغنا فيه أن الشيخ طحنون سيزورنا في الساعة الرابعة والنصف في مكتبنا في البنك العربي الآسيوي. كنّا جميعاً مستعدّين لهذا الإجتماع المهم. وصل الوزير يرافقه عبدالله سيف محافظ المصرف المركزي البحريني الذي سبق أن أوصلنا له شكوى منع سفري. جلسا وعرضت عليهما الشاي أو القهوة، لكنهما قالا أنهما لا يملكان الوقت لتناول أي شيء.
ثم قال عبدالله سيف: "أطلعني الشيخ على وضعه الحساس، وناقشنا المشكلة مطولاً وتوصلنا إلى ما نعتقد بأنه عرض تسوية جيد." فقلت: "هذه أخبار رائعة سيدي، نحن فرحون. أطلعنا من فضلك على هذا العرض، فكما ترون، جميع أعضاء مجلس الإدارة موجودون هنا، و نحن ننتظر لمعرفة قرارك".
قال محافظ المصرف المركزي البحريني: " يزيل مصرفكم الرهن عن البرج، وتقتطعون 50% من القرض فوراً. ويدفع الشيخ أربعة شيكات مؤجلة للسنوات الأربعة القادمة وبذلك يسدد مبلغ القرض المتبقي".
أجبته: "إن اقتطاع مبلغ كبير كهذا أمر يتجاوز سلطة أي منّا، وليس باستطاعة أحد غير المساهمين في البنك فعل ذلك. ويجب أن يوافق عليه مجلس الإدارة والمساهمون والمصرف المركزي في ماليزيا".
قال "أنا محافظ المصرف المركزي. ومن الواضح أنه قد سبق للمصرف الموافقة على هذا العرض. تستطيعون البدء بالإجراءات"
أعلم أنني كنت غاضباً، لكني لم أستطع السيطرة على نفسي ولم أكن أصدق ما أسمع، انتابتني موجة غضب كتلك التي انتابت الشيخ عندما سلّمته رسالة المجلس. قلت: "أنا آسف لكنني لست بمنصب يُخَوِّلُني اتخاذ تدبير إنتحاري كهذا بحق مجلس إدارة البنك ومعاقبة شركائي حتى لو طلب محافظ المصرف المركزي ذلك بنفسه".أجبته: "ولكن ماذا عن المساهمين؟ والبنك المركزي الماليزي؟ ماذا عن حقنا في قبول أو رفض الإقتطاع الكبير؟ إن كنا لا نستطيع ممارسة صلاحياتنا في هذا الأمر، وإن كنا عاجزين أن نمارس حقّنا في رهن مبنانا، فكيف نضمن حقّنا بقبض شيكات مؤجلة غير مضمونة لأربع سنوات من الآن؟ في الواقع، إن استخدام الشيكات المؤجلة ممنوع في نظام المصرف المركزي والقانون مُوَقّع من قبل حضرتك. لقد أمرتَ جميع المصارف في البحرين بما فيها المصارف الحرّة بعدم قبول أي شيكات مؤجّلة من أي زبون. وها أنت هنا الآن، جالسٌ مع سمو الشيخ طحنون، تطلب مني اقتطاع نصف قيمة القرض وإزالة الرهن والتخلي النهائي عن ملكية الشيكات".
فوقف الوزير غاضباً، محمرّ الوجه، وقال لي، بالعربية: "سأرسلك إلى الجحيم وبعدها ستقبل العرض، سترى ما سأفعله بك فأنت لا تعلم كم أنت عديم الأهمية".
وكأنها الكلمات نفسها التي قالها لي، منذ أربعة أشهر، رئيس المخابرات المرتزق إيان هندرسون: "لقد نسيت تماماً ما أنت عليه".
في عصر 22 نيسان/ أبريل سنة 1985، حاصر منزلي أربعة رجال شرطة من مخابرات الفرع الخاص لجهاز الأمن الوطني، التابعين لهندرسون. كانوا يرتدون زياً مدنياً، دخل اثنان منهم إلى منزلي وطلبا مني مرافقتهما إلى القلعة. كنت مُرغماً على الذهاب إلى مكان لم يسبق لي رؤيته في القلعة، احتجزاني في مكتب منعزل بدا لي كأنه أُفرِغَ للتّو، كان مكَيّفاً، ويحرسه شرطي وبجانبه غرفة مليئة برجال المخابرات. كانت هذه بداية سنوات سجني السبعة والنصف، سنوات أجبرني على قضائها الرجل عينه الذي ساعدته وجلت به في سنغافورة والذي أمّنتُ له التمويل لبناء البرج في المنطقة الديبلوماسية.
انتشر خبر سجني في المدينة بسرعة من دون أن يعرف أحد السبب. ولم يُسمَح لي بالتواصل مع أي شخص أو استقبال أحد فضلاً عن عدم السماح لي بالاتصال بأحد سواء بالهاتف أو عبر الرسائل. كنت في سجن إنفرادي. بموجب القانون، كان يحقّ لي أن أمثُل أمام المحكمة في غضون 48 ساعة لأحاكَم على جرمي. حرموني من هذا الحق رغم أن عائلتي وأصدقائي طالبوا، بوساطة المحامين، بإطلاق سراحي أو محاكمتي، في حين طلب مني المسؤولين في القلعة التوقيع على عدد من الأوراق قائلين إنه إذا وقّعت عليها سيطلق سراحي وإنه ليس لديهم شيء ضدي بل يريدونني أن أوقع على الأوراق فقط.
عندما سألتهم عن الأوراق لم يجيبوني، فقرأتها. كانت تحتوي على استقالتي من البنك العربي الآسيوي وتسليم أسهمي فيه للمصرف المركزي في البحرين بقيمة رمزية تساوي دولاراً.
قلت، وأنا أهز رأسي مستغرباً: "هذه مقايضة حقيقية، تتوقعون مني أن أتخلى عن مدخّراتي التي لا أملك غيرها وعن جميع أسهمي في البنك العربي الآسيوي التي تساوي حوالى 10% من قيمة رأس مال البنك. وتريدون أن أوقع على أوراق استقالتي من المصرف الذي بنيته من الصفر؟؟ ماذا تركتم لي ؟"
رد عليّ محاوري:"الأمر بسيط يا حسين، ماذا تختار مصرفك أو حريتك؟"
بالطبع، اخترت حريتي. ولكن قبل أن أوقّع، أخبروني أن الإجراء يجب أن يتمّ بوجود شاهد. وبعد أن تركوني بضع ساعات وحيدا،ً عادوا برفقة كلاوس بوتشي، المستشار السويسري الذي يمثل البنك السويسري المتحد في البحرين. ولا بد من لفت النظر إلى أن البنك السويسري المتحد هو مصرف سويسري فيه ملايين دولارات آل خليفة غير المشروعة المُودَعَة في فرعه في سويسرا.
سألته: "سيد بوتشي! ماذا تفعل هنا؟ كيف تورّطت في هذه الدراما؟"
أجابني بريبة: "طلبوا مني أن أكون شاهداً لأنك مقيم في سويسرا، ولديك شركات هناك".
فتابعت كلامي "هل تعي ما الذي تطلب مني القيام به؟ وعلى ماذا ستشهد؟ ستكون شاهداً على عمل غير قانوني في جميع أنظمة الدول وحتى في قانون البحرين، ناهيك عن قوانين سويسرا الديمقراطية"، وصحت بوجهه: "أتطلب مني أن أوقع هذه الأوراق في هذا المكان المُسَمّى "سجن" وبالإكراه؟"
لم يكن لديه شيء ليقوله. وما عساه يقول؟ بعد أن وقّعتُ الأوراق، أضاف توقيعَه كشاهد، ومرت الأيام من دون أن يتغير شيء، فالحكومة لم تنوِ أبداً منحي حريتي، بل كان الأمر برمّته خطة درسها ببراعة كلّ من المستشار البريطاني هندرسون وعائلة آل خليفة.
ومنذ وقت إعتقالي في 22 نيسان/ أبريل 1985 وحتى 5 كانون الثاني/ يناير 1986، بقيت مُحتَجَزاً في المكتب الصغير في القلعة. وعلى الرغم من أنه كان مريحاً، إلا أنّي كنت وحيداً، غير قادر على التواصل مع أي أحد، ولم يكن لدي ما أقوم به. وكان غياب التحفيز الفكري أمراً لا أقوى على تحمله. طلبت مراراً كتباً وصحف يومية، وعندما لم يُلَبّ طلبي، لجأت إلى الإضراب عن الطعام: لن آكل أو أشرب أي شيء لحين تزويدي بالصحف والكتب. وأعلم رئيسُ الشرطة الشيخ طحنون بإضرابي عن الطعام.
لم يحرك الشيخ طحنون ساكناً لثلاثة أيام. ولكن عندما أدرك في اليوم الرابع أن إضرابي جدّي، رقّ قلبه. وكان ذلك أول إنتصار لي. وأفرحني واقعاً أنني لم أقم بأي عمل خاطئ، بل حميت فقط أصول المصرف االتي يملكها مستثمرون ماليزيون وعرب.
على الرغم من رقابة الحكومة البحرينية المشددة على الصحافة، ظهر خبر سجني في الصحافة الإقليمية، وكتبت جريدَتَي وول ستريت الآسيوية وفايننشال تايمز عن قضية إعتقالي من دون محاكمة. مما أدّى إلى لوبي/ضغط محلي، إقليمي وعالمي متصاعد لمحاكمتي أو إطلاق سراحي، وكانت كل من عائلتي وأصدقائي المقربين وراء هذا الأمر. ولمواجهة هذا الضغط، قررت السلطات البحرينية في كانون الثاني/ يناير 1986 رفع قضية مُلفَّقة ضدي في المحكمة الجزائية، بحجة انتهاك الثقة وسوء إدارة أصول المصرف. وكان رئيس المحكمة الشيخ سلمان بن خليفة آل خليفة ابن عم رئيس الوزراء وسمو الشيخ الدائن. وكان يعاونه مستشاران أحدهما مصري والآخر سوداني. تم إبقاء قضيتي حية، ظلوا يماطلون بها لأكثر من سبع سنوات.
وبعد 5 كانون الثاني/ يناير 1986، رحّلوني إلى سجن جو المحصّن الذي يبعد 40 كلم عن العاصمة المنامة في جنوب البحرين. كان سجن جو السجن الرئيسي. ووجدت نفسي في زنزانة مع خمسة أشخاص آخرين.
سُجن عدد من زملائي بسبب معارضتهم للنظام الحاكم. لم أكن المُحتَجَز الوحيد. ولكن نقلي إلى هذا السجن كان ذو فائدة. على الأقل، بات لديّ رفقاء أتكلم معهم. بالإضافة إلى ذلك، تواصلت مع معتقلين سياسيين لامعين وبعض السجناء الآخرين لإنشاء مكتبة متواضعة. طلبنا الإذن من مسؤولي السجن للسّماح لعائلاتنا بالتبرع بالكتب. وسُمِحَ لنا بذلك. شرعت عائلتي بالتبرع وحذت حذوَها بقية العائلات.
بعدها، طلبنا قطعاً خشبية بسيطة لنجعل منها رفوفاً لمكتبتنا، واستغرق الأمر ثلاثة أشهر لإنهائها. وكانت نتيجة حملتنا جمع أكثر من 400 كتاب من عائلات المسجونين الثلاثمئة الذين كان 40% منهم مجرمين متشددين و20% منهم ناشطين سياسيين لا يملكون أدنى فكرة عن موعد إطلاق سراحهم وقد سُجنوا تحت ذريعة قانون أمن الدولة.
لا أحد يعلم موعد إطلاق سراحه، فقد يكون خلال أيام أو ربما خلال سنوات. كان هذه طبيعة النظام الذي تزعم الأمم الغربية أنه يهتم بحقوق الإنسان والمساواة والذي عيّنته ودعمته الدولة الديمقراطية العظمى بريطانيا، وتلتها في ذلك الولايات المتحدة.
بعد الإنتهاء من تجهيز المكتبة، لاحظت اهتمام عدد كبير من السجناء بتعلم اللغات فما كان مني إلا أن جمعت توقيعات الذين يريدون تعلم اللغتين العربية والإنكليزية، وحصلت على موافقة المسؤولين للبدء بتدريس هذه المواد.
كان في السجن نخبة من الكتاب المثقفين والموسيقيين والفنانين وعلماء التاريخ الذين وافقوا على التعليم. وتولّيت بنفسي تعليم اللغتين الإنكليزية والألمانية. علّمتُ أيضاً اللغة الفارسية بناء على طلب السجناء. استخدمنا قاعة المكتبة كصفّ وأُعطِيَت فيها الدروس، بعد التمرين والفطور، من الساعة الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءً. ومرت الأيام وأنا أمارس إما القراءة أو التعليم أو الرياضة في ساعة التمرين اليومية التي كنت ألعب فيها الكرة الطائرة أو كرة القدم. كنا نتمرن في ملعب كرة القدم المواجه للخليج العربي. لطالما قدّرت الوقت الذي أمضيه خارج جدران السجن، ومشاهدة البحر. كالعادة، كان للمياه أثرها المهدّئ في نفسي. أضف إلى ذلك أيضاً حبي للمطالعة (بما أنّي أملك كل الوقت الآن للقراءة) الذي ساهم بالحفاظ على سلامة عقلي.
عشت بهذه الرتابة إلى أن تم البت في قضيتي. وفي حزيران/ يونيو 1992، بعد سبع سنوات من المداولة، أصدرت المحكمة حكماً قضائياً ضد إرادة الحكومة، وأعلنت براءتي رغم جميع التهم "الملَفّقة". تسربت أخبار براءتي للصحافة في الخليج. وفرحت عائلتي والمتعاطفون معي في سويسرا والبحرين ً لأن سنوات عملهم الدؤوب أثمرت- أو هذا ما ظنّوه! وتجدر الإشارة إلى أن خسارة الحكومة في المحكمة كانت حدثاً لا سابق له فقد اتخذ القاضي قراراً شجاعاً بالحكم ضد عائلته الحاكمة، عائلة آل خليفة.
ولكن العائلة المالكة لم تكن لتقبل بالهزيمة بسهولة. فبدون أي رادع، اعتقلوني رسمياً باسم قانون أمن الدولة، وهو من مخلفات الحكم البريطاني المستعمر. كانوا يأملون أن يتعب الجميع، بعد بضع سنوات من النضال في معركة حسين نجادي الميؤوس منها، فينسون أمري، وتتلاشى قضيتي في الظلام.
رغم وضعي المتأزم، إلا أنّي لم أستسلم لليأس. زارني هايدي وباسكال (زوجته السويسرية وإبنه) في القلعة وألمحا لي بكلمات قليلة، أن هناك حركة عالمية تسعى لتحريري. فقد ذهب باسكال لرؤية صديقي القديم، المصرفي صاحب النفوذ في ميونيخ، د.هانز بيتر لينس، رئيس مجلس إدارة مصرف ولاية بافاريا (BLB) الذي كان سابقاً المدير الإداري للمصرف الألماني (Central Bank) في فرانكفوت، والمسؤول عن الشرق الأوسط. وبعدها استغاث باسكال بالدكتور بويل رئيس مصرف بوندسبنك (البنك المركزي) في فرانكفورت والذي التقيته عدة مرات في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في العاصمة واشنطن. وقد عرض د. بويل قضيتي على الفرع الألماني لمنظمة العفو الدولية ولم تذهب جهوده سدى.
وقد حصل د.بويل على الضوء الأخضر من مكتب المستشار كول ليكتب رسالة إلى رئيس وزراء البحرين يطالبه فيها بإطلاق سراحي. وقد سلّمه إياها سفر ألمانيا في البحرين في 15 أيلول/ سبتمبر 1992.
لاحقاً، وبعد إطلاق سراحي، أراني السفير نسخة من الرسالة. شرحت السلطات الألمانية أن الحكومة الألمانية قلقة عليّ. وتساءلت عن أسباب اعتقالي من دون أي أساس قانوني، مضيفين أن المحكمة البحرينية أعلنت براءتي وأنه ليس لدى الحكومة البحرينية أي دليل يبرر احتجازي بحجة قانون أمن الدولة. وكان واضحاً في الرسالة أنه لدى الألمانيين النية لطرح قضيتي أمام أعضاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المئة وأربعة وستين خلال اجتماعهم السنوي المقبل في العاصمة واشنطن في 22 أيلول/ سبتمبر 1992.
كانت التهديدات واضحة جداّ: إن لم يتم إطلاق سراح حسين نجادي بحلول ذلك التاريخ، ستتخذ الشركات المصرفية إجراءاتها.
في اليوم نفسه، جاء رئيس الشرطة وأطلق سراحي من سجن جو وأوصلني بنفسه قبل وقت الغداء إلى منزل قريبتي (رباب) في جزيرة المحرق. وحذرني رئيس الشرطة أنهم، رغم كوني حرّاً، سيستمرون بمراقبتي، حتى داخل منزلي. وقال لي: "انتبه سيد نجادي. انتبه لما ستقوله عنّا وعن العائلة الحاكمة وإيّاك أن تلقي خطباً أو تعقد اجتماعات أو تسبب مشاكل من أي نوع".
فرحت قريبتي رباب وزوجها محمد وأولادهما الأربعة برؤيتي. واتصلت (بهايدي وباسكال) في سويسرا لأطلعهما على نبأ إطلاق سراحي، فأتيا فور استطاعتهما إلى البحرين لرؤيتي وكذلك جاء أهلي الذين كانوا ما يزالون يسكنون في منزلهم الذي اشتريته لهم في شيراز. وكنت آنذاك محاطاّ بالمقربين مني.
ومع أن المخابرات أبقت دورية طوال اليوم أمام منزل (رباب)، لتذكيري وأهلي ورفاقي بعدم تجاوز حدودنا، لكني شعرت أن كابوس سجني الذي دام سبع سنوات قد انتهى. وأصبح بإمكاني بناء حياتي من جديد.
مع ذلك، ورغم تحرري من السجن، إلا أني بقيت في السجن الأكبر المُسَمّى: البحرين. لقد رفضت السلطات البحرينية تسليمي جواز سفري. لم يكن باستطاعتي مغادرة البلاد.
(1) مكتب نورتون روز: مكتب قانوني، يقع مركزه الرئيسي في لندن.