» تقارير
الكتابة على الجدران: مرآة البحرين
2011-06-10 - 7:46 ص
مرآة البحرين (خاص): مع بزوغ الأول من يونيو، امتلأت جدران قرية السّهلة بالشعارات المبشّرة بالعودة إلى ميدان اللؤلؤة، والتنديد بأحكام الإعدام وإجراءات السلطة. بعد ساعات، حضرت قوات الأمن المدجّجة بالسلاح، ومسحت كتابات المحتجين، وأرفقت بجانبها شعاراتها: "تسقط إيران المجوس"، "الموت لشباب السهلة"، "مبروك الإعدام" وغيرها. في اليوم التّالي، استيقظ الأهالي على شعارات احتجاجية جديدة، وعلى إيقاع كتابات أجهزة الأمن. استمرّ المشهد لأيام بين كرّ فرّ، ولكن على ساحات الجدران.
خلال الأيام الذّهبيّة لحركة 14 فبراير، لم تشهد جدران المناطق والقُرى في البحرين أية كتابات تُذكر للمعارضين. تبدو هذه الملاحظة غير ذي بال بالنسبة للكثيرين، ولكنّها في سياق المعارضات والثّورات العربيّة قد تحملُ أكثر من معنى.
قبل 14 فبراير كانت الجُدران مساحة مفتوحة للمحتجين، يكتبون عليها ما يظنونه ممنوعا عليهم في الإعلام المحلّي. اختلف الأمر من مرحلة لأخرى، وتعدّدت حولها الآراءُ و"الفتاوى"، وبين المعارضين أنفسهم. تنظيراتٌ عديدة تمّ إنتاجها في هذا المجال. البعض اعتبر الجدران "صحيفة الشّعب"، حيث لا مصادرة على الآراء ولا خوف من الرقباء. في مراحل الانفراج الأمني ومع بروز الجمعيات وإصدار نشراتها؛ وجد البعض الكتابة على الجدران عملا غير حضاري ينبغي الإقلاع عنه، ولجأ الرافضون للتنقيب عن فتاوٍ تؤيّد ذلك. لم يؤد ذلك إلا إلى مزيد من النقاش حول هذه الوسيلة، والبحث في المقابل عن مبررات شرعية وجدلية لبيان سلميتها والاضطرار لها.
وإذا كانت ظاهرة الكتابة السياسية على الجدران ليست خاصة بالبحرين، فإنّها في هذه البلاد الناشطة على الدّوام؛ ظلّت مؤشرا على طبيعة الحراك السياسي القائم ومستويات النّمو الاجتماعي والتعليمي للمواطنين ولأجهزة السلطة في نفس الوقت.
يتحدّد مستوى استخدام الجدران بحسب طبيعة المشهد السياسي العام. يمكن القوْل بأن أعلى صعود للكتابة على الجدران كان خلال انتفاضة التسعينات. كانت وقتها الوسيلة الوحيدة في الدّاخل للتفاهم مع السلطة وإيصال الرّسائل إليها. يروي ناشط في تلك الفترة أنّ "الخروج للكتابة آنذاك كان بحدّ ذاته عملية تحتاج إلى الإعداد اللازم". في حينه، اعتبرت "السلطة هذه الوسيلة بالغة الخطورة، وكانت تُوفّر قوات خاصة لمراقبة الجدران، وخاصة تلك المطلة على الشوارع العامة والرئيسية".
في تلك الفترة، اكتفت القوات بمحوّ الشعارات لتكون غير مقروءة. في البدايات، حيث الخبرة غير مكتملة، كانت تكتفي بإخفاء الشّعارات عبر استخدام نفس نوعية الأصباغ المستعملة في الكتابة، ولذلك كان من السّهولة تهجّي الشّعارات المخدوشة حتّى بعد الكتابة عليها. فيما بعد، استخدمت أجهزة الأمن نوعا آخر من الأصباغ، لمحو الكتابات كليةً. بدورهم، اعتبر المحتجّون الأمر مفيداً، إذ وفّرت الطريقة الجديدة مساحة بيضاء (سبّورة) معدّة للكتابة من جديد.
استمرّت أجهزة الأمن في استخدام الأصباغ الشديدة لمحو كتابات الجدران. في الأحداث التّالية لقمع اعتصام اللؤلؤة، أحى المحتجون مجدّدا هذه الوسيلة، ولكن بوتيرة محدودة وبحسب الحاجة الوظيفيّة.
تتبّع تسلسل الأحداث، يكشف أنّ قوات الأمن، وبعد عملية تطهير "الدّوار" مباشرةً، بدأت باستخدام الكتابة على الجدران. في البدء، كان يبدو الأمر عابرا، وشكلا من الاستفزاز المضاد. مع الوقت، تبيّن أن ثمّة أهدافا كان يُراد تحقيقها.
غير خافٍ أن السلطة لا تفتقر للإعلام لنشر روايتها الخاصة. لكنها أدركت أن ذلك غير كاف في حرب الإرادات. فإعلامها بقي متخلّفا، ولا يملك التأثير على الجمهور، وأصبحت موادها وبرامجها الإعلامية مدعاة للسّخرية والتّهكم. الطائفية المنتقاة في التلفزيون لم تكن كافية لإثارة الفتنة في الشّارع، فكان لجوء العناصر الأمنيّة إلى الكتابة. بدأ الأمر بالكتابة على الجدران الداخلية للبيوت أثناء اقتحامها واعتقال الأهالي. ثم امتدت على الجدران الخارجية، وفي مختلف الأماكن التي يتم الاعتداء عليها وتكون مسرحا للتظاهرات.
نقلت كتابات الأجهزة الأمنية المضمون العام لعقلية النظام حاليا. "أنصار عمر"، "عملاء إيران"، "أبناء المتعة"، "المجوس الخونة". تُفصح هذه العبارات عن التّكوين الطائفي الذي نشأت عليه القوّات المعتدية، وهو ما كشف مشاركة عناصر أمنيّة جديدة في قمع الاحتجاجات.
برغم التقييد التي تعرّضت له صحيفة الوسط، التي يجد المحتجون فيها بعض المتنفّس، إلا أنّ الجدران لم تشتعل كما كان الحال في انتفاضة التسعينات مثلا. "لا يعود الأمر لإحكام القوات السيطرة على الشّارع"، يعلّق أحد الصحافيين، بل لأن المحتّجين "كانوا مشغولين بوسائل أخرى للتعبير عن آرائهم، وكانت الجدران وسيلة ثانوية وليست رئيسية كما كانت في أحداث سابقة".
يحضر المحتجون بفاعلية في قنوات الاتصال الاجتماعي على الإنترنت، ويُلاحَظ أنّ مختلف مستويات المعارضين تتواجد فيها، وتتبادل خلالها الآراء، والتعبير عن المواقف إزاء كل حادثة أو قضية جديدة. قلّلَ ذلك من أعداد المشاركين أو الذين يجدون في أنفسهم رغبةً ملحّة للكتابة على الجدران، لتقتصر هذه الوسيلة فقط على الأحداث الهامة التي تتطلّب إظهار الحضور الفعلي وليس التعبير عن الرأي فحسب.
يمكن ملاحظة أنّ مختلف المناطق شهدت عشية الأول من يونيو، انتعاشا لافتا لهذه الظاهرة. كان يرُاد إيصال رسالة إلى السلطات تجمع بين عرْض الرأي، وإبراز القدرة على التواجد الحقيقي، وهي رسالة تنسجم مع شعار العودة إلى ميدان اللؤلؤة الذي رفعه المحتجون ذلك اليوم.
في ظل ذلك، لا يغيب التفاعل بين الميديا الإلكترونية والكتابة على الجدران، حيث تُقتبس العبارات والشعارات المكتوبة على الجدران من الواقع الافتراضي. بدورها، تستقبل المنتديات الإلكترونية اليوم الكتابات الجدارية بكثير من التأييد والإيجابيّة، وغابت نهائيا وجهات النظر المتحفّظة عليها سابقا، فنقاش من هذا القبيل في ظل الإجراءات القمعية للسلطة غير مجد وقد يعني التواطؤ معها.